حين أشارت اردين إلى الزهرة وسألت عنها، ارتسمت على وجه الكونتيسة ويكس ابتسامة صادقة لأول مرة.
«تلك زهرة الفاوانيا، يا صاحبة السمو.»
كان في إجابتها شيء من الفخر الغريب، غير أن اردين لم تجد ذلك مزعجًا.
حدّقت اردين في الزهرة بفضول، ثم لمست أوراقها الرقيقة بأطراف أصابعها برفق.
كانت ناعمة… وعطرة.
لكن ما إن مرّ وجه أركان في خاطرها حتى عقدت حاجبيها وتراجعت خطوة إلى الوراء.
«آه، يا صاحبة السمو، ما بكِ؟ هل هناك حشرة؟»
هرعت الكونتيسة إلى المزهرية تتفقد الزهور، لكنّها كانت نظيفة تمامًا.
عضّت اردين إصبعها الذي كان يلامس البتلات، ثم أدارت وجهها إلى الجانب.
«لا، مجرد شي مزعج مرّ في بالي.»
ثم تابعت جولتها خلف الكونتيسة، تمرّ عبر عدة قاعات استقبال، وغرف معيشة، وغرف دراسة خاصة، وغرف شاي، ومرافق، وهي تكبح تثاؤبًا كاد يفلت منها.
ما هذا المكان؟ أحتاج إلى خريطة لأعثر على طريقي.
كان القصر الذهبي لإمبراطورية هيرشستن لا يُضاهى في ضخامته، لكنه كان مستقيمًا ورتيبًا على نحوٍ يجعل من السهل المشي فيه. وربما كان السبب أيضًا أنها وُلدت وترعرعت هناك. لقد سمعت من معلمها أن عمارة المناطق الداخلية تختلف كثيرًا عن عمارة الإمبراطورية، لكنها لم تتخيل يومًا أنها قد تضل طريقها في قصرٍ كهذا.
وفجأة، وبينما كانت تصغي إلى شرح الكونتيسة بصبرٍ على رغم مللها، لمعت عينا اردين. فقد رأت زهرةً شفافة تلمع على خزانة طويلة وضيقة ذات أرجل نحيلة، بدت وكأنها قطعة للزينة لا غير.
ومن حيث الحجم والبتلات المنبسطة كالتنورة، بدت شبيهة بالفاوانيا التي رأتها قبل قليل، لكن الغريب أنها كانت مصنوعة من الزجاج.
«ما هذه؟ هل هي من زجاج؟»
عند كلمات اردين، استدارت الكونتيسة ويكس وأومأت برأسها بتوتر خفيف.
«نعم، يا صاحبة السمو… إنها تحفة صنعها أمهر صانع زجاج في البلاد بعد مئات… بل آلاف المحاولات. إنها زينة على شكل فاوانيا كانت جلالة الملكة العظمى تعتزّ بها كثيرًا، وهي…»
وفي تلك اللحظة، سُمع صوت خافت للغاية.
صوت شيءٍ رقيق وضعيف… ينكسر بلا سبب.
اتسعت عينا الكونتيسة، وساورتها الشكوك في سمعها.
لا… بل كانت تتمنى من أعماقها أن يكون سمعها قد خانها.
أما اردين، فقد وسّعت عينيها قليلًا، غير أنها لم تُبدِ دهشة تضاهي دهشة الكونتيسة.
في تلك الأثناء، راود الكونتيسة خاطرٌ غريب: إنها متفاجئة أيضًا، لكن ليس كثيرًا…
حرّكت اردين يدها حركة خفيفة، فتحطّمت الزهرة الزجاجية الفريدة، التي صُبَّت فيها روح صانعها، وتساقطت على الأرض.
«…لقد انكسرت، ماذا أفعل؟»
ارتجفت شفتا الكونتيسة ثم تمتمت:
«آه، لا… ذلك… كيف… يا صاحبة السمو، كم كانت قوة قبضتكِ…؟»
عقدت اردين حاجبيها.
