عندما أغلق راينر باب المنزل بقوة دوى صدى الخبطة على طول الممر الرئيسي .
بدا غاضبا و هو يمسح على شعره الذي تخلله الشيب , وقف منتصبا و هو يحدق في الفراغ ,عندما كانت روبي لا تزال ثابتة في مكانها .
رغم ذلك فشل في معرفة أنها كانت هناك ,معه في كل لحظة .
أخذ نظرة خاطفة قبل أن يحمل قبعة القش الخاصة به و يخرج من المنزل بثيابه المهملة .
مزاجه المضطرب انعكس على وجهه العابس في حين أن عروق يديه برزت .
بعد مدة من التحديق تأكدت روبي من أن والدها خارج المنزل .
بخطوات بطيئة اتجهت نحو الباب الخشبي بينما لاح جسدها في الأفق .
وقفت تنظر حولها و كأنها تنتظر عودة والدها ليواسيها ,يشرح لها الأمر و يهدئ دوامة تفكيرها .
لكن رغم انتظارها لم يفتح الباب مجددا , لم ترى صورة والدها اللطيف و هو يمسح على ظهرها بحنان بينما يخبرها أنها ليست مخطئة .
لم تشعر روبي بأنها مكسورة و محطمة إلى هذا الحد من قبل ,ربما لأن الأشخاص من ولها دائما ما كانوا بجانبها .
انقباض صدرها و تسارع وتيرة نبضها و هي عاجزة عن التنفس جعلها تحكم على ملابسها بخشونة توترها المستمر بينما ارتجفت سيقانها النحيلة جعلها تعود نحو الوراء لترتكز على الجدار البارد .
خارت قواها تماما عندما وضعت ثقلها على الأرض دفعة واحدة .
أنفاسها الغير المنتظمة أصدرت صوتا يلسعها في حنجرتها ,شعرت بالبرودة في جسدها تنتقل إلى عنقها الشاحبة .
“هوف …هوف “صوت أنفاسها السريعة .
عقدت حاجبيها فور احمرار وجهها و تكدس الألم المتنامي داخلها تجعلها ترغب بالنحيب و البكاء بلا رقيب .
عندما واجهت هذه الرغبة غطت فمها بسرعة لتمنع الصوت الصادر من ثغرها .
أحكمت قبضتها الصغيرة .
شهيقها تعالى و هي تكتم على فمها .
كان الأمر بائسا ,مؤلما و لا يطاق .
شعور الوحدة و التعاسة معا لا يمكن تحمله .
كانت مشاعر روبي في تلك اللحظة لا يمكن مقارنتها بأي ألم جسدي .
جسدها يرتعش ,أقدامها البيضاء على الأرضية الخشبية عندما غطت ظلال شجرة الصفصاف الكبيرة أشعة الشمس الدافئة تماما.
######
جرت بيرثي فستانها على طول الطريق وصولا إلى كوخها البسيط .
تكاد تفقد أعصابها و هي تعقد حواجبها البنية معا في شكلها الغاضب .
شعرت بالاهانة عندما تم تجاهلها و كأنها غير موجودة .
” لا يصدق …”بصوت مرتعش ممزوج بكتمان الانفعال و هي تطبق شفتيها الحمراء معا.
عندما لاحظت شجرة الصفصاف من بعيد شعرت بالقليل من الراحة على قلبها .
عندما هبت ريح دافئة كنسمة الربيع المعتادة أخذت نفسا عميقا ثم دخلت المنزل .
العتمة داخل البيت كانت شديدة ,لم تتمكن بيرثي من الرؤية .
النوافذ مغلقة ,الستائر متدلية من الجانب إلى الجانب.
اضطرت بيرثي لفتح النوافذ و كشف ستائر الدانتيل الخفيفة .
تمكن التدفق اللامع من الانعكاس على الأسطح مرة أخرى عندما أضاء المكان .
تحرك فستانها مع كل خطوة .
كان الغرض من ذلك إيقاظ بيرجيت النائمة .
لكنها لم تجدها في غرفتها .
“بيرجيت …بيرجيت “صرخت بيرثي بقلل .
صوت كعبها و هي تخطو خطواتها السريعة ملأ الغرف الفارغة .
” بيرجيت ….”نبرة مليئة بالارتياح.
كانت جيت تنام على أريكة الصالة و هي تغطي جسدها المنهك بلحاف سميك .
اتجهت بيرثي نحوها و رفعت الغطاء الذي أخفى جسدها الصغير داخله .
عندها تمكنت من رؤية وجهها المتوهج و هي تسيل بالعرق البارد ,وجهها شاحب و أنفاسها متقطعة
عيونها منتفخة و محمرة .
