كان فمي مُتدليًا من الانزعاج لأنّني يجب أنْ أنتظرَ مرّةً أخرى، بعد أنْ انتظرتُ آرمين لمدّة 4 ساعاتٍ. إلّا أنّ أرمين ضَحكَ على مظهري، ولم يقلْ لنذهبْ مُباشرةً.
استغرقَ آرمين حوالي 30 دقيقةً ليعود.
“حسناً، لِنذهبْ الآن.”
“إلى أين نذهب؟”
“هل لديكِ مكانٌ تُريدين الذّهاب إليه؟”
“لا.”
“لِنخرجْ أوّلاً إذًا؟”
كانتْ هناك عربةٌ تنتظرُنا أمام المدخل لبعض الوقت. داخلَ عربة عائلة غراي التي أصبحتْ مألوفةً تقريبًا مثل عربتنا، سألتُ أرمين عمّا دارَ بينه وبين والدي.
“هل أنتِ فضوليّة؟”
“نعم.”
كان كلامُ أرمين بديهيًّا.
“أوّلاً، عليكِ العودة إلى المنزل دائمًا قبل غروب الشّمس.”
“ماذا؟”
“ثانيًا، لا تذهبا إلى أماكن مُنعزلةٍ خاليةٍ من النّاس قبل الخِطبة. يجب أنْ تتواعدا دائمًا في الأماكن العامّة.”
“ما هذا…”
“إنّها شُروط الفيكونت.”
ذهبَ أرمين ليطلبَ مُوافقة والدي على مُواعدتنا.
احمرَّ وجهي بسبب أبي الذي وضعَ مثلَ هذه الشُّروط، قائلاً إنّه أمرٌ شبهُ مُؤكَّد.
“لا… لماذا سأذهبُ إلى مكانٍ مُنعزلٍ! يا له من إحراجٍ!”
ارتفعَ صوتي أكثر من المُعتاد من شدّة الإحراج. كُنتُ أعودُ دائمًا إلى المنزل قبل غروب الشّمس على أيّة حال. يا للهول!
“حَقّاً؟”
“نعم!”
“لقد عرفتُ للتوّ، عندما وضعَ الفيكونت تلك الشّروط.”
لمعتْ عيناه الأرجوانيّتان. كانتْ تلك العيون التي اعتقدتُ دائمًا أنّها جميلةٌ تتألّقُ أكثر.
بطريقةٍ ما، شعرتُ أنّ قلبي يخفقُ بعُنفٍ. كانت نظراتُ عينيه النّاعسةُ والمُبهمةُ خطيرةً بعضَ الشّيء.
“أنّني أردتُ الذّهاب إلى مثل هذه الأماكن معكِ.”
‘يا إلهي.’
كانت نظرةُ أرمين التي تبدو وكأنّها تتحدّاني تُحدّقُ فيّ بعمقٍ.
“ماذا عنكِ؟”
“أُمم… آه.”
ماذا أقول؟ في جزء من الثّانية، مرّتْ الكثيرُ من الأفكار في رأسي.
هل أقول لا؟ أو أتظاهرُ بأنّني لا أهتمُّ وأقولُ لا بأس؟ أو أتظاهرُ بأنّني لم أفهمْ؟
لكِنْ على عكسِ عقلي، كان فمي قد أجابَ بالفعل.
“لقد سمعتُ من ميشيل.”
“ميشيل؟ آه، خادمتكِ الخاصة.”
“ميشيل تعرفُ الكثير. أظنّ أنّها قالتْ إنّ هناك قصبًا على مصبّ النّهر هناك.”
لا يوجدُ أحدٌ، وهو مكانٌ هادئٌ. وقالتْ إنّ غروب الشّمس هناك يكونُ مدهشًا. لا، لا أقصدُ شيئًا خاصًّا.
