عندما استخدمت هي جو لغة الإشارة، أسرع الأطفال بالاندفاع نحو الشجيرات ليختبئوا داخلها.
اجتاحت الأضواء الأمامية لسيارة جيب عسكرية المنطقة سريعًا قبل أن تمضي بعيدًا.
تنفست هي جو الصعداء وهي تمسح العرق البارد الذي تجمع على جبينها.
لقد مرت شهران منذ وصولها إلى أرغان.
بفضل شبكة علاقات شقيقتها، تمكنت من الوصول بأمان عبر وزارة الخارجية، لكن المشكلة بدأت بعد ذلك.
أين يمكن أن يكون؟
كل ما دفعها للمجيء كان مجرد احتمال واحد، لذلك بدا كل شيء غامضًا ومبهمًا.
في البداية، حاولت جمع المعلومات من خلال مراسلي الصحافة الأجنبية، وسألت عن أي شرقيين ربما شوهدوا في المنطقة، لكن محاولاتها باءت بالفشل.
كان قد خاض تجربة العمل كمراسل حربي ثم في القسم السياسي، وانتهى به الأمر مذيعًا للأخبار، لذا فكرت أنه ربما يكون في قلب مناطق النزاع المسلح.
لكن بعدها، عندما انتقلت إلى أكثر المناطق اشتدادًا في الصراع، وشاهدت الأطفال يسقطون برصاص البنادق، عجزت عن العودة إلى تلك المناطق مجددًا.
خصوصًا أن الأطفال الصم كانوا الأكثر ضعفًا، إذ لم يكن بمقدورهم التواصل مع أحد.
العجز عن الكلام يعني عدم القدرة على الاعتراض، مما يجعلهم أول من يُطلب منه الخضوع.
كانت هي جو تعرف هذا الواقع أكثر من أي شخص آخر.
لذلك بدأت بتعليمهم لغة الإشارة الدولية.
انشغالها بدور المعلمة جعل أيامها مزدحمة، وبمرور الوقت بدا العثور على بايك سا أون هدفًا بعيد المنال.
اكتفت بأن تطلب من مدير دار الأيتام، الذي كان يخرج أحيانًا إلى المدينة، أن يبحث لها عن أي معلومات.
طلبت منه أن يخبرها فورًا إذا سمع عن صحفي وسيم من أصول شرقية.
لكن المدير كان يعود دائمًا وهو يهز رأسه بأسف، معبرًا عن خيبة الأمل.
في البداية، شعرت بالإحباط وبكت عدة مرات، لكنها الآن أصبحت أكثر صلابة.
الأمل في أن ألتقي به يومًا ما، هو الشيء الوحيد الذي يدفعني للاستمرار.
『…لقد كشفوا أمرنا!』
في تلك اللحظة، أطلق المدير شتيمة مذعورة وهو يتراجع.
ظهرت مجموعة من المتمردين، نصف وجوههم مغطاة، وهم يوجهون أسلحتهم نحوهم.
『ارفعوا أيديكم! ضعوها خلف رؤوسكم!』
صرخ أحدهم بأمر بصوت خشن بينما يوجه سلاحه نحوهم.
الأطفال، الذين أصابتهم الصدمة، جثوا على ركبهم بخضوع.
هي جو أيضًا شبكت يديها خلف رأسها وخفضت نظرها نحو الأرض.
كانت الثقوب التي تركتها الرصاصات في أحذيتهم العسكرية الممزقة تبث الرعب في نفسها.
『سمعنا أن هناك مترجمة دولية للغة الإشارة في دار أيتام بيوبين.』
“……”
عضت هيجو باطن شفتيها عندما سمعت تلك الكلمات الإنجليزية المكسرة.
『يبدو أن هؤلاء الأطفال ينتمون إلى دار بيوبين.』
مر ماسورة السلاح الطويل على آذان الأطفال المتجمعين بخوف.