شعرت بيرثي بالتوتر و الخوف على ابنتها المريضة و مظهرها الذي يقطع القلب .
لمست جبينها فشعرت بسخونة لاسعة فيه.
لم يكون بوسعها سوى جلب صحن بالماء البارد و قطعة قماش بينما بللتها باستمرار ثم وضعتها على جبينها ,حاولت بيرثي أن تطلب منها شرب الماء لتقليل مستوى الحرارة .
ارتسم على ملامح بيرثي الانكسار على حالة ابنتها .
احمر طرف عينيها الخضراء التعيسة و تلألأ بالدموع و هي تعمل بلا كلل لاخفاض الحرارة .
” عزيزتي ..تماسكي “و هي تحاول تعصر قطعة القماش بعد تبليلها بالماء .
كلما وضعت القماش على جسدها و مسحته تنهدت بيرجيت كأن البرودة المؤقتة تمنحها سلاما غير دائم لأنها سرعان ما تعود لأنفاسها المتقطعة التي غمرت في الماء .
عيونها نصف مغمضتين و هي تنظر إلى بيرثي الحزينة .
لعقت بيرثي شفتيها بألم و بحركة رقيقة منها وضعت بيرثي في موضع مريح لجسدها المحموم.
مررت بيرثي القماش كل مرة حول عنق بيرجيت و تروقه صدرها بصبر ,حاولت صنع ابتسامة على شفتيها لتطمئن ابنتها المتعبة رغم أنها تعلم أنها ليست في وعيها الكامل لأن هذا الشيء الوحيد الذي يمكن أن تفعله من أجلها .
######
أمضى راينر يومه بالكامل عابس الوجه هو يقبض على ملامح وجهه بتعاسة .
حاول العديد من رفاقه من بينهم البستاني نوح كولين الحديث معه بهزار عندما لاحظ مزاجه المتعكر,لكن راينر لم يتجاوب مع كلمات زملائه فقد تملص النظر و رفض الكلام كم لو كان يضرب عنه .
قبعة القش الذي غطت نصف وجهه بينما رفع أكمام قميصه و حمل المجرفة بقوة .
العرق الذي يسيل عليه دليل على إرهاقه الشديد كما لو كان يصب غضبه كله في العمل حتى في وقت الراحة لم يتوقف عن الاهتمام بالحديقة التابعة لدوقية آل غيلبيرت .
يتم رفع النبتة الجديدة …حفر حفرة صغيرة بالمجرفة ….وضعها ثم يتم تغطيتها بالتراب .
تدنست قفازاته بالغبار و التراب عندما يلمسه كل مرة .
” ما بالك راينر ؟”بصوت مسموع تحدث الرجل بجانبه بينما وضع ذراعه فوق كتفه في وضعية خفيفة لا يزال راينر منزعج لكنه لم يرفض موقف صديقه فقط باح بكلمات مختصرة :”مؤخرا أشعر بالإرهاق …هذا كل شيء “تنهد بخفة .
أدرك الرجل أنه يكذب بالفعل لكنه امتنع عن وضع راينر في موقف مرج طالما رفض التكلم .
استعاد ثباته و واصل العمل .
بدى راينر الأكثر نشاطا ,لم يعرف أي منهم أن عقله كان غائبا بالفعل .
كل ما يشغل تفكيره هو كيفية مصارحة روبي بذلك .
تلك المرأة تحدثت كما لو كانت ابنته اللطيفة شخصا سيئا أو فيروسا معدي لابنتها .
صديقة روبي الوحيدة .
لقد حاول تفهم موقف الأم القاسي قصد حماية ابنتها ,لكنه لم يفكر في موقف بيرجيت كثيرا .
فقط روبي ,كيف سيخبرها ؟كيف ستكون ردة فعلها “
سيكون من المؤكد أنها ستنهار خصوصا أنها تلقي اللوم على نفسها فيما حصل لبيرجيت عندما غرقت .
يعلم أنها كانت متهورة ,لكنها ليست بالغة ليتم تعذيبها نفسيا بهذا الشكل .
واصل التمتمة بغرابة بينما لعن المرأة القاسية التي تضن نفسها لا تخطئ .
” اللعنة …السيدة شولر تلك …” تمتم بالسب بينما لم يفهمه الرجال من حوله .
لم يحاولوا فهمه حتى, طالما كان غاضبا فهو لسبب وجيه ,فكر نوح .
فجأة ,توقف راينر في مكانها ثابتا و هو يستوعب نفسه .