لم يسألني، لكنّ آليّة الدّفاع عن النّفس لديّ انطلقتْ، ممّا جعلَ تفسيري طويلاً. انفجرَ أرمين من الضّحك وهو ينظرُ إليّ.
“هكذا إذًا.”
ما الذي هكذا؟
“فيفيان تُريدُ الذّهاب إلى حقل القَصَب.”
“آه، أُمم… أنا مُهتمّةٌ جدًا بالطّبيعة عادةً.”
إنّها كذبةٌ صريحةٌ، لكنّها خرجتْ بسلاسةٍ دون تزييت اللّسان. ما شأنُني بالطّبيعة؟ في حياتي السّابقة، كُنتُ أميلُ إلى الأماكن المُغلقة، مُفضّلةً الإقامة الفندقيّة على التّخييم.
أومأ أرمين برأسه لكذبتي غير المُقنعة على الإطلاق.
“إذنْ، دعينا نذهبْ إلى المكان الذي تُريدُ فيفي الذّهاب إليه اليوم.”
“إلى أين كُنتَ تنوي الذّهاب في الأصل؟”
انحنتْ عينا أرمين بلُطفٍ مثل نصف القمر.
“أوّلاً، تناول شريحة لحم في المطعم لتناول الغداء.”
“شريحة لحم؟”
“ثُمّ الذّهاب لتناول نوع الحلوى الرّائجة هذه الأيّام.”
“حلوى.”
بطريقةٍ ما، شعرتُ وكأنّ الجوع الذي لم أشعرْ به حتّى الآن قد اجتاحني دفعةً واحدةً.
ابتلعتُ ريقي اللاإراديّ، وعندما رآني أرمين، حاولَ جاهدًا كبتَ ضحكته.
“ثُمّ كُنتُ أُفكّرُ في الذّهاب للتّنزّه.”
“أُمم.”
“لقد سمعتُ مُؤخّرًا أنّ متاهة التّماثيل في الحديقة النّباتيّة المركزيّة هي أشهرُ مكان للمُواعدة هذه الأيّام.”
“متاهة التّماثيل؟”
هل كان هناك شيءٌ كهذا في هذا العالم؟ كانتْ معلوماتٌ أسمعُ بها لأوّل مرّةٍ، لأنّها لم تكنْ مجال اهتمامي أبدًا.
سمعتُ صوتًا يسخرُ منّي المُندهشة.
“يا إلهي. أنتِ مُهتمّةٌ جدًا بالطّبيعة، لكنّكِ لم تسمعي عن الحديقة النّباتيّة يا فيفي؟”
“لا! كُنتُ أعرفُ كلَّ شيءٍ بالفعل. حَسناً، إنّه مكانٌ لا بأسَ به للمُواعدة، أليس كذلك؟”
“هل أنتِ مُتأكّدةٌ من أنّكِ لا تُريدين الذّهاب إلى حقل القَصَب؟”
“إذا واصلتَ السّخرية منّي هكذا، فسأعودُ إلى المنزل.”
“كح. حسناً.”
حدّقتُ فيه بكلّ قوّتي، لكنَّ تعابير أرمين الضّاحكة لم تتغيّر على الإطلاق، وكأنَّها لم تؤثّرْ فيه.
***
كانتْ خُطّةُ المُواعدة التي أعدّها أرمين رائعةً جدًا. لكنْ كُلّما سنحتْ له الفرصة، كان يسألُني: “هل نذهبُ إلى حقل القَصَب الآن؟”، ممّا دفعني إلى أنْ أضغطَ بقوّةٍ على قدمه بحذائي.
كان واضحًا أنّ هناك شيئًا خاطئًا في عقله، فقد ظلَّ يضحكُ حتّى بعد أنْ دُيستْ قدمه.
سمعتُ أنّ الحديقة النّباتيّة المركزيّة هي واحدةٌ من أشهر أماكن المُواعدة التي يرتادها النّاسُ الاجتماعيّون، لكِنْ لم أكنْ أعرفُ لماذا هي مشهورةٌ بالضبط.
