استعاد كلماته و هو يرتب عقله المشوش بسرعة ,ثم رفع جسده و اتجه نحوها بخطوات ثقيلة عكست الهم الذي يجوب روحه.
” لا ….”نبرة هائمة و متوترة .
اقترب شبرا حتى وصل إلى جسدها الصغير و جلس وضعية القرفصاء للنظر في عينيها مباشرة ,عندما فعل ذلك تقابلت أعينهما و هما يتبادلان الألم بعجز .
لم يتردد الأب المحطم في الإمساك بيد روبي الرقيقة ثم دسها بين يديهم الخشنة ليطمئنها ,كان هذا أمام ناظري روبي التي تتبعت كل لحظة من المشهد بمهارة و هي ترسم تعبيرا باردا .
” لا يمكن ذلك …لا يمكن لروبي ماير أن تكون طفلة مؤذية في نظر أي شخص في هذا العالم الكبير ….أتعلمين لماذا ؟” شدد قبضته عليها بينما رقق نبرته لتتناسب مع موقفه الحنون.
” لأن أي طفل لا يمكنه فعل شيء قاس متعمدا …”أوضح عندما أمالت روبي رأسها نحوه بخفة ,عيونها تلمع بالقهر .
“لا تعرفين ذلك ,لكن الأشخاص الخائفون قد يتفوهون بكلمات قاسية عن غير قصد أحيانا …لكن هذا لا يعني أننا دائما مخطئون …”,أوضح ذلك عندما فهم أن روبي استنتجت الجملة من حديث بيرثي الجدي .
رفع ذراعه نحوها بينما مسح بأطراف أصابعه المخدوشة وجه روبي الرطب .
لقد انهمرت الدموع المحبوسة على خديها من جديد ,احمر أنفها من الحرارة المتصاعدة داخلها و هي تبكي ,لم يمانع والدها ذلك ,فقط واصل مواساتها بصبر .
رسم خط شاحب على وجنتيها المتوردة ,لتحديد مسار الدموع المتدفقة بغزارة و كأنه تم التخلي عنها لمدة طويلة لتمتلئ بهذا الشكل .
لا يزال يمسكها بإحكام و هي تبكي بحرقة .
“… لكن علينا أن لا ننكر أخطاءنا بعد كل شيء.. ….نعترف بها و لا نكررها مجددا …..أهذا مفهوم …؟”
رفع جسده عن الأرضية الخشبية المبللة بدموع روبي التي وقفت و هي تندب بحزن ,عندها عانقها بشدة و كأنه يخاف من فقدانها ,فقدان روحها المرحة إلى الأبد .
مسح على رأسها و شعرها المهمل الذي ارتفع عند كل لمسة .
“لا بأس …ستكون الأمور على ما يرام قريبا …”هدئها بروية و هو يحاول خلق جو مريح قدر الإمكان عند استعمال خبرته في تربية روبي وحيدا لسنوات طويلة ,سنوات حياتها .
يحميها من الانهيار و الضياع في أول خطوة ,لقد داهمته فكرة مؤخرا ,ماذا ستفعل روبي وحيدة إذا توفي ؟هل ستتمكن من العيش وحدها؟تتحمل مشاق الحياة ؟تطبخ لوحدها ؟أليس هذا صعبا ؟ تنهد بكتمان لأفكاره ثم لوح بها بعيدا عن رأسه .
“لا يزال الوقت بعيدا …”تنهد و هو يسخر من نفسه .
“لا أزال أمتلك متسعا من التفكير …حتى ذلك الوقت “طمأن نفسه بحماقة .
####
“سمعت أنكم ستذهبون في جولة صيد “أوضحت غريتا لحفيدها عندما أوشك هو على المغادرة.
“نعم جدتي …”كلمات مهذبة و مختصرة تفوه بها نواه .
وقف منتصبا بين فيليب و ماتياس .
كان بالفعل يرتدي ملابس صيد أنيقة بينما رفع شعره الناعم إلى الأعلى بثبات .
توجهت نظراته الهادئة نحو غريتا التي بدت خارجة في نزهة مسائية معتادة .
” تفضل سيدي ….”تنهد الخادم الذي بدا في العقد الخامس من عمره و هو ينحني باحترام .
بين يديه رفع بإحكام سلاح الصيد المصقول بعناية .
مد نواه يده و أخذ نظرة خاطفة على الزناد قبل أن يضع السلاح برفق في مكانه .
انحنت شفتي فيليب في ابتسامة بينما رفع حاجبيه ,اقترب بضع خطوات من نواه حتى لامس البندقية الثمينة بخفة ,أخذها من يده ثم رفعها نحو عينه لتجربتها باستهزاء .