لقد خطط لشراء الغداء له و لروبي التي تتضور جوعا الآن ,لكنه غضب و خرج بينما نسي نفسه تماما .
“يا الهي “صرخ و هو يضع يده الخشنة على وجهه .
####
في قصر آل غيلبيرت, بشكل دقيق غرفة نوم الدوقة الأرملة .
اتكأت الدوقة غريتا على وسادتها الناعمة المخملية بينما غطت الجزء السفلي من جسدها بلحاف رقيق و هي ترتدي ملابسها الغير رسمية , برفق قلبت الظرف بين أصابعها النحيلة .
كان اسم المرسل خلف الظرف مكتوبا بخط جميل يشبه خط امرأة تعرفها .
“يوجيني كلارك “قرأت شفتيها الاسم بعناية بينما تغيرت تعابير وجهها للأسوء .
لم تكون الغرفة فارغة بل كانت لويزا فون غيلبيرت زوجة ابنها تجلس بجوارها .
ارتجفت أنامل السيدة النبيلة و هي تتفحص الظرف بعناية تامة ,تصب تركيزها فيه ,تقلبه و كأنها تشك في اسم المرسل .
“أمي …”نادتها لويزا بقلق .
كانت زوجة ابنها تجلس على طرف السرير الواسع و هي تغير موضع خصرها نحو غريتا المهمومة.
لم تتحدث غريتا فقط اكتفت بالصمت الرهيب و هي تفتح الظرف و تخرج الورقة بداخله.
عضت شفتيها معا قبل أن تبدأ عيونها الزرقاء الضيقة تتبع الكلمات و الحروف المكتوبة بشكل مرتب و أنيق .
“إلى الدوقة غريتا فون غيلبيرت، الأرملة”
أعتقد أن هذه الرسالة ستصلك قبل رحلتك إلى الجنوب. فقد بلغني مؤخرًا ما جرى في المأدبة الأخيرة، ولم يكن صعبًا عليّ توقّع انسحابك المؤقّت ريثما تخمد التكهّنات التي تحيط باسمك. فالانسحاب والتستّر، كما يبدو، خيارك المألوف كلما اقتربت الحقيقة أكثر مما ينبغي.
أكتب إليك لأعلمك بأنني أعيش حياة مستقرة مع زوجي، ورغم ذلك لا يزال بيني وبين ابنك الوحيد، الدوق، تواصل قائم. وحتى وإن لم أكن شريكته بشكل رسمي، فلا تظني أنكِ — أو الدوقة — قادرتان على الوقوف في وجهي أو إملاء ما يجب أن أكونه.
لا يسعني إلا أن أتساءل: لماذا لم تواجهيهِ بالحقيقة، رغم علمك الكامل بها؟ أهو الخوف، أم العجز، أم ذلك الجبن الذي تحاولين إخفاءه خلف الألقاب والمكانة؟
على أي حال، أتمنى لك أن تقضي أيامك المتبقية — مهما قصرت — في هدوء يليق بامرأة اختارت الهرب بدل المواجهة.
“يوجيني كلارك”
ارتجفت أصابع غريتا التي تخللتها علامات الشيخوخة من الغضب و الغيض من عشيقة ابنها المتعجرفة ,وضعت الورقة جانبا فوق الطاولة الزجاجية بجوار سريرها.
نعم ,لقد كانت المرأة الحقيرة متزوجة منذ مدة و لكنها لا تزال تركض وراء ابنها الدوق ,الذي كان غبيا للغاية للتورط مع هذا النوع من النساء .
ذلك الرجل الغير مسؤول ,امتلك زوجة و ابنا لكنه سافر إلى الجنوب بحجة العمل ,كان أحمقا لأنها تعرف بذلك منذ مدة و لكنه ظن أنه ذكي جدا ليخفي عشيقة في الخفاء بشكل دائم .
لسنوات طويلة ,كافحت هي و زوجته لويزا للحفاظ على ماء الوجه بينما كان شخصا يتصرف كصبي متهور دون اهتمام للعواقب ,يمكن النظر إلى ابنه بشكل عقلاني أكثر .
نظرت إليها لويزا بخفة بينما حافظت على ملامح ثابتة بشكل بارد كما لو أنها غير مهتمة .
“أووووه ….ماذا قالت ؟”تنهدت بسأم .
موقفها جعل غريتا تتوتر بقلق ,غرابة تصرفاتها نحو حياة زوجها الشخصية الملتزمة بالخيانة المستمرة .
اعترفت غريتا أنها حصلت على زوجة ابن مثالية لرجل بائس كابنها ,تمنت لو أنها من دمها و لحمها بالفعل .
