1
الفصل الأوّل
بعد الرحيل
لم يكن البيت فارغًا.
كان كاملًا… كاملًا إلى حدٍّ خانق.
الأثاث في مكانه، الجدران ثابتة، الأرضيّة نظيفة، وكلّ شيء يؤدي وظيفته كما يجب.
لكن الصمت كان حاضرًا بكثافة، صمتًا لا يشبه الراحة، بل يشبه الانتظار الذي طال أكثر مما ينبغي.
الضوء تسلّل من النافذة كما يفعل كل صباح، بنفس الزاوية، بنفس البرودة.
الساعة على الجدار كانت تدقّ بانتظام، دقيقةً بعد أخرى، وكأنّها تذكّره بأن الزمن لم يتوقّف احترامًا لشيء فقده.
شيء واحد فقط كان ناقصًا.
لكن غيابه كان أثقل من كلّ ما بقي.
“هي”!
وقف عند منتصف الصالة، معطفه ما يزال فوق كتفيه، لم يخلعه، لم يعلّقه، لم يفكّر بذلك أصلًا.
كأنّ جسده لم يتلقَّ الخبر بعد، كأنّ جزءًا منه ما زال يتوقّع أن يسمع وقع خطواتها من الغرفة، أو صوتها تناديه دون سبب.
لم يركض خلفها.
لم ينادِ اسمها.
لم يسأل لماذا.
حين أغلقت الباب، كان الصوت خافتًا، مهذّبًا، يشبه اعتذارًا لم يُنطق, لم يمدّ يده ليمنعها. لم يقل «انتظري».
لم يفعل شيئًا. كما يفعل دائمًا.
اقترب من الطاولة الصغيرة قرب النافذة …هناك تركت فنجانها, نصفه ممتلئ, لم تُكمله, حدّق فيه طويلًا,مدّ يده، ثم توقّف في منتصف الحركة.
سحبها ببطء، وكأنّ لمس الفنجان سيجعل الغياب أكثر واقعية، أكثر نهائية.
قالوا له يومًا إن البرود قوّة.
وصدّقهم.
قالوا إن السيطرة على المشاعر دليل نضج.
وصدّقهم.
لكن لا أحد أخبره أن القوّة لا تحميك من الفراغ ولا أحد أخبره أن أكثر الأشياء فتكًا… هي تلك التي لا تُشعِرك بشيء فورًا.
جلس على الأريكة التي لم يكن يحبّها…لم يخترها يومًا، لكنها كانت تجلس عليها دائمًا.قريبة من الضوء، بعيدة عن الحائط، مكشوفة ولم يكن يحبّ الأماكن المكشوفة.
تعلّم منذ الصغر أن الظهور خطأ، أن الانكشاف ضعف، وأن من يُرى كثيرًا… يُصاب أولًا.
مرّت صورها أمامه دون ترتيب، دون منطق، دون إذن:
وجهها حين كانت تصغي له، لا لتردّ، بل لتفهم.
يدها وهي ترتّب الأوراق قبل الجلسات، حتى تلك التي لا تخصّها.
نظرتها حين كان يصمت طويلًا، وكأنّها تنتظر كلمة يعرف أنها لن تأتي.
صمتها حين كان يجرح دون أن يرفع صوته.
لم يصرخ يومًا, لم ينفعل, لم يغضب بالطريقة التي تُغضِب … ولم يعتذر.
كان يظنّ أن عدم الأذى كافٍ.
لم يفهم أن الصمت قد يكون أذىً من نوع آخر،أذىً لا يُرى، لكنه يتراكم ببطء.
حين خرج من السجن، كان الجميع يراقبه: الصحافة، الشركاء، الخصوم، أولئك الذين ينتظرون سقوطه من جديد.
لكنها وحدها… كانت تنظر إليه كأنّها تنتظر شيئًا لا تعرف اسمه وهو أيضًا لم يكن يعرفه.
قالت له ذات مساء، بصوت لم يحمل لومًا ولا طلبًا:
— «أحيانًا، أشعر أنّني أعيش مع جدار…قوي، نعم…لكنه لا يشعر بوجودي.»
لم يردّ.
لم يكن يعرف ماذا يُقال لجدار.
الآن فقط، وهو وحده، فهم أن الجدران لا تُترك, بل يُترك من يعيش خلفها.
نهض ببطء، وكأنّ الحركة نفسها تحتاج إذنًا واتّجه إلى الغرفة, السرير كان مرتّبًا بدقّة, جانبها فارغ، نظيف، خالٍ من أيّ فوضى متعمّدة.
لم تترك رسالة.
لم تترك شيئًا يُجبره على التذكّر.
هي لم تكن من النوع الذي يبتزّ الذاكرة.
كانت تعرف متى ترحل وكيف ترحل دون أن تجرح أكثر.
فتح الخزانة.
ملابسها لم تعد هناك.
الفراغ كان منظّمًا، مهذّبًا، وكأنّه كان يعرف أنّه سيأتي.
لم يشعر بشيء فورًا وذلك أخافه.
جلس على طرف السرير، نظر إلى الأرض.
شيء ما في صدره كان ضيّقًا، لكنه لم يكن ألمًا كما وصفوه في الكتب.
لم يكن حزنًا.
لم يكن غضبًا.
كان… غيابًا.
تذكّر الطبيب.
الأسئلة الدقيقة.
الملاحظات المكتوبة ببرود.
الكلمة التي حُبست معها حياته داخل تشخيص واحد:
سيكوباثي.
ابتسم بسخرية خفيفة.
لو كانوا على حق…
لما كان هذا الصمت يثقله.
لو كانوا على حق…
لما كان رحيل امرأة واحدة كافيًا ليجعله يشعر وكأنّ شيئًا داخله انكسر دون صوت.
لكن ما انكسر لم يكن صاخبًا.
لم يكن دراميًا.
كان دقيقًا، عميقًا، وغير مرئي.
نهض مرّة أخرى.
اتّجه إلى المكتب…ملفّات و عقود و أرقام…هذا العالم يفهمه.
هذا العالم لا يطلب منك أن تشعر.
جلس.
فتح الحاسوب.
حدّق في الشاشة دون أن يراها.
وللمرّة الأولى، خطر له سؤال لم يخطر من قبل:
ماذا لو كانت محقّة؟
ماذا لو كان الحب لا يكفي وحده؟
وماذا لو… كان قد أحبّها فعلًا،
لكنه لم يعرف كيف يبدو الحب حين يُعاش، لا حين يُحلَّل؟
أغلق الحاسوبو أطفأ الضوء وبقي واقفًا في الظلام.
لم يبكِ.
لم ينهَر.
لم يتغيّر شيء في ملامحه.
لكن في داخله، في مكان لم يُسمِّه يومًا،
بدأ شيء صغير يتحرّك.
شيء يشبه الإدراك المتأخّر.
شيء بطيء، ثقيل، ولا يمكن إيقافه.
شيء لن يفهمه كاملًا…
إلا بعد فوات الأوان.
Chapters
Comments
- 1 - بيت بلا صدى منذ 6 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 1"
حبيتتتتت
اظن انها زوجته وبعدها تطلقوا