«ماذا قلتَ للتو؟»
رفع أركان بصره عن الوثائق التي كان يوقّعها ونظر إلى ايفان مذهولًا، كأنه لا يصدّق ما سمع.
«ايفان، قلها مرة أخرى. ماذا قلتَ للتو؟»
كرر ايفان ما قاله حرفيًا، كالببغاء:
«كحول يا صاحب الجلالة. صاحبة السمو طلبت كحولًا على العشاء. ليس حليبًا دافئًا، ولا خبزًا دافئًا بالزبدة، ولا حساءً غنيًا من المحار وجراد البحر، ولا لحم عجل… بل الكحول فقط، وكان قويًا أيضًا.»
وضع أركان قلمه وأطلق ضحكة فارغة.
كان ذلك جزئيًا من شدة الصدمة من طلب اردين، لكنه كان مضحكًا فعلًا.
«أنا… يا للسخافة.»
«أفكر بالطريقة نفسها يا صاحب الجلالة. وهناك أمر آخر.»
نظر إليه أركان كأنه يسأله عمّا حدث.
«فقد انكسرَت زهرة الفاوانيا الزجاجية التي كانت الملكة الراحلة تفضّلها، كما انكسر المزهرية الكريستالية المدرَجة في قائمة كنوز العائلة المالكة لفيتور.»
هذه المرة، لم يستطع أركان أن يضحك.
نهض فجأة واضعًا يديه على المكتب، فسقطت عدة ملفات مكدسة على الأرض.
طلبات الدعم لمملكة بينوتين التي أنهكتها الحرب، وخلافات المسؤولين حول الضرائب، ووثائق مهمة تتعلّق بوساطة تجارية… تناثرت كلها كأوراق الخريف.
«ماذا تقول؟ هل الأميرة اردين هي من حطّمتها؟»
أومأ ايفان بوقار.
وقد توقّع أن يثور أركان ويهرع إليها، فتراجع خطوة إلى الخلف قليلًا…
«هل فعلتْ ذلك عن قصد؟»
جعل سؤال أركان عيني ايفان تحدّقان في الفراغ للحظة.
«صاحبة السمو نفسها قالت… إنه كان خطأ.»
ساد الصمت لحظات. ثم هبط أركان إلى كرسيه متنهّدًا وهو يمسك جبينه.
وعندما أصدر ايفان صوتًا خافتًا بعد أن عضّ لسانه، نظر الصبي الذي كان يقف جامدًا عند الباب نحوه.
أشار ايفان برأسه إلى الأوراق المتناثرة، فأسرع الصبي يلمّها ويضعها في مكانها بعناية، ثم انسحب إلى الخلف.
قال ايفان:
«لقد منعتُ صاحبة السمو من القدوم للاعتذار لك. لا وقت لديك بسبب أعمالك الرسمية، وكان سيكون من الصعب لو بدأت تشرح الأمر بالتفصيل.»
وأركان، الذي كان غارقًا في التفكير ويداه متشابكتان على بطنه ، أغمض عينيه.
«نعم… إن كان خطأً فهو خطأ. ولو كان عليّ تلقي الاعتذارات بسبب أمور كهذه، لقضيتُ يومي بأكمله في سماع الاعتذارات، وانتهت حياتي.»
نظر إليه ايفان بدهشة.
«جلالتك، هل تصدّق ذلك فعلًا؟»
«وماذا لو لم أصدّق؟ هل بدا لك أنها كانت تكذب؟»
أومأ بلات برأسه للحظة تقريبًا، وهو يتذكر ردّ اردين الجريء وتعابيرها اللامبالية.
لكن لم يكن هناك دليل واضح على أنها كانت تكذب…
وعلاوة على ذلك، لو كان الأمر متعمدًا، لكان اختارت أشياء أخرى لتحطيمها.
وقد أشار أركان نفسه إلى هذه النقطة:
«المنطق يقول إن الاحتمال الأكبر هو أنه كان خطأ لا عن قصد. لم تمضِ سوى نصف يوم في فيتور، فلا يعقل أن تختار تحطيم شيءٍ ما بعد معرفتها بتاريخه. أعتقد أنه لو أرادت التدمير عمدًا، لكسرت عمودًا لا مزهرية أو زهرة زجاجية.»