“لا شيء …مجرد ثرثرة معتادة …”تنهدت بأسى .
ابتسمت لويزا على مظهر حماتها الى جانبها بينا اقتربت منها و حضنتها برفق .
“لا تقلقي أمي …سأكون بجوارك دائما “أفصحت بنبرة رقيقة .
بادلتها غريتا الابتسامات الأنيقة بينما وضعت سطع يدها برفق على يد لويزا الشاحبة .
جلستا بشكل دافئ كأم و ابنة ,العلاقة الجيدة بينهما تجعل أي شخص لا يضن أنهما زوجة و حماتها .
كلمات معسولة و دافئة كأنهما ترتكزان على بعضهما لترميم ما أفسده الدوق الذي كان ثمرة لتربية غريتا بالفعل .
تدلت الستائر بخفة بينا سمحت بدخول شعاع دافئ إلى الداخل انعكس على الطاولة الزجاجية الأنيقة و على ظهر لويزا التي تظاهرت بعدم الاهتمام بينما عانقت غريتا بعمق .
نظرة الخذلان و الانكسار في عيونها فشلت غريتا في رؤيتها ,هذا الحزن العميق داخلها رغم تكرره مرات لا تحصى إلا أنها تتألم كل مرة بنفس الشكل .
كرهت فكرة إعطائها اهتماما لشخص لا يستحق ذلك .
غطت وجهها في رقبة غريتا و هي تغلق عينيها بإحكام .
فقط الصمت ساد المكان ,فيما حاولت غريتا مواساتها برقة و صدق في مشاعره التي سمحت لها بأن تفيض على قلب الشابة المكسور ,لن تقول أنها فهمتها تماما لكنها تقدر حجم المعاناة التي تشعر بها .
لن يكون هناك أدنى شك في بؤسها حاليا ,لأن أي امرأة نبيلة أو عادية كانت لن تسم بالذل لنفسها مسحت على ظهرها برفق مثل أمها تماما .
كان ن المضحك أن ينتهي بها تواسيها رغم أنها من واستها أولا و تظاهرت بالقوة.
تنهدت غريتا بينما واصلت تعاطفها معها بصبر .
####
عندما عاد راينر الى المنزل و هو يركض بسرعة وجد روبي تنتظره بهدوء في غرفتها .
لم تكون طبيعية ,شعرها مهمل ,عيونها منتفخة و أكمامها مبللة .
كأنها كانت تبكي .
عندما سألها أنكرت و طلبت منه تحضير الفطور بنبرة خافتة ,لم تكن مثل روبي المتحمسة كأنها فقدت شعلتها .
روبي ابنته يعرفها جيدا ,كانت حزينة لكنه لم يفكر أبدا أنها سمعت حديث بيرثي القاسي .
نظرة حنونة على وجهه ممزوجة بالحزن العميق من فكرة أن تكون ملاكه الصغيرة شخص يتجنبه الآخرون .
جلست روبي على مقعد عشوائي في المطبخ بينا كان راينر يحضر الغداء بعقل مشوش .
استمر الصمت المخيف بينهما ,بينما روبي تحلت بالصمت و هي تشبك أصابعها المخدوشة معا .
وضعت تركيزها نحو أطراف أصابعها الوردية و هي تطبق شفتيها معا .
راينر… لم يتحدث كذلك .
بعد فترة، أنهى إعداد المعكرونة بصلصة الطماطم والجبن المبشور، ووضع الطبق أمامها بهدوء.
رفعت روبي الشوكة برفق بينما نظر إليها راينر باهتمام و كأنه يفكر في بدأ حديث معها كما أنه حاول تحليل سلوكها الغريب .
نظرت الى المعكرونة و واصلت تريك الطبق بشكل عشوائي ,عقد راينر اجبيه في استغراب .
تعمد أن يضر طعام روبي المفضل لإسعادها و هذه الطريقة لا طالما نجحت معه ,لكن ما بالها تتصرف بغرابة .
لم يكمل تحديقه بعناية قبل أن تفتح روبي ثغرها الصغير :”هل أنا شخص سيئ حقا …أبي ؟”
نبرة خافتة زرعت الانكسار في أعماق والدها المرهق .
صغر حجم بؤبؤ عينيه حينما فتح فكه باندهاش .
“ماذا … !!”صرخ بالعجز.
. خرج صوته مبحوحًا، لا يشبه صراخًا بقدر ما يشبه ارتطام شيء هشّ بالأرض..
التعليقات لهذا الفصل " 16"
ببكي للمرة المدري كم بس عموما شكرا على الفصل الحلو 🌹😭🥹🐻❄️