أصبحت هي جو بين ليلة وضحاها متهمة بأنها مجرمة أضرمت النار عمدًا وتسببت في اختناق ستة أشخاص بالغاز السام.
ربما كان ذلك الصدمة التي جعلتها تقطع كل اتصالاتها، حتى التهديدات التي كانت ترسلها بانتظام يوميًا في الساعة العاشرة توقفت تمامًا.
إذا كان هدف بايك سا أون هو إرعاب الشخص المهدد، فقد حقق نجاحًا ساحقًا.
فقد تصدَّر موضوع “التهديدات الصوتية المعدلة” قوائم البحث، ما أفقدها شهيتها تمامًا.
‘كيف أصبح صوتي صوت مجرم الحرق؟’
كلما فكرت في الأمر، شعرت بمزيج من القهر والغضب والارتباك.
لم تكن ترغب في تذكر صباح ذلك اليوم المشؤوم، لكن في الوقت نفسه، كرهت البقاء حبيسة الوحدة والضعف.
لذا قررت الخروج لأول مرة منذ أيام، مدفوعة برغبة خفيفة في القيام بشيء ذي قيمة.
‘رغم أنني أعرف مسبقًا أن وجهتي الوحيدة ستكون نفسها.’
كانت وجهتها مركز الترجمة بلغة الإشارة.
حالما دخلت، كادت أن تصطدم برئيس المركز هان جون، الذي كان يخرج متعجلاً وبملامح قلقة.
كالعادة، كان يرتدي قميصًا هاواييًا مشرقًا مع قلادة ذهبية.
رغم أنه كان دائمًا يوبخ موظفيه بأن ملابس المترجمين يجب أن تكون بسيطة كاللوح، إلا أنه كان الشخص الأكثر تأنقًا وصخبًا بينهم.
“يا إلهي! هي جو! الحمد لله على قدومكِ!”
قبض على يدها بحماس وكأنه التقى بملاك.
“يا عزيزتي، جئتِ في الوقت المناسب! أحتاج منكِ مساعدة صغيرة.”
سحبت يدها بصعوبة وسألته بلغة الإشارة.
‘ما الأمر؟’
قال وهو يحك رأسه بحرج.
“لدينا مكان شاغر اليوم، وليس هناك من يملؤه.”
خفض حاجبيه بحركة توحي بالاستعطاف.
‘ما نوع العمل؟’
قادها إلى مركز الاتصال الخاص بترجمة لغة الإشارة.
كانت الخدمة تقدم مساعدة للذين يعانون من صعوبة في السمع، حيث يعمل المترجمون كوسيط لإجراء المكالمات الهاتفية باستخدام الصوت أو النصوص أو الإشارة.
بدأ هان جون يتوسل إليها بعينين تملؤهما الرجاء.
“لقد تعلمتِ هذا من قبل، أليس كذلك؟ إذا كانت مكالمة صوتية، حوليها لزميلكِ. فقط افعلي ما تستطيعين القيام به. إنها ساعة واحدة فقط، أرجوكِ!”
ضم يديه معًا وبدأ في التوسل.
“أعدكِ بأنني سأكافئكِ مئة ضعف على هذا!”
رغم إلحاحه، بقيت هي جو هادئة وأومأت بتردد، تحك عنقها بتوتر.
شعر بالذنب وبدأ يملقها أكثر.
“بالمناسبة، أنا الآن عضو في مجموعة جديدة بالمجمع اللغوي الوطني، حيث نناقش كيفية ترجمة أغاني المغني الأمريكي كاريفا إلى لغة الإشارة…”
لكن تعابير وجهه تحولت فجأة إلى إحباط.
“الأمر صعب للغاية… كلمات الأغاني كلها… مثيرة.”
‘كاريفا؟ كلمات مثيرة؟’
نظرت إليه هي جو بتركيز بينما كان يلوح بيديه محاولًا إخفاء إحراجه.
“هذا ليس شيئًا أستطيع قوله أمام فتاة صغيرة.”
‘أنا لست فتاة صغيرة.’
“حسنًا، حسنًا.”
ربَّت بخفة على رأسها وأكمل.
“على أي حال، هناك حفل قريب، وسيوفرون مترجمي لغة إشارة. كنت أخطط لترشيحكِ لأنكِ تجيدين الإنجليزية، وهذا يجعل ترجمة كلمات المغني أسهل عليكِ.”
فور سماع تلك الكلمات، تذكرت عرض بايك سا أون بشأن منصب مترجمة الإشارة في القصر الرئاسي.
لحظة صمت جعلتها تلعق شفتيها بارتباك.
“إذن، من فضلكِ فقط ساعة واحدة! أنا آسف جدًا!”
