قال ايفان:
«لم يكن سؤالًا شاعريًا إلى هذا الحد، يا صاحب الجلالة. هل غفوت وأنتَ تقرأ “العاشق البارد” مرة أخرى الليلة الماضية؟»
ضيّق أركان عينيه ونظر إلى ايفان.
«لقد أخبرتك ألّا تُولي قائمة قراءاتي اهتمامًا يا ايفان.»
«لم أولِها اهتمامًا بالضرورة…»
توقّف ايفان حين لوّح أركان بيده.
كان الملك أركان سيبرُسماين، ملك فيتور، مشهورًا بمظهره الشاب والوسيم، لكنه كان معروفًا أيضًا بولعه الشديد بالكتب. ولو كان لأركان جنّةٌ خاصة به، لكانت مكتبةً عظيمة ومريحة تمتلئ بكتبٍ لم يقرأها بعد.
كانت أذواقه تمتد من الكتب التاريخية العظيمة، والكتب الفلسفية، والسير الذاتية، إلى القصص القصيرة التي تُباع في أكشاك الشوارع وقصص الأطفال، حتى إن لقبه بـ«دودة الكتب» كان يليق به تمامًا.
وكان أحيانًا يستمتع بمشاركة أفكاره حول الكتب مع الموظفين المحبّين للقراءة. غير أنّ أذواقه الواسعة كانت تشمل أيضًا الروايات الرومانسية التي تحتوي أحيانًا على مقاطع جريئة، والتي كانت تشكّل جزءًا لا يُستهان به من قائمة قراءاته.
وعلى وجه الخصوص، كانت رواية «العاشق البارد»، التي ذكرها ايفان، سلسلة روايات لمؤلف مجهول، وقد افتتن بها أركان مؤخرًا، وكانت معروفة بوصفها الدقيق والحسّي.
أراد أركان أن يقابل الكاتب، حتى لو اضطر لاستخدام سلطة الملك، لكن الكاتب كان—ولسببٍ ما—يحافظ على سرية هويته ولا يظهر أبدًا.
قال أركان:
«لطالما واجهت صعوبة مع السؤال: أيّ نوعٍ من الأشخاص تودّ أن تتزوّج؟ كيف لي أن أتعامل مع شخص لا أعرف حتى وجهه ولا صوته ولا وجوده؟»
«يبدو أن جلالتك تحبّ الكتب كثيرًا، لكنك لا تقضي وقتًا طويلًا في التخيّل كما كنت أظن.»
«أنا أقرأ الكتب لأرى الواقع على نحوٍ أدق، لا لأضيع في عالم الخيال. لذا فإن المشكلة الحالية… ليست ما إذا كنتُ أحبّ الأميرة اردين أم لا.»
انتظر ايفان في صمتٍ ليستمع إلى ما سيقوله أركان.
فكّر أركان لحظةً، وقطّب حاجبيه.
«إن كان هذا الزواج يمكن أن يساعد الحلفاء في الداخل على الحفاظ على السلام، فذلك هو الهدف المتحقق، أليس كذلك؟ الشيء الوحيد الذي يقلقني هو: هل سترضى الأميرة اردين بأن تكون ملكة فيتور؟»
كان صوته منخفضًا ومهيبًا، وكأنهما لم يكونا يمزحان قط.
وعيناه الذهبيتان العميقتان، المثبّتتان إلى الأمام، كانتا ملبّدتين بظلٍّ كثيف، كأن طبقةً من السكر الأسود قد نُثرت فوقهما.
ولو رأت المركيزة فيدلر—التي تستطيع التحدّث طوال الليل عن أركان—هذه النظرة، لمدحتها قائلة: «إنها نظرة رجل حكيم يواجه مسألةً عميقة.»
«ايفان.»
«نعم، يا صاحب الجلالة.»
«اذهب وافحص أحوال الأميرة. واسألها ماذا ترغب أن تتناول على العشاء، وقل للطاهي أن يجهّزه.»
انحنى ايفان بأدب، كأكثر الرعايا إخلاصًا.
«حسنًا، يا صاحب الجلالة.»
—
وبينما كان أركان غارقًا في أفكارٍ لا طائل منها، كانت الكونتيسة ويكس، التي أُوكلت إليها مهمة مرافقة الأميرة في أرجاء القصر بدلًا عنه، على وشك أن تبكي.
