أطلقت ريينـا زفرةً طويلةً من جديد.
لم تكن لتتوقّع، مهما كانت على درايةٍ بسوء حظّها القذر، أن تنتهي الأمور إلى هذا المنحى.
فالمواجهة الثلاثيّة المفاجئة بين ثلاثة أشخاص كان مقدّرًا لهم، قبل عودتها بالزمن، أي في المستقبل بمعايير الحاضر، أن يتشابكوا معها بعلاقات ملتبسة ومزعجة للغاية، انتهت ببساطة شديدة بكلمةٍ واحدةٍ ألقتها جين.
‘لقد مات شخص!’
‘اهدئي. هذا معبد. الموت هنا ليس أمرًا نادرًا…….’
لكن محاولة الكاهن تهدئتها قُطعت على الفور بكلماتها التالية.
‘إنّها جريمة قتل!’
بهذه الجملة وحدها، غرق بهو المعبد في صمتٍ خانق.
وكيف لا؟
فأن يموت شخص بعد فترة نقاهة طويلة في المعبد أمرٌ غير مستغرب، أمّا القتل، فذاك أمرٌ آخر تمامًا.
وبعد أن سقط البهو في فوضى صامتة، لم تمضِ فترةٌ طويلة حتّى غادرت جين المكان بصفتها شاهدةً على الحادثة.
وفي التوقيت ذاته، انتقل الشخصيّات الرفيعة التي كانت تزور المعبد إلى مكانٍ آخر لحضور مجريات هذه القضيّة.
وكان من البديهيّ أن تضمّ تلك الشخصيّات ريينـا، إلى جانب الأميرين إينار وسميث.
وهكذا، استقرّوا في غرفةٍ فسيحة أُعدّت في أحد أركان المعبد.
اتّكأ إينار على أريكةٍ موضوعةٍ بعيدًا قليلًا عن المركز، وأسند مرفقه إلى مسندها، واضعًا أصابعه على صدغه.
أمّا ريينـا وسميث، فلم يجلس أيٌّ منهما.
كانت ريينـا تقف متكئةً إلى أحد الجدران وذراعاها معقودتان، بينما وقف سميث على بُعد خطوةٍ واحدةٍ منها.
ذلك الصمت الثقيل الذي خيّم بينهم انكسر أخيرًا بصوت ريينـا الجافّ.
“كُفّ عن التحديق. ستُثقَب وجنتاي.”
مسحت الموضع الذي استقرّت عليه نظراته، من دون أن تنظر إليه.
“ليس الوقت مناسبًا الآن، لكن بعد أن تنتهي هذه المسألة.”
“لن يكون هناك ما يُقال حتّى بعد انتهائها.”
“قلتُها لك، سأفسخ الخطوبة.”
“ريينـا!”
ما إن خرجت كلمة فسخ الخطوبة من فمها حتّى سارع سميث بإلقاء نظرةٍ حذرة على إينار.
فآنسة آل بولشيك، التي لم تعد له وحده، كانت فريسةً ذات قيمةٍ هائلة، يطمع بها الجميع.
لذلك، كان عليه بأيّ ثمنٍ أن يمنع فسخ الخطوبة.
لا، بل حتّى لو حدث الفسخ، فلا بدّ من إعداد خطّةٍ مسبقة.
لكن، وعلى عكس توقّعات سميث، لم يُبدِ إينار أيّ اهتمامٍ يُذكر بأمر الخطوبة من الأساس.
في الحقيقة، كان لإينار اهتمامٌ بريينـا.
إلّا أنّ ذلك الاهتمام لم يكن بدافع استغلالها للإمساك بالسلطة، ولا للتحكّم بعائلتها الجبّارة.
“صاحب السمو، فسخ الخطوبة أمرٌ محسوم.”
“وماذا لو علم به سموّ الأمير الثاني قبل يومٍ واحد؟ هل سيحدث أمرٌ جلل؟”
“لكن فسخ الخطوبة لا يمكن أن……”
“أنتَ تعلم أنّ ذلك غير ممكن، أليس كذلك يا صاحب السمو؟”
لم تدارِ ريينـا كلماتها.
اختارت ألفاظها بدقّةٍ تامّة، كي لا يعلّق سميث بالحديث ويسحبه عبثًا.
“كانت خطوبةً رغبتُ بها أنا.”
“وبإمكاني فسخها.”
“وأنتَ تعلم أنّ دوق بولشيك يلبّي لي كلّ ما أريده.”
عجز سميث عن الردّ.