ثم خرج هان جون مسرعًا، فيما ارتدت هي جو سماعاتها دون مقاومة كبيرة، وقدمت التحية لزملائها.
‘يمكنك التحدث براحة، لا مشكلة…’
كان هان جون مدير المركز شخصًا عرفته هي جو منذ أن كانت في التاسعة من عمرها.
في البداية، كان شابًا في العشرينيات مليئًا بالحيوية والمزاح.
ومع مرور الزمن، تطورت العلاقة بينهما إلى صداقة عفوية ومريحة، بينما على الجانب الآخر، تحولت علاقتها مع بايك سا أون، التي أمضت نفس المدة معه، إلى علاقة زوجية أسوأ من علاقة الغرباء.
‘أوه…!’
فجأة، عادت إلى ذهنها تلك اللحظة التي أمسكت فيها يده بقوة بفخذها، مما جعل ملامحها تتصلب بشكل دفاعي.
‘كيف أتذكر هذا بسبب مجرد تفكير عابر باسمه؟ يا لي من حمقاء!’
شعرت بالخجل لدرجة أنها صفعت خديها بخفة لنفض هذا الشعور.
‘كنت أرغب في الهروب من هذا الوضع، لكن ربما هذا أفضل.’
تجاهلت وجهها المتورد، وركزت على الشاشة أمامها، لتبدأ في تفعيل برنامج الترجمة.
ما إن فعلت ذلك، حتى بدأت المكالمات تنهال عليها واحدة تلو الأخرى.
تعاملت مع مكالمات بسيطة مثل تلك الموجهة للأصدقاء، وأخرى معقدة تتعلق بالمؤسسات الحكومية أو المالية. أدت دور الوسيط بجدية وفعالية.
كان الوقت يمر سريعًا وهي غارقة في العمل. وبينما كانت تمدد جسدها قليلاً، تلقت فجأة مكالمة فيديو.
‘مكالمة فيديو…!’
كانت هذه مكالمة خاصة بترجمة لغة الإشارة عبر الفيديو.
استعدت هي جو بثقة وهي تفرك أصابعها لبدء الترجمة، ثم ضغطت على زر الرد.
لكن ما رأته على الشاشة جعل أنفاسها تتوقف.
‘يا إلهي…!’
ملأ السماء الصافية الزرقاء الشاشة بالكامل. كان الفيديو يهتز قليلاً قبل أن يظهر وجه الشخص الذي يجري المكالمة.
بخلفية السماء الزرقاء، كانت خصلات شعره المجعدة تتطاير بفعل الرياح.
‘مرحبًا…’
بدأت هي جو بالإشارة لتحية المتصل، لكنها توقفت فجأة، وشعرت ببرودة تسري في ظهرها.
ظهر وجه رجل يبتسم بشكل غريب، وكأن ابتسامته ممتدة على نحو مريب وغير طبيعي.
—أختي الصغيرة، كيف حالك؟
“……!”
رغم أن الوجه بدا غريبًا، إلا أنه كان مألوفًا بدرجة تثير القشعريرة. اقترب أكثر من الكاميرا حتى ملأ ملامحه الشاشة تمامًا، مما جعل أنفاس هي جو تضيق وكأنها ترى كائنًا زاحفًا ومخيفًا.
—مر وقت طويل يا اختي، أليس كذلك؟
“……!”
ثم تابع بصوت بارد.
—بالمناسبة، هل تستخدمين هاتفي جيدًا؟’
ما الذي يقصده…؟!
كان التنفس يثقل، وراحت يدا هي جو ترتجفان بشكل لا يمكن السيطرة عليه.
‘لماذا ظهر فجأة؟ ألم يكن قد اختفى بعد تلك المحاولة الفاشلة؟’
—أنا أعرف هذا المكان. مركز الترجمة الصوتية. الرقم الرئيسي 107. هل يساعدونني حتى لو كنتِ مثلي؟
“…….”
—أريد الاتصال بشخص أيضًا. زوجكِ، بايك سا أون. اتصلي به من أجلي. بايك سا أون ون. تبًا، بايك سا أون!
“……!”
كانت هي جو عاجزة عن الحركة، مشلولة تحت وطأة الذكريات المرعبة لذلك اليوم.
شعرت وكأن المطر الذي كان يصفع وجهها وقتها يعود الآن كألم وهمي. اختنقت أنفاسها، وصدر عنها صوت متقطع وهي تحاول الشهيق.
—في ذلك الوقت، ساعدتني، أليس كذلك؟ تحدثتِ بدلاً مني. فلماذا لا تفعلين ذلك الآن؟ لماذا توقفتِ عن الاتصال؟ لماذا، لماذا، لماذا؟”
ضرب الهاتف بجبهته، مما جعل الشاشة تهتز بعنف.
—أنا في صفكِ، أختي.