” كما توقعت, إنه ثقيل …”
قال فيليب و هو يميل بالبندقية قبل أن يعيدها إلى نواه بلا اكتراث.
“مثل حس دعابتك تماما …” ضحك بمرح ثم أطبق شفتيه عندما لاحظ الهدوء الرهيب في المكان حتى من طرف ماتياس ,شريك نكاته اليومية .
أمال نواه رأسه في إيماءة صغيرة و هو يستعيد البندقية الطويلة التي سرعان ما تم وضعها و تثبيتها بإحكام على كتفه .
كان هادئا و باردا بشكل مبالغ فيه أقرب إلى اللامبالاة ,نعم ,لقد كانت الكلمة الأنسب التي وصلت إليها غريتا التي تسحبت لأخذ نظرة خاطفة على حفيدها الشاب و معاينته تماما ,كان الأمر أشبه بقراءة تصرفاته و تحليل سلوكه .
بعد سنوات عيشهما معا ,هل يستطيع هذا الفتى تحمل مشاق التجنيد في غضون عام من الآن؟
لكن ,إذا تصرف على هذا النحو المعتاد سيكون من المعقول أنه سيتأقلم بسهولة ,كانت تدرك مدى قبح الفكرة لكنها لم تبعدها عن ذهنها, إذا كانت جميع الطرق قد تؤدي إلى نتيجة واحدة فستختار الطريق الذي يمكن أن ينجح و لو بنسبة قليلة .
رغم عدم تقبل لويزا للفكرة ,إلا أنها ستوافق .
ستخبر مجلس الشيوخ غدا بقرارها ككبيرة لعائلة آل غيلبيرت ,حينها ستعود المياه إلى مجاريها من جديد.
لقد تمنت ذلك من أعماق قلبها .
” كل شيء جاهز فلنرحل …”أوضح ماتياس بهدوء ممزوج بالمتعة و هو يقلب سلاح الصيد خاصته باهتمام.
“احذروا الغابة الشرقية …الأرض هناك زلقة …”
قالت بنبرة خافتة و هي تتفحص مظهر نواه الثابت ,من رأسه إلى أخمص قدميه .
ابتسمت غريتا بأناقة كما ابتسم نواه بشكل مهذب ردا على اهتمامها الغير مألوف و لم يكن لفيليب إلا أن يبتسم بشغف أيضا عندما لاحظ لطف الجميع من حوله .
” شكرا لك سيدتي …وداعا “لوح لها بأدب بعد أن قبل سطح يدها بنبل يليق بأمير .
عندما تم تقرير المغادرة, تحرك الجميع لكن نواه في جزء من الثانية توقف بظهره ثم التفت نحو غريتا التي لا تزال تقف منتصبة .
“سأكون هنا عند الغروب “قالها ببرود كما لو أنه قدم وعدا بسيطا.
“سأكون في انتظارك …عزيزي “أوضحت بلطف .
لكنها جملة رنت في أذن نواه “سأكون في انتظارك عزيزي “,لا بد أنها ستخبره بشيء ما .
هذا أمر مؤكد, لا يمكن لجدته أن تتسحب إليه لمجرد جولة صيد عشوائية بهذا الشكل دون رغبة خفية منها, لن يكون الأمر معقولا .
حلل نواه في ذهنه, ثم رحل خلف ماتياس و فيليب اللذان كانا في المقدمة يتبادلان أطراف الحديث بحماس.
وضع يده في جيبه و هو يفكر .
تحرك الثلاثة نحو البوابة الخارجية للقصر بينما بقيت غريتا تراقب ظهر حفيدها من الداخل بعيون عميقة.
ابتلعت الممرات الخارجية و الطرق الحجرية للقصر الكبير مظهره بعد فترة وجيزة .
” أنا آسفة …آسفة بصدق .. !“تنهدت بالخذلان عندما استدعت رئيس الخدم الذي لا يزال واقفا.
غيرت موضع رأسها نحوه ثم تحدثت بخفة بينما اتخذت قرارا مصيريا .
” أرسل الرسالة التي كتبتها إلى المجلس ….حالا!! “أمرت بقسوة .
أومأ الخادم ثم رحل بطواعية .
.#####
استيقظت بيرجيت على دوار خفيف في رأسها ,شعرت بثقل في جسدها المتعب.
عندما أمالت رأسها المتكئ على الوسادة الخفيفة رصدت عيناها العسلية الوهج البرتقالي المنبعث من النافذة المكشوفة ,ضيقت عيونها لمجرد لمس الشعاع الخافت لها, بينما انقسم إلى عدة شظايا صغيرة يمكن ملاحظتها في الجو.
