تغير جيريكو جعلني، حتى وأنا لا أرى خلفي، أشعر بالخوف.
“سأعد إلى ثلاثة. اختفِ من أمامي قبل ذلك.”
نبرته المتعجرفة وضحكته الساخرة جعلتا وجهه المتكبر يتراءى لي دون أن أراه.
أطلق جيريكو يدي التي كان يمسكها بقوة ونهض مهرولاً.
“أعتذر عن الإزعاج!”
من يكون هذا ليجعله يتصرف هكذا؟ منظره وهو يهرب كالفأر زاد من توتري.
سمعتُ خطوات تقترب. شعرتُ بقرب الرجل من خلفي مباشرة. قلبي كاد يقفز من فمي. كررتُ في ذهني:
‘اهدئي، اهدئي. حتى في عرين النمر، إن بقيتِ واعية…’
واعية لماذا؟ لأصبح وجبة عشاء؟
“إلى متى ستبقين جالسة هكذا؟”
صوتٌ يكبح الضحك جاء من خلفي. أغمضتُ عينيَّ بقوة.
على الأقل، ألم يساعدني للإفلات من جيريكو؟ لعله ليس شخصًا سيئًا تمامًا. حاولتُ إقناع نفسي بذلك.
جمعتُ شتات جسدي المرتجف ونهضتُ بحذر. وضع الرجل الشال على كتفيَّ، الذي سقط أثناء شجاري مع جيريكو. شعرتُ بدفءٍ يعوض برودة كتفيَّ.
“شكرًا…”
حاولتُ الاستدارة لتحيته. ربما إن شرحتُ الأمر، سيكون كل شيء على ما يرام.
لكنني لم أكمل جملتي. مظهر الرجل أمامي جعلني أفقد النطق.
‘شعر فضي وعيون بنفسجية. وسيمٌ يُرى من عشرة كيلومترات.’
لم يكن شعره فضيًا، بل بلاتينيًا، لكنني عرفتُه على الفور: أرمين غراي.
تردد صوت شاشا في رأسي: “تجنبيه مهما كان!” بدا وجهي المذهول مضحكًا له، إذ كانت تعابيره غامضة.
“هل تحتاجين مساعدة لإغلاق فمكِ، يا آنسة روها؟”
لم أرَ وجهي، لكنني متأكدة أنه شاحبٌ. صُدمتُ أكثر لأنه يعرفني.
“أنتَ… تعرفني؟ لا، أقصد…”
كارثة. في ارتباكي، اعترفتُ بهويتي.
عبستُ، فازدادت ابتسامة أرمين غراي.
“هل كنتِ تنوين خداعي؟”
“لا! ليس كذلك، لكن أن يعرفني السيد غراي أمرٌ مدهش…”
أغمض عينيه البنفسجيتين قليلاً. ابتسامته لم تبدُ غاضبة، لكن رأسي بدأ يدور.
“أعرف معظم النبلاء المركزيين، خاصة من لهم صفات مميزة مثلكِ.”
“أنا؟”
“شعر روها البني نادرٌ جدًا.”
صحيح، الشعر البني شائع بين العامة، لكنه نادر بين النبلاء المركزيين.
لكن مهما كان شعري مميزًا، فهو مجرد شعر بني، مناسبٌ لدورٍ ثانوي على الأكثر، لا بطلة. ظللتُ أراقب أرمين بحذر، مشككةً في معرفته بي، حتى التقط كتابي من الأرض.
“هل هذا الكتاب الذي كنتِ تقرئينه بحماس؟”
“آه… لا!”
من فرط الذعر لكشف هوايتي السرية، انتزعتُ الكتاب من يد أرمين غراي. لكنه رأى العنوان بالفعل.
“‘الدوق الشيطاني مهووس بي’. هل هناك من يشتري مثل هذه الكتب؟”
أغلق الباب بابتسامة مشرقة.
بانغ.
صوت الباب كإعلان حكم الإعدام.
“حسنًا، يا آنسة، لنتحدث قليلاً.”
***
في الغرفة المغلقة، ألقيتُ نظرة خاطفة على الرجل المقابل. كان أرمين غراي يتصفح كتابي منذ دقائق.
شعرتُ بالخجل كأن أسراري كُشفت. أردتُ أن أكون وقحة وأقول إن القراءة ليست عيبًا، لكن المشكلة أن بطل الرواية يشبه أرمين غراي تمامًا.
تعابيره وهو يقرأ كانت غامضة. أصابعي ترتجف. تذكرتُ موقفًا مشابهًا من حياتي السابقة، عندما وبَّخني المعلم لجلبي كتابًا مصورًا.