ابتلع ايفان ريقه وقال:
«أيمكنك أن تقول ذلك بهدوء يا صاحب الجلالة؟»
هزّ أركان كتفيه.
كان ايفان عادةً هادئًا مثل أركان، لكنه في هذه اللحظة بدأ يفهم مشاعر المركيزة فيدلر التي كانت تُثير الضجة دائمًا.
«يا صاحب الجلالة، قد أكون متجرّئًا، لكنني أظن أنه ينبغي إعادة النظر في هذا الزواج.»
أصدر صوتُ وضع القلم على الطاولة رنينًا قطع كلام ايفان، فسكت فورًا.
قال أركان:
«لم أتزوّجها لأنني أردتها تحديدًا. وكما قلتُ لك، هناك أشياء كثيرة على المحك… خاصةً أرواح الكثير من الناس. وأنت تعرف ذلك، فلماذا تتكلم بهذا الشكل؟ المركيزة فيدلر حالة أخرى؛ إنها من تحتاج إلى ثلاثة خدم ليبقوا هادئين إن عطستُ مرة واحدة. لكنك أنت يا ايفان… هل تنوي أن تسير في الطريق نفسه؟ إن كان الأمر كذلك، فسأفكّر أولًا في تعيين سكرتير جديد.»
لم يقولها بلطف… أي أنه سيطردني إن واصلت الإلحاح، فكّر ايفان.
وكان يرى أن هذا الأسلوب من سحر أركان، لكن…
للأسف، يبدو أنه لن يُجدي نفعًا أمام الأميرة.
نقر ايفان بلسانه وتكلّم مجددًا، وكان كلامه يشبه كلام المركيزة فيدلر إلى حدّ جعل شعره يقف، لكنه لم يجد سبيلًا آخر.
«ألم يكن من الممكن إتمام تحالف الزواج حتى دون تدخلك شخصيًا يا صاحب الجلالة؟ ذلك تينيك الذي اعتلى العرش مؤخرًا… أعلم أن في كلامي تجاوزًا، لكنه يبدو بلا عاطفة تجاه دمه نفسه.»
«لقد سمعتُ بذلك. ولمَ لا؟ تينيك و اردين توأمان على الأرجح، وتينيك هو الأخ الأكبر.»
«نعم.»
«لكن أليست الأميرة هي المحبوبة لدى الإمبراطور السابق؟ كما يعرف الجميع، كانوا يظنون أنها ستصبح الإمبراطور التالي الذي يحكم الإمبراطورية العظمى… ولو حدث ذلك، لسقط الحلفاء في الداخل واحدًا تلو الآخر يا ايفان. هيرشستين لا تقاتل من أجل المتعة، بل يريدون الأراضي الخصبة التي لن ينالها الشمال أبدًا.»
أجاب ايفان:
«أنا أدرك ذلك تمامًا، يا صاحب الجلالة. كثيرون من عائلتي ذهبوا لدعم الحلفاء في الحرب ضد هيرشستين ولم يعودوا. لكنني لا أفهم ما علاقة ذلك بزواجك. لو أقنعتَ تينيك بإرسال الأميرة – وريثة العرش – إلى الداخل… ألم يكن ذلك كافيًا حتى لو لم يكن فيتور؟ بل حتى لو كان فيتور، فما الحاجة لأن تتزوّجها أنت؟»
لم يعد أركان ينظر إلى الوثائق.
أزاحها ووضع ختمه وقلمه، ثم استند بذقنه على سطح الطاولة الأملس وقال:
«إنها أميرة الإمبراطورية، ولذلك يجب أن نعرض عليها زوجًا يليق بها. أنا أفكّر مثلك تمامًا يا ايفان. الإمبراطور تينيك كان سيقبل دون تردد أحد نبلاء أبعد مناطق فيتور ليكون زوجًا لها. لكن هذا ليس صحيحًا. إذا أردت شراء شيء ثمين ونادر، فعليك أن تدفع ثمنًا مناسبًا. حتى لو كانت هناك طريق خلفية تلتف بها، لا يمكنك أن تسمي ذلك الطريق الصحيح، أليس كذلك؟»
شعر ايفان بالاختناق قليلًا. كان يعرف طبع أركان، لكنه… كان قلقًا بعض الشيء.