نظرت في الفراغ بضع لحظات و هي مستلقية على الأريكة التي انبعث منها الدفء إلى ظهرها .
لا تزال تشعر بالإرهاق لكنها كافحت ,
الحمى انخفضت كما أن وتيرة تنفسها أصبحت أهدأ.
جسدها لم يعد يحترق ,حركت رأسها قليلا عندما شعرت بثقل في يدها عندها انتبهت إلى بيرثي التي تمسكها بقوة خفيفة, رافضة تركها بعناد.
كانت نائمة على طرف الأريكة, رأسها مائل بينما كان جسدها موضوعا على السجادة السميكة .
شعرها الطويل تدلى بعشوائية و رموشها كانت تبدو أطول .
ملامحها متعبة و كأن النوم باغتها بينما لا تزال تمسك بقطعة القماش الرطبة بإحكام .
تحركت بيرجيت بخفة من مكانها ,تناغم طرف فستانها الأبيض الرقيق مع كل حركة منها.
وضعت قدمها الحافي على الأرضية الخشبية الباردة ,أسندت جسدها المتعب.
لم تبتعد كثيرا حتى شعرت بقبضة محكمة على ذراعها لكنها لطيفة .
” لا …”
همست بنبرة مثقلة بالنوم .
عيناها نصف مغمضتين بينما واصلت حديثها .
“لا تذهبي ….”ناشدت و هي في نصف واعية .
توقفت بيرجيت ثابتة ثم استدارت بخفة نحوها كما لو أن قلبها يلين .
فتحت بيرثي ثغرها الصغير و هي تنظر في الفراغ كما لو لم تكن واعية تماما لكنها تحدثت بكلمات صادقة ,لم تعد تعرف كيف تحجبها تماما .
“أنا… آسفة ….”تنهدت .
” لقد كنت قاسية …عندما طلبت منك …الابتعاد عن روبي “أفصحت بينما فتحت عينيها بصعوبة .
“لم يكن قراري صائبا ….لم يكن من الصحيح أن أطلب منك ذلك “
ارتجفت يدها قليلا .
“أنا …فقط كنت خائفة … “
توقفت بيرجيت ثابتة بينما تلون وجهها بوضوح .
“خائفة…؟”كما لو لم تفهم .
“من خسارتك ….”
رنت الكلمات في رأس جيت و هي تحاول استيعابها عندما لم تجب ,فقط اكتفت بالصمت و الوقوف كالصنم.
اقتربت من جسد والدتها الضعيف و قبلت جبينها بلطف مرهف و هي تمس على شعرها الداكن برقة كما لو أنها تحمي كنزا ثمينا .
لا تزال بيرثي بجفون نصف مغلقة ,بدا الأمر كما لو أنها أوشكت على الضياع .
“أنا أعلم …”أمسكت يدها بخفة .
” لم تقصد والدتي الأذى أبدا ….”عانقت كلماتها قلب بيرثي .
جلست بيرجيت على الأرض و هي تضع كاحلها فوق الخشب مباشرة بينما تدلى جسد بيرثي بإهمال.
ذرفت بيرثي دمعة فارة بصعوبة عندما أغلقت العيون الخضراء اللامعة تماما .
صوت أنفاسها ملأ قلب بيرجيت و هي تغادر الغرفة .
انسحبت بهدوء مربك ثم ارتدت وشاحا خفيفا على عجلة ,حملت جسدها خارج المنزل و هي تركض .
لأنها كانت تعرف أين تذهب , في النهاية استمعت إلى صوت قلبها فقط.
.###
جلست روبي على حافة النافذة الكبيرة في غرفتها تنظر مباشرة إلى الخارج عبر الزجاج الأملس تراقب طريق الغابة المؤدي إلى نهر ريس بعناية,عيونها الزرقاء الواسعة منتفخة كأنها تفضح كل دمعة من دموعها سابقا .
“عزيزتي …..”اقترب راينر عندما انتهى من غسل الصحون .
أومأ رأسه و لمس بأطراف أصابعه وجنتيها بلطف شديد.
انتفخت شفتيها بشكل مضحك اثر لمسته .
“أبي …دعني أذهب إلى منزل بيرجيت …”
رفع رأسه قليلا و كأنه يفكر .
“سأطمئن عليها فقط …”ترجت بابتسامة مشرقة ,مع طريقة مسكه لها بدت مضحكة تماما و هي تتوسل بشقاوة .
حاول راينر رسم وجه عبوس لكنه فشل .
“لكن الغروب أوشك …”غير نظراته نحو النافذة المطلة على الخارج كإشارة .