«لم أضغط عليها بقوةٍ أصلًا، لقد لمستها برفق فقط.»
ولو كانت مساعدتها كثيرة الكلام، ثيلما، حاضرة، لقالت بلا شك:
إذا لمستِه برفق، حتى قشرة الجوز ستتحطم.
تخيّلت اردين نفسها وهي تضرب تاج ثيلما الوهمي بقبضتها، ثم أعادت قطع الزهرة المحطمة إلى الخزانة.
لكن الجزء المتشقق اهتز بفعل الهواء، فانكسر مرة أخرى بصوتٍ مكتوم.
«يا صاحبة السمو، يدكِ… هل يدكِ بخير؟ هل تأذيتِ؟»
«يدي ليست رقيقة إلى هذا الحد لتتأذى من زجاج ضعيف كهذا. وعلى أي حال، شكرًا لسؤالك.»
حسنًا أنني سألت… فكرت الكونتيسة، لكنها لم تستطع أن تطمئن.
من بين كل الأشياء، كان لا بد أن تتحطم تلك الفاوانيا الزجاجية!
لو وصل الخبر إلى مسامع المركيزة فيدلر، وصيفة الملكة السابقة المقربة، لقامت الدنيا
وبينما كانت الكونتيسة تدقّ الأرض بقدمها وهي تحدّق في الشظايا، قالت اردين:
«لماذا لا تجعلونهم يصنعون واحدة أخرى؟ ليس الأمر وكأن أحدًا قد مات.»
إلا أن الحزن لم يفارق وجه الكونتيسة، فتابعت اردين:
«أعيدوا إحضار ذلك الحِرَفي غدًا. سأجعله يصنع مثلها تمامًا خلال أسبوع.»
«لكن ذلك يتطلب نبش قبر، يا صاحبة السمو…»
زفرت اردين ووضعت يدها على جبينها.
تبًّا… لم أتخيل أنه ميت.
بدأت الكونتيسة بالبكاء.
«لقد كانت جلالة الملكة تحبّ هذه كثيرًا، ولهذا فإن جلالة الملك يعتزّ بهذه الفاوانيا الزجاجية كذلك.»
وحين ذُكر أركان فجأة، شعرت اردين بعودة ذلك الضيق الذي كان قد هدأ.
ومع أنها شعرت بشيء من الذنب لأنها كانت عزيزة على والدته، إلا أنها ردّت بنبرة لاذعة متعمدة:
«في هذا العمر، كيف لا يزال متعلّقًا بثياب أمه ويزعم أنه يملك هيبة الملك؟ لقد حان وقت الرحيل من هنا.»
شهقت الكونتيسة بذهول وانفتح فمها.
وفي تلك اللحظة، دخل كبير الخدم ايفان إلى الغرفة ليطمئن على الوضع.
وقد شعر ببعض الارتياح عندما سمع همسات من الداخل، وظنّ أن الكونتيسة تقوم بعملها على أحسن وجه.
لكن ما إن دخل حتى دوّى تحت حذائه صوت تكسّر خافت… واتجه بصره تلقائيًا نحو الخزانة التي كانت عليها زهور الزجاج.
«كيف انكسر هذا؟!»
صرخ ايفان، فانحنت الكونتيسة برأسها خجلًا.
كان ايفان كبير الخدم، كما كان موضع ثقة الملك، ولذلك لم يكن مجرد “موظف في القصر” يُستهان به.
«كونتيسة، ماذا حدث هنا بحق السماء؟»
وعيناه – وهو يسألها – كانتا تلمحان اردين بين حين وآخر.
ارتعشت كتفا الكونتيسة، وعجزت عن النطق.
عندها قالت اردين:
«يبدو أن نظرك ضعيف، أليس كذلك؟»
«نعم؟»
«أما ترى؟ أنا من كسر هذا. فلماذا تسأل الكونتيسة؟»
احمرّ وجه ايفان قليلًا، بين غضبٍ وإحراجٍ من تلك الضربه اللاذعة.