في اللحظة التي التقت فيها أعين هي جو بعيون الأطفال المذعورين، امتلأت بالخوف لكنها رفعت يديها بتردد شديد.
『أنا… أنا مترجمة لغة الإشارة.』
حاول المدير أن يُنزل ذراع هي جو المرفوعة، وهو يصرخ.
『لا، هي جو!』
لكن الأوان كان قد فات.
رجل ذو بشرة داكنة وحاجبين كثيفين ألقى نظرة متفحصة على هي جو.
『أنتِ مترجمة لغة الإشارة حقًا؟』
『…نعم، صحيح.』
『إذن، عليكِ أن تأتي معنا.』
『لا يمكنني الذهاب معكم.』
『حقًا؟』
ابتسم الرجل ببرود.
بإشارة منه، بدأ الرجال الواقفون خلفه برفع الأطفال وإدخالهم إلى صندوق شاحنة عسكرية.
حاول المدير التدخل، لكنهم أسقطوه أرضًا بدوسة من حذاء عسكري ثقيل.
صرخت هي جو، وقد تحول وجهها إلى شاحب.
『ماذا تفعلون؟!』
『أنتِ لا تريدين الذهاب، إذًا سيأتون جميعًا معكِ كرهائن.』
『.…..!』
『إذا لم تأتي، سيصبح هؤلاء الأطفال رهائن.』
حدقت هي جو في الرجل بنظرة غاضبة، فيما كانت تحسب خياراتها سريعًا.
『يجب أن أعرف سبب أخذي قبل أن أوافق.』
『نحتاج إلى مترجم.』
『مترجم؟』
『أسرنا رئيسًا في الجيش الحكومي. لكنه أصم. كان لديه أخ مترجم، لكن للأسف نسيت نفسي وأطلقت عليه النار.』
『.…..!』
『لذلك تعطلت مفاوضاتنا.』
أشعل الرجل سيجارة بهدوء ووضعها بين شفتيه، وكأنه غير مبالٍ بالموقف رغم خطورة كلامه.
ثم نظر إلى وجه هي جو مطولًا، كما لو أنه يحاول تذكر شيء ما.
『هل يمكن أن تكوني من كوريا―』
قاطعت هي جو كلامه فجأة بصرامة.
『دعوا الأطفال يذهبون.』
قطب الرجل حاجبيه عند مقاطعتها الحادة، وأخذ ينظر إليها بصمت.
『سأتبعكم.』
***
على الطريق الوعر، كانت السيارة تهتز باستمرار، مما جعل المقعد يهتز تحت هي جو مع كل مطب.
جلست معصوبة العينين وهي تُنقل إلى مكان مجهول.
تسربت رائحة عادم السيارة إلى أنفها، وصوت راديو قديم متقطع يُصدر تشويشًا مزعجًا.
حاولت أن تجمع أفكارها وهي تستقبل الهواء الذي يتسلل عبر النافذة المفتوحة.
إذن…
إذا كانوا يحتجزون شخصية بارزة من الجيش الحكومي، فهذا يعني أن هؤلاء بالتأكيد من المتمردين.
أخيرًا توقفت السيارة فجأة، وشعرت بيد قوية تمسك مؤخرة عنقها لتُسحب بعنف إلى الخارج.
اصطدم كاحلها بمقدمة السيارة، مما تسبب لها في ألم شديد.
『لا وقت لدينا.』
『.…..!』
『هل يمكنكِ الترجمة الآن؟』
『من فضلكم، فقط كأس من الماء.』
همست بشفتيها الجافتين، فأومأ الرجل برأسه وأشار لها بالتحرك.
ظلت هي جو تمشي بتردد وهي معصوبة العينين، تتحسس خطواتها بحذر. في كل مرة تتباطأ، كانت تشعر بفوهة بندقية تضغط على ظهرها.
بدأت تشم رائحة كريهة…
فجأة، ودون سابق إنذار، أزيلت العصابة عن عينيها.