كانتْ هناك متاهةٌ ضخمةٌ مُتشابكةٌ بالنّباتات، وكأنّها شيءٌ شاهدتُه في الأفلام، تقعُ في وسط الحديقة النّباتيّة. كانتْ الحديقةُ مليئةً بالنّاس، كما يليقُ بمكان مُواعدةٍ مشهورٍ.
“هل هذا مكانٌ عامٌّ بما فيه الكفاية؟”
“يا إلهي! كُفّ عن ذلك!”
“حسناً، هل ندخل؟”
دخلتُ مدخلَ المتاهة مع أرمين الذي مدَّ لي يده. كانتْ حقًا المتاهة التي رأيتُها في الأفلام.
كُنتُ مُتحمّسةً، فتفاخرتُ ببعض المعلومات التي أعرفها أمام أرمين.
“هل تعلم يا أرمين؟ في المتاهة، إذا أمسكتَ بأحد الجُدران واستمررتَ في الحركة، فستجدُ المخرجَ في النّهاية.”
التصقتُ بالجدار الأيمن أثناء سيري، وطلبتُ من أرمين أنْ يلتصقَ بالجدار الأيمن أيضًا.
“سنتبعُ الجدار الأيمن من الآن فصاعدًا.”
“لم أكنْ أعرفُ أنّكِ ستكونين مُتحمّسةً جدًا.”
“إنّه أمرٌ مُمتعٌ.”
بعد أنْ مشينا مُلتصقين بالجدار الأيمن لبعض الوقت، ابتعدَ آرمين الذي كان يسيرُ أمامي ببطءٍ عن الجدار. انغمستُ جدًا في الخُروج من المتاهة، فأخبرتُ أرمين أنْ يلتصقَ بالجدار بسرعةٍ.
لكِنّه لم يستمعْ إليّ. وبدلًا من أنْ يضعَ يده على الجدار، وقفَ أرمين على يميني. ثُمّ شبكَ أصابعه بأصابع يدي اليُمنى واحدةً تلوَ الأخرى.
كان تشابُكُ الأصابع مختلفًا تمامًا عن مُرافقة اليد المُعتادة.
شعرتُ بأصابعه القويّة على كلّ مفصلٍ، ولم أستطع النُّطقَ بكلمةٍ للحظةٍ.
“هل يمكنني الإمساكُ بيدكِ؟”
من الغِشّ أنْ يبتسمَ وهو قد أمسكَها بالفعل. لم يكنْ لديّ خيارٌ سوى الإيماء برأسي.
***
كان الخُروج من المتاهة أسرع ممّا توقّعتُ. شعرتُ بشيءٍ من الخيبة عندما وجدنا المخرج، على الرّغم من أنّني حاولتُ قدرَ استطاعتي أنْ أُبطئ خُطواتي.
بدا أرمين مُنزعجًا قليلاً لأنّني كنتُ أتركُ يده بسرعةٍ في كلّ مرّةٍ كنّا نلتقي فيها بأشخاصٍ في المنتصف.
لكِنْ ماذا عساي أفعل؟ أنا مُبتدئةٌ في المُواعدة، ولا أستطيعُ التّأقلمَ مع إظهار المَودّة أمام الآخرين. على العكس من ذلك، وجدتُ أرمين الذي بدا مُتحمّسًا لإظهار ذلك مُدهشًا.
في العربة في طريق العودة، تحدّثتُ إلى أرمين بجدّيّةٍ.
“ما رأيكَ في الذّهاب إلى مكانٍ لا يوجدُ فيه الكثيرُ من النّاس في المرّة القادمة؟”
قلتُ هذا لأنّني لا أستطيعُ أبدًا القيام بتلك التّصرّفات المُثيرة للغثيان أمام النّاس، لكنَّ أرمين رفضَ ذلك رفضًا قاطعًا.