«إذًا سأوجه السؤال إلى صاحبة السمو:
هل كنتِ تعلمين أن الفاوانيا الزجاجية من أثمن ما خلّفته الملكة الراحلة؟»
«كنت أعلم.»
«فكيف انتهى بها الحال هكذا؟»
نظرت اردين إلى يديها.
«شدّدت عليها قليلًا… فانكسرت.»
وقف ايفان لحظة عاجزًا عن الكلام، كما كانت الكونتيسة من قبله. وحدّقت اردين فيهما وقالت:
«إن كانت أثرًا لأم، فحتى قطعة قماش ستكون ثمينة. سأذهب لأعتذر لجلالته بنفسي، ويمكنكما التظاهر بأنكما لم تريا شيئًا.»
ثم مضت خارج الغرفة بخطوات سريعة، قبل أن يتمكن أيٌّ منهما من إيقافها.
لكن لم تمضِ لحظات حتى سُمع ارتطام ثقيل… ثم صوت تحطّمٍ مدوٍّ هذه المرة.
أسرع ايفان والكونتيسة إلى الخارج، فإذا بمزهريةٍ محطمة متناثرة تحت طاولة زينة ثقيلة. وكانت اردين تقف وهي تقطّب جبينها وترفع قدمها قليلًا—ويبدو أنها ركلت الأثاث لأنها لم تعتد على تصميم المكان.
نظرت إليهما وقالت:
«لا تنوون اعتبار هذا أثرًا أيضًا، أليس كذلك؟»
ابتلعت الكونتيسة ريقها وهزّت رأسها بخفة.
«لحسن الحظ…»
قال اردين حينها:
«ليست أثرًا، لكنها مُسجّلة ضمن قائمة كنوز فيتور.»
«تبًّا.»
همست إردين بكلمة مفاجئة، فتوسعت أعين إيفان والكونتيسة من الدهشة، حتى بدا وكأنهما على وشك الخروج من محجريهما.
«سأضطر للاعتذار مرتين، إذن.»
واستدارت بعنف لتغادر، لكن ايفان – وقد استعاد وعيه أولًا – أسرع ليقف في طريقها.
«يا صاحبة السمو، إن جلالته مشغول الآن بأمرٍ رسمي، ولن يتمكن من مقابلتك.»
تمنى ايفان في تلك اللحظة أن يرى على وجهها شيئًا من الحرج… ولو قليلًا. لم يشأ أن يصدق أن هذا البرود هو حقيقتها.
فهي لم تحطم أثر الملكة السابقة فحسب، بل وكسرت كنزًا من كنوز العائلة المالكة – وإن لم يكن ذلك عن قصد – ومع ذلك كانت تتحدث عن الاعتذار بكل هدوء!
هذا لا يُقارن بكسر نافذة أو اثنتين!
كان يريد أن يرى ندمًا… أي شيء يدلّ على الأسف.
لكن اردين قالت ببساطة:
«إذًا سأفعل ذلك لاحقًا.»
شعر ايفان وكأن الأرض تنهار تحت قدميه.
وفي اللحظة التي رآها فيها تمضي مبتعدة بلا أثرٍ للندم، تذكّر فجأة سببًا آخر لقدومه.
«آه، يا صاحبة السمو.»
ارتسم على وجهها بعض الضيق وهي تلتفت نحوه.
«ماذا هناك أيضًا؟»
«لقد طلب مني جلالته أن أسألكِ عمّا ترغبين في تناوله على العشاء. ليُحضّروا لكِ ما يخفف عنكِ عناء السفر…»
قالت اردين فورًا:
«أحضر بعض الكحول.»
«حسنًا… كحول…»
وأضافت:
«أحضر الكحول. وإن أمكن… فليكن قويًا.»
وانغلقت أبواب الغرفة من الجانبين.
تبادل ايفان والكونتيسة ويكس النظرات بوجوه شاحبة، ثم تفرّقا من دون أن ينبس أيٌّ منهما بكلمة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"