تحول وجه هي جو إلى شاحب اللون، وفي الوقت نفسه راحت بأصابع قدميها تتحسس زر الطاقة أسفل الطاولة.
—لهذا السبب أشعلت النار، حتى أنني أشعلتها من أجلكِ.
“……!”
توقفت عن الحركة، متجمدة تمامًا في مكانها.
—هل كنت جيدًا؟ أليس كذلك؟
ابتسم بابتسامة مليئة بالفخر، ولكن عينيه الحاقدتين كانت واضحة، حتى مع الخصل التي تغطي جبهته.
“لقد أصيب أناس…!”
خرجت الكلمات من فمها للمرة الأولى بصوت خافت، لكنها كانت مهزوزة وغير مستقرة.
—لهذا كان يجب أن يموتوا جميعًا.
اختفى صوته المشوش وأسلوبه الفوضوي، وبدا الآن وكأنه يملك براءة غريبة تخيف أكثر مما تطمئن.
—ذلك الوغد تجرأ على تجاهل مكالمتكِ!
‘هل كان ذلك الهاتف الذي وجدته يومها هو بداية خلاص حياتي؟ أداة لإنقاذي من هذا العبث؟’
—استمري في الاتصال يا أختي. لا تتوقفي أبداً.
“لكن ذلك الهاتف… ماذا كان في الواقع؟”
—يجب أن تبقي صوتي حيًا، أليس كذلك؟”
كانت كلماته غامضة لكنها ملأت قلبها بشعور غريب من الرعب.
—مثلما ترغبين في سماع كلمات الطلاق، أنا أيضاً لدي كلمات أرغب في سماعها.
كان يتأرجح مثل أرجوحة، يقترب من الشاشة ويبتعد عنها باستمرار.
—لدي طلب، ويجب أن تتولي ذلك من أجلي.
ابتسم بعفوية، لكنه بدى أكثر خطورة من أي وقت مضى.
—احتفظي بالهاتف. استخدميه حتى يحدث الطلاق. أليس من المفترض أن أدفع ثمن استعارة صوتي؟ إذا انتهى بايك سا أون مدمرًا، فأنا سأكون سعيدًا. لكن بالمقابل…”
كان تذبذب الشاشة المتواصل كالبندول يزيدها ارتباكًا.
—يجب أن تستلمي الكلمات التي أريد سماعها.
شعرت هي جو بأن كلمات الرجل تضرب عقلها كالمطرقة. كان يطلب منها شيئًا يجعلها ترتعد بلا سبب واضح. وبالرغم من أن مطلبه بدا بريئًا في مظهره، إلا أنه حمل تهديدًا غامضًا جعل كل أعصابها متوترة.
وفجأة، وقفت عن كرسيها بعنف.
‘لحظة، المكان الذي هو فيه الآن…!’
ارتعش صوتها وهي تقول.
“أين… أين أنت الآن؟”
رد عليها بسحب الكاميرا بيده ليظهر مشهدًا تحول فجأة من النقاء إلى اللون الأحمر القاني. بدا وكأن رائحة الدم تخترق الشاشة نفسها.
“……!”
رفع كفه أمام الكاميرا وابتسم ابتسامة أشبه بالزهرة التي تفتحت على نحو شنيع. كانت يده مغطاة بالكامل بالدماء.
—هل تفهمين، يا أختي؟ إذا بدأت شيئًا، عليكِ أن تنهيه.
أبعدت هي جو سماعة الرأس عنها ورمتها بجنون، ثم ركضت خارجة من غرفة الاتصالات كأنها مسحورة.
رمقها زملاؤها بنظرات تعجب، لكنهم سرعان ما عادوا إلى أعمالهم.
حاول مدير المركز هان جون، الذي كان قد عاد لتوه، أن يوقفها.
“هي جو! إلى أين تذهبين؟!”
لكنه لم يحصل على إجابة.
في رأسها، كانت آخر كلمات الخاطف عالقة كالمسامير.
—إذا لم تفعلي ذلك، ستخسرين كل شيء.
***
“…أوه…”
كان صوت والدها يصل إلى خارج الغرفة، مليئًا بالألم.
دفعت هي جو المارة لتصل إلى والدها المحاط بالشرطة. كان أول ما رأته هو الشرشف الأحمر الذي لم يُرفع بعد.
تعرفت عليها الممرضة المسؤولة وهرعت إليها، مذعورة.
“ظننت أنه من الضروري إبلاغ الشرطة…”
كانت آثار الدم واضحة على فم والدها، وعنقه، وحتى مقدمة ملابسه. بدا كل شيء أحمر بشكل لا يحتمل.
شعرت هي جو برجليها تتخليان عنها، وكادت تسقط من شدة الصدمة.
التعليقات لهذا الفصل " 16"