“لا.”
“بسبب أبي؟”
“لا. لنْ نفعلَ ذلك حتّى تتوقّفي عن نَفْض يدي أمام الآخرين.”
“آه، حقًا!”
“أنا جادٌّ.”
أشارَ أرمين إلى ملابسه بجدّيّةٍ.
“لماذا تعتقدين أنّني ارتديتُ هذه الملابس بالتّحديد؟”
“كان هناك سببٌ؟”
كانت نظرةُ آرمين عندما سمعَ إجابتي نظرةَ ‘هل رأيتِ فتاةً بهذه البلادة من قبل’.
“هل كُنتُ سأرتدي زِيّي الرّسميّ دون سبب؟”
“حَسناً. اعتقدتُ أنّه يبدو غير مُريحٍ جدًا على أيّة حال.”
“فيفيان روها.”
فجأةً، كانتْ نبرةُ أرمين جادّةً عندما ناداني باسمي الكامل.
ابتلعتُ ريقي لا إراديًّا، وكنتُ أُراقبُ عينيه، وكان أرمين ينظرُ إليّ بوجهٍ بالغِ الجدّيّة.
“حفلة الرّقص الإمبراطوريّة الأخيرة. كُنّا دائمًا معًا بعد ذلك.”
“صَـ… صَحيحٌ؟”
“لكِنْ يعتقدُ الكثيرون أنّ علاقتنا صَداقةٌ وليستْ علاقةً عاطفيّةً. ما هو السّبب برأيكِ؟”
“لا أدري.”
تجنّبتُ النّظرَ في عيني آرمين. لا أدري ماذا؟ إنّه بسببي أنا، التي أصرّتُ في الماضي على أنّنا أصدقاء.
“أنا لا أُحبّ ذلك. أنْ تُصوَّرَ علاقتنا على أنّها مُجرّد صَداقةٍ.”
بدا التّصريحُ ضيّقَ الأفق نوعًا ما، لكِنْ لم أشعرْ بذلك على الإطلاق. لأنّ رغبة التّملُّك والمَودّة الخطيرة التي تتلألأ في عينيه الأرجوانيّتين قطعتْ أنفاسي.
بالنّسبة لشخصٍ قادمٍ من بلدٍ يولي أهمّيّةً للآداب الشّرقيّة، فإنّ إظهار المَودّة أمام الآخرين أصعبُ من مُجرّد المُشاهدة، لكنَّ آرمين قالَ بحزمٍ:
“لذا عليكِ أنْ تعتاديَ على الأمر بسرعة.”
“أُمم.”
“ردّي.”
أومأتُ برأسي قليلًا لأرمين الصّريح، لدرجة أنّني تساءلتُ كيف لم أُلاحظْ ذلك من قبل.
“إذنْ، أوّلاً.”
اختفتْ تعابير أرمين المُتصلّبة فجأةً كذوبان الثّلج في شمس الرّبيع، وأمسكَ بيدي وضغطَ عليها. انجرَّ جسدي عن غير قصد، ووجدتُ نفسي جالسةً بجانب آرمين.
“أعتقدُ أنّه يجب أنْ نعتادَ على تشابُك الأيدي أوّلاً.”
بالرّغم من تظاهره بالحزم، إلّا أنّ طرف أذن أرمين كان أحمرَ وهو يحدّقُ في مكانٍ بعيدٍ خارج النّافذة. لا بُدَّ أنّني مجنونةٌ إذا خفقَ قلبي حتّى بهذا المظهر.
في العربة المهتزّة، وفي داخلها لا يوجدُ أحدٌ، نظرنا أنا وأرمين إلى أماكن مُختلفةٍ، لكِنّ أيدينا المُتشابكة لم تتركْ بعضها البعض حتّى وصلنا إلى المنزل.
التعليقات لهذا الفصل " 58"