فهو، قبل أن يستوعب الصدمة التي نزلت عليه كالصاعقة، وجد الأمور تسير بعيدًا عن إرادته تمامًا.
ومع ذلك، وكما قالت ريينـا، لم يكن بوسعه فعل أيّ شيء.
هل قالَت اليوم أمرًا واحدًا يمكنه إنكاره؟
وبينما كانت تحدّق في وجه سميث المتلألئ بالمهانة والعجز والطمع، أطبقت عليه الضربة القاضية.
“بما أنّ فسخ الخطوبة رسميًّا يتطلّب إجراءات، فسأرفع الأمر مباشرةً إلى حضرة الإمبراطور.”
وبمجرّد أن أنهت حديثها، ظهر الكاهن المكلّف بمرافقتهم.
“لقد وصل المحقّق.”
“وأُمرنا بتفحّص الجثّة أوّلًا، ثمّ مرافقتكم إلى غرفة الاستجواب.”
انحنى الكاهن الشابّ بوجهٍ مشدودٍ من التوتّر، فتحرّك سميث أوّلًا.
فرغم أنّ مسألة ريينـا كانت الأهمّ، إلّا أنّه لا يستطيع إهمال ما يجري أمامه.
“أسرِع.”
لكن الكاهن تردّد ولم يتحرّك.
التوى وجه سميث وهو يلتفت إليه.
في حين لم تُبدِ ريينـا ولا إينار أيّ نيّةٍ للحركة.
“ما الذي تفعلونه؟”
تجاهل سميث إينار تمامًا، وأشار بعينيه إلى ريينـا وحدها.
فبقاء إينار في مكانه يصبّ في مصلحته.
ذلك السلوك الرخيص المكشوف جعل ريينـا تسلّ سُمًّا في قلبها تجاه ماضيها.
سوء حظّي لم يكن وحده القذر… حتى نظرتي للناس كانت كذلك.
وقبل أن يتكلّم سميث مجدّدًا، سبقتْه ريينـا.
“وهل هناك داعٍ لرؤية الجثّة أصلًا؟”
“المحقّق سيتكفّل بالأمر.”
“لكن توحيد الجهود سيُسهم في حلّ هذه القضيّة الشنيعة بسرعة أكبر.”
هزّت ريينـا رأسها بملل.
“ربّما تسعى، يا صاحب السمو، إلى مجدٍ بحلّ جريمة قتلٍ نادرة كهذه داخل معبد.”
“أمّا أنا، فلا حاجة لي بتلك الشهرة.”
لو كان الأمر قبل عودتها بالزمن، لاندفعت إلى القضيّة أكثر من سميث نفسه.
لكنّ ذلك لم يعد يهمّ الآن.
فلا المجد، ولا الألقاب، تعني لها شيئًا.
قالت ببرودٍ قاسٍ وهي تفضح طموحه بلا رحمة:
“فلستُ أسعى لأن أكون ولية عهد، بعد كلّ شيء.”
“ريينـا!”
“كفّ عن مناداتي باسمي.”
“حتّى كلاب الحيّ تُنادى بصوت أخفض من ذلك.”
“قلتُ لك أن تناديني آنسة بولشيك.”
“سأناديكِ ريينـا.”
“هذا وقاحة.”
وقبل أن يضيف شيئًا، قاطعه إينار.
“حسنًا. لنذهب.”
قرارٌ مفاجئ.
سخر سميث منه فورًا:
“ومنذ متى تهتمّ بأمرٍ كهذا؟”
“لا تقلق.”
“إن حللتُ القضيّة، سأترك الفضل لك.”
ثمّ أضاف مبتسمًا:
“كما قالت هي.”
“إينار!”
لكن إينار لم يلتفت إليه، بل توجّه بنظره إلى ريينـا.
“تعالي معنا.”
“قلتُ إنّ……”
“ليس للأمر علاقة بالشهرة.
“هناك ما أريد التأكّد منه.”
“أنتَ؟”
“نعم.”
“وأظنّ أنّ لديكِ أنتِ أيضًا ما تريدين التحقّق منه.”
صمتت ريينـا.
كان ذلك صحيحًا.
فما حدث قبل الحادثة يثير تساؤلاتٍ كثيرة.
“إذًا؟”
أومأت برأسها.
“حسنًا.”
كان من الأفضل اتّباعه، بدل البقاء مع سميث أكثر.
شدّ سميث وجهه بغضبٍ داكن.
“أنتما… لا تقولوا إنّ……”
لكنّ ريينـا لم تُجب.
ولا حاولت شرح شيء.
ثمّ غادرت الغرفة مع إينار.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"