وفي رأيه، كان من الأفضل منذ القدم أن يكون الملك عنيدًا بدلًا من أن يكون طيّبًا جدًا.
مع أن جلالته لا ينقصه العناد أو حدّة الطبع، لكن…
تنهد ايفان وهو يسحب ربطة عنقه بلا سبب.
«لا تتحدث عن نفسك وكأنك شيءٌ يُباع.»
صمت أركان لحظة، ثم ابتسم ابتسامةً مشرقة كشفت عن أسنانه.
كانت ابتسامة ساحرة تُربك قلوب كل من يمرّ في القصر، وتسلب النوم من عيونهم.
لكن الكلمات التي خرجت من شفتيه المبتسمتين كانت قاسية:
«يا ايفان، جميع أفراد العائلة المالكة أشياء. أشياء يمكن مقايضتها بالطعام، أو بالجنود، أو بالأسرار. وخصوصًا في سوق الزواج، نحن سلع ممتازة.»
«يا صاحب الجلالة…»
تنهد كبير الخدم العجوز أخيرًا.
لكن أركان تمدّد وكأن شيئًا لم يكن، وفرك عنقه المتصلّب من كثرة العمل.
«إن كانت تريد الكحول، فسأحضر لها كحولًا. أخبر الطاهي أن يُعدّ طعامًا جيدًا وكحولًا فاخرًا.»
سأله ايفان بدهشة:
«هل تنوي حقًا تناول العشاء معها؟»
«وماذا في ذلك؟ لم أتزوّج بعد، لكن ينبغي عليّ على الأقل أن أكون حاضرًا لأعاملها كضيفة. من الأفضل أن تغادر العمل باكرًا اليوم… أنت حقًا تحتاج إلى راحة.»
كاد ايفان أن يسأله مَن السبب في ذلك، لكنه اكتفى بهزّ رأسه وخرج.
كان أركان الملك المثالي الذي تتوقع أن تراه في كتب التاريخ المزخرفة: وقورًا، هادئ الطبع، عطوفًا، وحسن المظهر.
لكن في نظر ايفان، كانت لديه نقطة ضعف قاتلة واحدة.
أنت تحاول أن تحمل الكثير بمفردك… أخشى أن تنهار. وإذا دخلت المركيزة فيدلر، ستعمّ فوضى جديدة.
—
في هذه الأثناء، بينما كان أركان يتجادل مع ايفان حول «أهميّة الشخص في سوق الزواج»، كانت اردين قد صرفت الكونتيسة ويكس المُنهَكة، وجلست وحدها في إحدى غرف المعيشة بقصر الملكة.
كان عدد غرف المعيشة وغرف النوم كبيرًا لدرجة أنها لم تعد تتذكر أيّ غرفة هذه أو ما اسمها.
لكن المكان كان هادئًا ومشمسًا. وقد أعجبها خصوصًا وجود نافذة تواجه الغرب.
من هنا، يمكنها رؤية الغروب. كان منظرًا مختلفًا عن الإمبراطورية، لكنه يمتد بعيدًا في الأفق.
جلست اردين على الكرسي وحدّقت بلا تعبير في تلك السجادة الطويلة والضيّقة المعلّقة على أحد الجدران.
كانت مطرّزة بدقة عالية، تظهر فيها سيوف وخيول ومشهد معركة شرسة، مما ج
عل وجودها في جناح الملكة أمرًا غريبًا جدًا.
كانت الحرب الأخيرة مع بينوتين غريبة فعلًا.
أمالت اردين رأسها إلى الخلف، وأغمضت عينيها ببطء، وهي غارقة في أفكارها.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"