كان عمرها الذي قارب منتصف العمر، وكبرياؤها النابع من وضع عائلتها المتدنّي مقارنةً بماركيزة فيدلر، إضافة إلى ثقة أركان بها، يمنعونها من الهرب في أي لحظة.
وكان ردّ فعل الكونتيسة طبيعيًا إلى حدٍّ ما، إذ إن اردين بالكاد تفوّهت بكلمة طوال جولتها في الأجنحة الواسعة التي كانت الملكة تستخدمها في الغالب!
«يا إلهي، كيف تكلّفني بمحنةٍ قاسية كهذه؟ يا إلهي، هل هذه المرأة مصنوعة من حجرٍ وحديد؟»
في أجنحة الملكة كان هناك نسيج جداريّ ضخم يمتد على طول أحد جدران الممر من طرفٍ إلى طرف، وهو مفخرة مملكة فيتور.
كان يصوّر سلسلة من أهم الأحداث في تاريخ تأسيس المملكة، وقد طُرّزت تلك المشاهد واحدةً تلو الأخرى، حتى إنه عُدَّ من المعالم التي لا بدّ للمبعوثين الأجانب من زيارتها.
ومع ذلك، ظلت اردين تنظر إليه طوال الوقت بعينين خاليتين من الاهتمام، ولم تتكلم إلا بجملة واحدة في النهاية:
«ألم يكن أورتيلر، القائد العام لمدينة هيرشستن، هو من أمسك بوحش هايدن، لا الملك الثاني لفيتور؟»
قالت ذلك وهي تضحك بخفة وتتراجع خطوة عن النسيج.
«أظن أنه من الأفضل إعادة تطريز هذا الجزء.»
كان كلامًا لا معنى له، لكن الكونتيسة لم تستطع الردّ بحرف.
لم يكن يهمّها إن كان الملك أو القائد أو حتى راعٍ بسيط هو من أمسك بوحش هايدن! المشكلة الوحيدة أنها شعرت أن عقل اردين قد ازداد التواءً بسبب هذا النسيج – وهو ملتوي أصلًا.
«آه، يا صاحبة السمو! تفضّلي من هذا الجانب. هنا مقرّ سموّ الأميرة.»
نادتها الكونتيسة على عجل حين كادت تسير في الاتجاه المعاكس.
كانت تتوقع أن يجاب طلبها بسؤال حادّ: «ومن أنتِ حتى تأمريني؟» غير أن اردين تبعتها على نحوٍ مفاجئ.
لكن ذلك لم يمنعها من قول شيء:
«ليتكِ أخبرتِني أبكر قليلًا.»
«بالطبع، لقد كنتُ بطيئة.»
وكان ردّ الكونتيسة هذه المرة أسرع من أي وقتٍ مضى.
كانت أجنحة الملكة تقع بعيدًا عن القصر المركزي وعن الأجنحة الخاصة بالملك. لم يعجب اردين كل شيء، لكنها كانت راضية عن هذه النقطة تحديدًا.
حتى وإن لم تكن المسافة بعيدة جدًا، فإن فكرة تقاسم الجناح والاضطرار إلى رؤية ذلك الرجل المرتعش كل يوم كانت مقلقة لها…
لا. هزّت اردين رأسها، وقالت في نفسها:
الطرف الآخر ليس قطعة حرير يمكن تمزيقها متى أشاء. إنه إنسان حيّ، وتمزيقه سيصبح مشكلة خطيرة…
«هذه هي غرفة النوم يا صاحبة السمو.»
وحين فُتحت الأبواب المزدوجة، ظهر أمامهما سرير واسع وفخم.
سواء كان ذلك ذوق الملكة السابقة أو شيئًا متوارثًا عبر الأجيال، فقد توزّعت القطع الأثرية الفاخرة بتناغم جميل. ولم تكن هناك رائحة اصطناعية، بل عبق زهورٍ منعش. عندها فقط شعرت اردين أن أعصابها، المشدودة كطرف إبرة، بدأت تهدأ قليلًا.
«إنها تفوح برائحة.»
شحب وجه الكونتيسة فورًا.
«أ، أنا آسفة! يبدو أن خدم القصر قاموا بتجهيز الغرفة لسموّ الأميرة، لكنني سأجعلهم ينظفون كل شيء على الفور! انظري!»
قالت ذلك بينما كان الخدم يهرعون وهم يلهثون بسبب صوتها المرتجف.