“……!”
انكمشت عيناها من الضوء المفاجئ، واحتاجت بضع ثوانٍ لتتأقلم مع الإضاءة الخافتة في المكان.
وجدت نفسها في مخزن رطب، تتراكم فيه الرائحة العفنة. كان هناك غطاء بلاستيكي ممتد على الأرض، وركن مليء بأكوام من الأخشاب، وأنابيب بلاستيكية، ونشارة خشب متناثرة. بدا المكان وكأنه أنقاض مبنى قديم أعيد تجهيزه كمخبأ مؤقت.
وفي وسط الغرفة، كان هناك طاولة قديمة يجلس عندها رجل مسن، وحيدًا وصامتًا.
كان وجهه متعبًا ومتورمًا، مما أوحى لهي جو بأنه على الأرجح الشخص الحكومي الذي يتحدثون عنه.
شعرت بنبضها يتسارع بشكل جنوني أسفل عنقها. أخيرًا، بدأت تدرك حقيقة الموقف الذي وجدت نفسها فيه.
‘ماذا لو أخطأتُ في تصرفي هنا؟ هل سيقتلوني؟’
بدأ العرق البارد يتصبب من جبينها، وزاد إحساسها بالخوف عندما استمرت البندقية تضغط على ظهرها.
اضطرت إلى الجلوس بجانب الرجل الكبير على كرسي سحبته ببطء.
الرجل العجوز كان يتأملها بنظرات فاحصة، كأنه يحاول فهمها.
‘أنا مترجمة دولية للغة الإشارة. هل أنت بخير؟’
استخدمت هي جو لغة الإشارة في حديثها، فبدت على ملامح الرجل العجوز علامة ارتياح خفيفة.
‘أنتِ مترجمة للغة الإشارة؟’
‘نعم، هذا صحيح.’
وضع الرجل العجوز يده على جبينه وتنفس بارتياح.
:أنا قائد في الجيش الحكومي. هؤلاء الأوغاد أخيرًا أحضروا مترجمة للإشارة. يبدو أنهم خططوا لذلك.’
ظهر على وجهه ابتسامة ساخرة، قبل أن يتغير الجو فجأة.
سمعت أصوات خطوات ثقيلة على درج معدني متهالك يؤدي من الطابق السفلي. مع كل خطوة، كان الدرج يهتز، حتى ارتجت أرجل الطاولة المهترئة.
“……!”
تجمد وجه القائد، وسرعان ما بدأ باستخدام لغة الإشارة بسرعة.
‘إنه خبير التفاوض الخاص بالمتمردين. ليس من أرغان، لكن يُقال إنه على صلة قوية بقائدهم منذ سنوات. معروف عنه أنه أكثر دهاءً من الأفاعي―’
قاطعته حركة خشنة.
وُضع كوب ماء على الطاولة بطريقة حادة، لدرجة أن بعض الماء انسكب على يد الرجل الذي أحضره.
توقفت يدا القائد عن الإشارة فجأة.
『يبدو أن الضيف طلب ماءً.』
“……!”
تردد صوت الرجل في المكان كأنه صدى عميق، مما جعل قشعريرة تسري في عنق هيزجو.
رفعت رأسها بحدة، وبعينيها المصدومتين، التقت بنظرات الرجل الذي كان يقف تحت ضوء المصباح المهترئ.
كانت نظراته هادئة ولكن ثقيلة كأنها تخترق الروح.
“…….”
“…….”
شهقت هي جو بصوت خافت وهي تحاول استيعاب الموقف.
انزلق الوشاح الذي كان يغطي رأسها ببطء، كاشفًا وجهها الذي اسمرّ تحت شمس أرغان، مكسوًا ببقع من الغبار والزيت. شعرها، الذي كان يغطي بالكاد جبهتها، تدلى الآن بسهولة حتى أذنيها.
التعليقات لهذا الفصل " 66"