“لا ….سأعود بسرعة …أعدك “وضعت يدها على ذراعه برقة .
رجت بشدة .
عم السكون المكان بينما كان راينر ينظر إلى ابنته مطولا .
” لماذا …تتشبثين بها ..إلى هذا الحد…؟”
سأل بفضول و هو يضيق عينيه بحدة .
لم تجب روبي فورا بل أغمضت عينيها و كأنها تسترجع ذكريات ثمينة ,أشياء حلوة شاركتها مع بيرجيت ,ربما الأمر الذي جعلها متعلقة بها إلى هذا الحد هو …أيامهما الجميلة في ريس .
تسلل إلى ذهنها كل شيء دفعة واحدة.
صوت ضحكات بيرجيت ….ابتسامتها…الركض في حقول المزارع عندما يتم القبض عليهما …توت الغابة الذي تناولتاه بلا كلل مرارا …يد بيرجيت تمسك يدها ….مشهد الغروب الذي تقاسماه بينما تشاركا أحلامهما الطفولية معا ….
بدا كل شيء ثمينا و مرسخا في ذاكرتها المصون .
رفعت رأسها و عيناها تلمع بشوق مدفون.
“لأنني أحبها .. “
كانت كلمات لم تصرخ بها لتظهرها بل كان وقعها شديدا كما كان صادقا ,كلمات تفوهت بها بعد عناء من أعماق قلبها بعد أن فهمتها تماما .
“هي أختي الوحيدة …العزيزة على قلبي “
ابتسمت بصدق .
لأن بيرجيت شولر كانت إنسانة عزيزة عليها بقدر لن تعبره الكلمات و هي تعرف ذلك أكثر من أي شيء الآن.
تجمد راينر ,لم يتوقع كلمات روبي المباغتة هي تنظر إليه بحماس.
شعر بنقزة في صدره …جمعت بين الحزن و الفخر في ألم واحد.
أفسح لها مجالا قبل أن يتكلم “اذهبي …و احترسي طريق الغابة ….و أيضا عودي بسرعة “
كانت أمرا أكثر من كونها نصائح .
عدد لها المهام كما لو كان يكتبها في رأسه .
خرجت روبي بسرعة تاركة المنزل فارغا ,فقط حوار بين راينر و أفكاره المعقدة.
.###
في مكان آخر جرت بيرجيت بين العشب الطويل الذي نما بحلول الربيع ,كان يصل إلى أطول من كاحلها بقليل .
لكن الركض و تنفس الهواء البارد في حلقها جعلها تشعر بالمرض ,شعرت بالبرودة في أنفها الذي احمر بوضوح .
كان الأمر صعبا خصوصا أنها لم تشف بعد .
شعرها الذهبي الطويل على شكل ضفيرة ارتفع مع كل قفزة صغيرة, و عيونها التي ضاقت باستمرار من الغبار المتصاعد جعل في قلبها غصة أكبر للوصول .
لكانت تمشي بثبات في الطريق الذي حفظته من أيام عيشها في ريس بعقل مشوش.
و في المنعطف الصغير نحو منزل روبي ,بزغت أشجار البلوط الكبيرة التي أزهرت .
جرت هي عبرها كما لو كانت ورقة من زهرة عباد الشمس تسري عبر الوادي بخفة .
كلما زادت مدة ركضها شعرت بالإرهاق و الإعياء و طالب جسدها بالتوقف لكنها رفضت لأنها تتوق إلى رؤية روبي بأسرع ما يمكن .
عندما كانت الرؤية ضبابية ظهر لها شكل من بعيد ,من الجانب الآخر من الطريق الذي امتد لعدة مترات قليلة .
تعرفت بيرجيت على الشخص و واصلت الركض بحماس كان أقرب إلى الشوق. و عندما واجهته على بعد خطوات قليلة توقفت لاسترجاع أنفاسها بتلهف .
“ضننت أنك لن تأتي…”قالت روبي و هي تبتسم.
“” هوف …و أنا خفت أن أصل متأخرة …” تنفست الصعداء بصوت مبحوح .
كانت نبرتهما مختلفة و لكن بقلب واحد ,أجسادهما المتباعدة بينما رسمتا خط الأمل بينهما .
شعرتا بالسعادة المتنامية على وجه الدقة كما لو أن كل واحدة رأت الأخرى بعد زمن من القهر .
بمجرد التقاء أعينهما أثلج الكرب من الفؤاد و ارتخت أجسادهما ,صفى ذهن بيرجيت المشوش و ذاب ألم روبي المتنامي عندما لمعت عينيها الأمل.
التعليقات لهذا الفصل " 17"