Chapters
Comments
- 5 - حنين ؟ منذ يومين
- 4 - خيبة منذ يومين
- 3 - تآكل منذ يومين
- 2 - ملامح لا تُدان منذ يومين
- 1 - بيت بلا صدى منذ 3 أيام
عرض المزيد
رجل بلا فراغات
لم يتغيّر شيء بعد رحيلها.
وهذا ما كان يقلقه أكثر من أي تغيير.
استيقظ في السادسة صباحًا، كما يفعل دائمًا. لم يحتج إلى منبّه. جسده تعلّم النظام قبل أن يتعلّم الراحة. فتح عينيه دون تردّد، نهض من السرير المرتّب بدقّة عسكرية، ووقف للحظة ينظر إلى الغرفة.
لم يكن يبحث عنها.
توقّف عن البحث منذ اليوم الثالث.
الفراغ لا يُفتَّش عنه…
إما أن تتعلّم العيش معه، أو يبتلعك.
دخل الحمّام، اغتسل بالماء البارد، كما اعتاد منذ سنوات. لم يكن يفعل ذلك ليشعر بشيء، بل ليضمن ألّا يشعر بشيء أكثر من اللازم. انعكست صورته في المرآة: ملامح ثابتة، عينان لا تفضحان شيئًا، وجه لا يحمل آثار السهر أو الانكسار.
قالوا عنه كثيرًا إنه لا يتأثر.
لم يعرفوا كم كان يتقن الإخفاء.
ارتدى بدلته الداكنة، اختار ربطة عنق بلا لون صارخ، لأن الألوان لا تخدمه. تناول قهوته واقفًا، دون سكر. لم يكن يحب الطعم، لكنه يحب الوظيفة.
خرج من الشقة في السابعة تمامًا.
السيارة السوداء كانت بانتظاره، كما كل صباح. السائق لم يتحدث، لم يُلقِ تحية زائدة. الجميع تعلّموا أن الصمت حوله هو الشكل الأمثل للاحترام.
في الطريق، مرّ بجانب المدينة التي لم ينتمِ إليها يومًا. مبانٍ شاهقة، شوارع نظيفة، واجهات زجاجية تعكس صورته دون أن تعكس داخله. كان جزءًا من هذا العالم، لكنه لم يشعر يومًا أنه ينتمي إليه.
عند الثامنة إلا خمس دقائق، وصل إلى مقرّ الشركة.
مبنى ضخم، واجهة زجاجية باردة، يحمل اسمه في الأعلى.
اسمه الذي صنعه بنفسه، بعد أن خرج من العدم.
حين دخل، تغيّر الهواء.
الخطوات خفّت، الأصوات انخفضت، الهمسات توقّفت.
ليس لأنه صرخ يومًا، بل لأنه لم يحتج إلى ذلك.
كان الناس يرونه رجلًا لا يُقرأ.
وهذا أخطر من الغضب.
— صباح الخير، قال الحارس.
أومأ له دون أن يتوقف.
في الطابق الأعلى، كانت السكرتيرة بانتظاره.
اسمها نورا. امرأة في أواخر الثلاثينيات، دقيقة، ذكية، لا تطرح أسئلة غير مطلوبة. اختارها بنفسه بعد أن لاحظ أنها لا تحاول أن “تفهمه”.
وهذا ما أعجبه.
— جدول اليوم جاهز، قالت وهي تسير خلفه بخطوات متزنة.
— أرسلِ العقود إلى مكتبي.
— تم. وهناك اجتماع طارئ لمجلس الإدارة.
— أضيفيه بعد الظهر.
توقفت للحظة، ثم قالت بحذر مهني:
— الصحافة ما زالت تطلب تعليقًا.
توقف أمام باب مكتبه.
— لا تعليق.
كانت الجملة كافية.
لم تسأل عن أي قضية.
دخل مكتبه.
غرفة واسعة، مرتّبة، بلا صور شخصية، بلا تفاصيل حميمة. مكتب خشبي داكن، شاشة كبيرة، نافذة تطل على المدينة. مكان يُشبهه تمامًا.
جلس.
فتح الملفات.
أرقام، استثمارات، قرارات مصيرية.
هنا… كان في أمان.
العمل لا يسألك كيف تشعر.
العمل لا ينتظرك أن تفتح قلبك.
في الاجتماعات، كان حضوره طاغيًا دون جهد.
لم يرفع صوته.
لم يلوّح بيده.
لكن الجميع كانوا يصغون.
قال أحدهم مرة، همسًا:
— هذا الرجل لا يبتسم… وكأن الابتسامة ترف لا يحتاجه.
وقال آخر:
— لا أعرف إن كان عبقريًا أم مريضًا.
لم يهتم.
الناس يحبون وضع التسميات على ما لا يفهمونه.
بعد الظهر، مرّ أحد المدراء وقال بنبرة مترددة:
— سيدي… هناك من يقول إنك بلا رحمة في القرارات الأخيرة.
رفع نظره ببطء.
— الرحمة لا تُقاس بالأرقام، قال بهدوء. النتائج هي ما يبقي الشركة حيّة.
لم يكن يكذب.
لكنه لم يكن يقول كل الحقيقة.
في وقت الغداء، لم يخرج مع أحد.
تناول وجبته في مكتبه، وحده.
في السابق، كانت تجلس مقابله أحيانًا.
لا تتحدث كثيرًا.
كانت تكتفي بأن تسأله إن كان قد أكل.
سؤال بسيط.
لكنه لم يأتِ اليوم.
تجاهله.
في المساء، عندما غادر الشركة، كان التعب جسديًا فقط.
العقل ما زال يعمل.
القلب… لم يكن ضمن المعادلة.
ركب السيارة. نظر من النافذة.
كان الجميع يرونه رجلًا وصل إلى القمة.
ناجٍ من ماضٍ مظلم.
قوي. لا يُكسر.
لم يعرفوا أن بعض الناجين لا يخرجون سالمين…
بل فقط أحياء.
عند عودته إلى المنزل، خلع معطفه، وضع مفاتيحه في مكانها، جلس على الأريكة.
الصمت كان كما تركه.
وفيه شيء جديد.
فتح درجًا لم يفتحه منذ فترة.
وجد عقد الزواج.
لم يمزّقه.
لم يحتفظ به لذكرى.
كان هناك فقط.
كما كانت هي.
تذكّر كيف كان الناس ينظرون إليهما:
زواج مصالح.
تحالف عائلي.
صفقة نظيفة.
لم يعرفوا أنها كانت الشيء الوحيد غير الصافي في حياته.
الشيء الوحيد الذي لم يكن محسوبًا.
أغلق الدرج.
وقف قرب النافذة، نظر إلى المدينة المضيئة.
قالوا عنه إنه لا يشعر.
لكن لو كانوا محقّين…
لماذا كان الفراغ يأخذ شكلها؟
لم يكن حزينًا.
لم يكن نادمًا.
كان فقط… ناقصًا .
وهذا أخطر من الألم.
جلس في الظلام، دون أن يشعل الضوء.
ترك اليوم ينتهي كما بدأ: بلا ضجيج.
وغدًا، سيعود إلى عمله …إلى النظام …إلى الدور الذي أتقنه.
رجل قوي.
ناجح.
لا يحتاج أحدًا.
على الأقل…
هذا ما يراه الجميع.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 2"