«لا… لم أقصد ذلك. أعني أن رائحتها طيبة.»
«آه… ظننتُ أن صاحبة السمو تفضّل رائحة ساحة المعركة الدامية أكثر… نعم؟»
جعدت اردين أنفها وحدّقت في الكونتيسة.
«هل هذا ما تقصدينه يا كونتيسة؟ هل يعني ذلك أنني أفضّل رائحة الدم والقذارة والنجاسة على رائحة الزهور؟»
في تلك اللحظة، أدركت الكونتيسة ويكس فعلًا معنى أن يسقط القلب إلى أطراف أصابع القدمين. كانت تفضّل أن تتنهّد وتغيب عن الوعي، لكن أعصابها كانت قوية للأسف.
«ل، لا، ليس هذا ما قصدته…»
نظرت إليها اردين بوجهٍ عابس—بالطبع لم يكن في عينيها سوى تعبيرٍ قاتل—ثم قالت:
«تلك الرائحة مألوفة، لكنني لا أحبّها. وحتى لو أحببتها، فما الذي عليّ فعله؟ هل أغطي هذه الغرفة بالدم؟ أم أنثر فيها روث الأبقار، وأجلب حفنةً من الرماد؟»
«كلا، كلا أبدًا! يا صاحبة السمو، أرجوكِ سامحيني!»
وبينما كانت الكونتيسة تنحني حتى كادت تركع، انحنى الخدم الذين لم يفهموا ما الذي يحدث، وتظاهروا بالذنب كذلك.
إنه أمر مزعج حقًا… فكّرت اردين .
لم تكن تعرف إن كان جميع أهل فيتور على هذا القدر من الغرور، أم أن هذه المرأة، مورا ويكس، هي وحدها كذلك.
إن كان الاحتمال الأول صحيحًا، لشعرت بشيءٍ من التعاطف مع مستقبلها غير المرئي.
«ارفعوا رؤوسكم. وأنتم، اخرجوا من هنا.»
غادر الخدم بسرعة. فقالت اردين:
«ما اسم هذه الزهرة؟»
عندها فقط استعادت الكونتيسة وعيها، ومسحت العرق البارد عن جبينها، ورسمت ابتسامة باهتة على وجهها الشاحب.
«إنها زهرة الفاوانيا. إنها زهرة فيتور الوطنية. لا يزال موسمها مبكرًا قليلًا، لكن بعضَها المتعجّل يميل إلى التفتح في هذا الوقت من السنة. والزهور المتفتحة حديثًا تُزيَّن بها أولًا جناحات الملك والملكة.»
«فاوانيا…»
كانت تعرف ما هي الفاوانيا. أليست هي الزهرة المطرّزة على عباءة أركان؟
لكنها لم ترها قط متفتّحة بالكامل.
وبينما كانت الكونتيسة تتململ في مكانها، دخلت اردين إلى الغرفة وتأملت تفاصيلها عن قرب.
للوهلة الأولى، بدت وكأنها تفحص الأثاث والأقمشة التي لم ترها من قبل، لكن اهتمامها كان في مكانٍ آخر.
«هذه غرفة الملكة، لكن لماذا صُمِّمت بهذا الشكل؟ لن يكون من الغريب أن يختبئ قاتل مأجور هنا. تلك النافذة تبدو غير محكمة، والأهم من ذلك أنها في الطابق الثاني. إنه المكان المثالي للفرار بعد التسلل من الخارج. لا أعلم من صمّمها، لكنه بالتأكيد شخصٌ عديم التفكير.»
كانت اردين تتفحّص كل زاوية في الغرفة استعدادًا لحالة طارئة، كأن يندفع شخصٌ ما بسيفٍ لامع أو نجمةٍ حديدية. كانت هناك أماكن كثيرة يمكن الاختباء فيها، ولن تدري مدى حساسيتها لوجود الآخرين إلا في عمق الليل.
ثم نظرت إلى طاولةٍ صغيرة ذات نقوش ملساء على شكل أصداف بحرية لطيفة.
وفي المزهرية التي في وسطها وُضعت عدة زهور كثيفة لم ترَ مثلها من قبل.
كانت كبيرة إلى حد أن بعضها بدا كأنه بحجم رأس طفلٍ حديث الولادة تقريبًا.
وقالت:
«ما هذه الزهرة؟»
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"