“هذا…”
“نعم؟”
“هل كان ممتعًا لدرجة أن تغني من أجله؟”
سعلتُ من صدمة كلماته. كما توقعتُ، سمع كل شيء منذ البداية.
“ماذا قلتِ؟ فتاة منعزلة؟”
هززتُ رأسي، مبتسمة بتذلل:
“مجرد تمتمة! تمتمة! هاه يا سيد غراي؟”
بدت تعابيره كأنها تقول: تكلمي. ابتلعتُ ريقي ونظرتُ إلى الباب.
“أظن أخي يبحث عني، لذا يجب أن أذهب…”
كانت حجة واهية حتى في أذني، لكنني تمسكتُ بها.
“آنسة روها.”
“نعم؟”
“سمعتُ قصة طريفة منذ أيام.”
كنتُ أتمنى عدم السماع، لأنها بالتأكيد لن تكون طريفة. لكنني أومأتُ مرغمة.
“ما هي؟هاها، أنا فضولية. بعد سماعها…”
“هل سمعتِ عن عبدة الشيطان؟”
عبدة الشيطان؟ ما هذا؟
أمام السؤال المفاجئ، أمَلْتُ رأسي بحيرة.
“الشيطان؟ كما في القصص الخيالية؟”
“لا، عبدة الشيطان موجودون بالفعل.”
هل هناك شيطان؟ حتى لو وُجد عبدة، أنا بالتأكيد لستُ منهم. لكنني فكرتُ أن أرمين قد يؤمن بالروحانيات رغم مظهره.
أومأتُ كما لو كنتُ أتحدث إلى طفلٍ يؤمن بسانتا:
“حقًا؟ واو، الشيطان! مثير! حسنًا، هل يمكنني الذهاب الآن…”
“ما سمعته…”
ابتسم وكأن القصة لم تنته. كان وجهه سماويًا، لدرجة أنني كدتُ أنبهر.
رغم اعتيادي على وسامة شاشا، كان أرمين استثنائيًا. لكن عينيه المنحنيتان كالهلال كانتا مخيفتين. أمسكتُ قلبي النابض وتتبعتُ تعابيره.
“سمعتُ أن عبدة الشيطان يتحدثون معه، لذا لديهم عادة التمتمة بكلامٍ غير مفهوم.”
“حقًا؟ يتمتمون؟ مهلًا….. ماذا…؟”
“ويقال إنهم يرددون تعاويذ بأغانٍ غريبة.”
نظر إليَّ بابتسامة مشرقة. أدركتُ أنه ليس طفلاً يؤمن بسانتا.
“من واجب النبلاء المركزيين الإبلاغ عن الهراطقة إلى محققي الهرطقة.”
“مهلاً! هرطقة؟ أي هرطقة؟”
لوحتُ بيدي بيأس وبدأتُ أدافع عن نفسي:
“الغناء مجرد عادة! التمتمة كانت لأنني ظننتُ أنني وحدي! أنا آسفة!”
محققو الهرطقة؟ هل يوجد هذا في هذا العالم؟ كلمة من كتب التاريخ أرعبتني.
“قراءة رواية وغناء لا يجعلني عابدة شيطان! هذا غير منطقي!”
لكنني شعرتُ بالقلق. حتى لو كان اتهامًا سخيفًا، إذا جاء من عائلة غراي، فقد أدان أنا ابنة روها كعابدة للشيطان.
بدت دفاعاتي اليائسة ترضيه. استند بذقنه على الطاولة ونظر إليَّ.
“حقًا؟”
“نعم!”
أومأتُ بحماس. لكنه نقر الكتاب وقال بسخرية:
“لكن هذا لا يفسر كل شيء. تلك الكلمة… فتاة منعزلة؟ كلمة جديدة تمامًا. هل يمكنكِ تفسيرها؟”
بدت عيناه وكأنها تقول: “إن لم تستطيعي، فأنتِ هرطيقة.”
ارتجفتُ. يا له من شخصٍ مقزز! كان شاشا محقًا في تحذيره.
‘إنه حقًا شخصٌ غريب!’
لكنني ابتسمتُ وأومأتُ بحماس. أنا في الحادية والعشرين فقط، أملك ملعقة ذهبية متوسطة، ولم أفعل الكثير بعد. لقد كنتُ عاقة لوالديَّ، لا يمكنني أن أموت هكذا.
“تلك الكلمة…”
“نعم؟”
“الفتاة المنعزلة… كلمة اخترعتها! ليست تعويذة شيطانية!”
“وماذا تعني؟”
بدأ رأسي يدور. إن لم أجب بسرعة، سيشتبه. قلتُ ما جاء في ذهني:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات