وقفت بيرثي منتصبة مقابلة لباب منزل البستاني راينر ,فور أن خطى الصباح أول خطواته في مدينة ريس .
بدت مرتبكة تماما و هي تشبك أصابعها النحيلة معا بينما خدشتها دون قصد.
كان اليوم يوم إجازة لها ,هذا ساعدها كثيرا في تهدئة نفسها و ذهنها و التفكير بشكل جيد قبل اتخاذ مثل هذا القرار .
صففت شعرها بشكل مرتب و ارتدت ملابس أنيقة كانت أشبه بملابسها المعتادة .
أشعة الشمس الحارة التي انعكست على خصلاتها العسلية جعلت فيها بريقا جذابا و مظهرا جميلا .
عضت شفتيها ثم اقتربت بضع خطوات لتطرق باب المنزل البسيط.
عندما لامست أصابعها الطوق الحديدي استرجعت ذكريات من الليلة الماضية ,ذكريات قد لا ترغب في استرجاعها مرة أخرى .
نفثات الهواء البارد ,الظلمة الشديدة و جسد ابنتها المتجمد .
كل مشهد خانق جعلها أكثر توترا .
كانت تشعر أنها بين حدين ,كلاهما يمكن أن يكون خاطئا .
غريزة الأم داخلها تطلب منها وضع مسافة بين روبي و بيرجيت لضمان سلامتهما .
و لكن ,ماذا لو أنها تظلم روبي بذلك ؟,هي مجرد طفلة و بهذا ستفسد صداقة الفتاتين العزيزة, كما أنها تعرف جيدا أنها كانت سببا من الأسباب في حدوث كارثة كهذه .
لكن …,كسر خيط أفكارها عندما فتح راينر ماير الباب بقوة .
كما لو كان يحاول الخروج من البيت ,لكن صدفة فتح الباب على مشهد بيرثي المتصنم.
شعرت بيرثي بالخجل من نفسها لكنها استعادت وقارها بسرعة.
خدودها لا تزال متوهجة من الخجل ,لاحظ راينر ذلك ,لكن عيناها الزمردية الواثقة لا تتناسب مع الموقف المحرج . نظراتها الغريبة جعلته محرجا دون سبب واضح.
” سيدتي شولر …”تحدث برسمية مع السيدة الأنيقة .
كان راينر يفكر في الخروج لشراء الغداء لروبي لهذا لم يهتم بمظهره كثيرا ,لكن ثيابه كانت تبدو مهملة لدرجة كبيرة كما أن شعره كان أشعثا بدا كما لو أنه استيقظ للتو.
رفعت بيرثي رأسها نحوه بينما برزت ملامحها الجميلة أكثر .
“سيدي …”بصوت مهذب .
” أوووووه …صباح الخير …هل هناك مشكلة ؟”بزق كلمات متعثرة .
” أعني …صباحك سعيد سيدة شولر …”ارتبك بينما لعن نفسه .
في هذه اللحظة نزلت روبي مع كدمات قدمها الأيسر الدرج بصعوبة و هي تكافح بينما لا تزال ترتدي ملابس نومها المريحة .
سمع صوت والدها عبر الدرج بنما اعتقدت أنه رحل بالفعل, كانت نيتها هي البحث عن شيء لتناوله ريثما يحضران الفطور ,لكن وجود والدها لمدة طويلة عند الباب بينما تكلم مع امرأة تمتلك صوتا تعرفه روبي جيدا .
كان مثل …
عندما تزحزح جسد والدها قليلا تمكنت من رؤية المرأة الصغيرة بجانبه .
لم تخطئ التخمين .
كانت “والدة بيرجيت “
وقفت تتنصت رغم ألم قدمها .
لم يلاحظ راينر وجودها بل تابع حواره الغريب مع بيرثي .
كان يبتسم بغرابة و هو مشوش بينما ابتسمت بيرثي بتكلف.
” سيدي جئت لأتحدث معك في موضوع مهم …بالنسبة لنا جميعا”نبرة واثقة زرعت الارتباك في عموده الفقري .
لماذا قد تريد السيدة شولر الحديث معه .
عندما لاحظ الجو المشحون اقترح عليها الدخول إلى المنزل لكنها رفضت .
” أقدر ذلك …لا داعي لي للدخول ..فقط سنتحدث هنا “أوضحت.
أصغى إليها راينر باهتمام.
وهج الشمس الساطع الذي تضارب مع ظلال الأشجار انعكس على الأرضية الخشبية داخل البيت و خارجه بينما امتزجت الأصوات من حوله , كتمت روبي أنفاسها التي قد تخدش الصمت الرهيب بين الشخصين البالغين .
في هذه اللحظة تقابلت أعينهما .
” في الحقيقة …أنت تعلم ما حدث ليلة البارحة …لقد كانت ليلة صعبة لكلينا كما تعرف “
تنهدت بصوت خافت و هي تبتلع كلماتها .
أومأ راينر برأسه كعلامة على الموافقة بينما لا يزال يحلل شكلها لكي يفهم المغزى من حديثها.
” أنا أعلم و أنت تعلم أن روبي و بيرجيت صديقتان عزيزتان …و حضور روبي إلى منزلي مرات لا تحصى جعلني أعاملها كابنتي تماما …أصبحت فردا من عائلتنا الصغيرة “
ابتسمت بيرثي بينما غرزت حديثا معسولا في قلب روبي و راينر .
ابتسمت روبي بسعادة بينما أصبح حجم ثغرها ضعف حجمه المعتاد .
تورد وجهها الشاحب و رفرف قلبها عاليا بينما لم تستطع إمساكه من السعادة المتنامية داخلها.
في ذهنها تعالت كلمة “أم و ابنة “في أذنها و تركت نغمة رنانة .
” لكن ….”كانت بداية كل نهاية .
” لكن ,ماذا ؟”تنهد بتعب .
” علينا كآباء حماية أطفالنا من أي شيء قد يضرهم …حتى لو تعلقوا به بشدة …سنريد مصلحتهم بعد كل شيء …أليس كذلك؟” تلعثمت .
ملامح راينر أصبحت أكثر ارتباكا بشكل عابس :”ماذا تقصدين ؟”
“لاحظت مؤخرا سلوك روبي و بيرجيت المتهور …خاصة عندما يكونان معا …في الحقيقة قبل مدة تسللت بيرجيت مع روبي ليلا لكنني امتنعت عن إخبارها أو معاتبتها خوفا على مشاعرها …و لأنني وضعت ثقة عمياء بها “
نظر راينر إليها بهدوء دون امتناع بينما ثرثرت بشكل غير واضح.
” لكن لم أكن مسؤولة بقدر كاف ,لذا فأنا أتحمل مسؤولية كل شيء …روبي و بيرجيت كنت السبب فيما حدث ..نتيجة لخطئي أصيبت روبي و ابنتي أيضا …و هي الآن تعاني من الحمى الشديدة “
في لحظة رسمت روبي تعبيرا مختلفا كما لو تم سكب دلو ماء بارد عليها .
” لن أكذب عليك سأكون مباشرة و صريحة …أود وضع حدود بينهما بعدما آلت الأمور إلى هذا …أنا أعتذر “بصوت مرتبك .
داعبت أصابعها الباردة و هي تضع تركيزها عليها .
تأفف راينر و هو يضع سطح يده الخشنة على وجهه بقلق .
قبل أن ينظر إلى بيرثي نظرة أخيرة أغلق الباب دون وداع ,كأنه يرفض كل حرف من حديثها السخيف .
شعرت بيرثي بالحرج الشديد و الغضب أيضا .احمر وجهها من الانزعاج و هي ترفس بحذائها أرض الحديقة بقسوة بينما وضعت خطواتها للعودة .
اختفى جسدها بين الأشجار بهدوء .
>>>>………
في ملكية آل غيلبيرت تداخلت أشعة الشمس الدافئة مع الرياح المارة التي داعبت ستائر الدانتيل الرقيقة بخفة ,غيرت موضعها كل مرة عندما انعكست أشعة الشمس اللامعة على زجاج النوافذ المغلقة مما جعل الشعاع ينكسر إلى ملايين القطع الصغيرة خلف مبنى القصر الخارجي .
انعكس على الأثاث الثمين داخل الصالة و الزرابي الباهظة بشكل مذهل .
حتى طاولات غرفة المعيشة الرخامية ,جعل لونها أكثر حيوية و جاذبية .
لم يكن من الضروري إشعال ضوء الثرايا المعلقة رغم وجود عدة أشخاص في القاعة الكبيرة .
ساد صمت رهيب أمكن قطعه بسكين في جو خانق بينما رفض أي شخص بدأ الحديث.
نواه غيلبيرت جلس على الأريكة العصرية الأنيقة التي جاورتها عدة أرائك أصغر مماثلة .
وضع قدما فوق الأخرى بينما ارتدى قميصا أبيضا رياضيا بأزرار علوية مفتوحة بلون كريمي فاتح و سروالا أبيضا خفيفا , جعله مظهره المرتاح يتخلى عن لقب الدوق شكليا .
اكتفى بالصمت و هو يمس بقطعة مبللة سلاح صيد طويل بمهارة و عناية .
يمكن الجزم أنه عامل متخصص في هذه الأمر .
ركزت عيناه الرماديتان على الزناد الأنيق بينما تدلت عدة خصلات سوداء عن تسريحة شعره المثالية .
مظهره المتناسق جعله وسيما و مثاليا .
في حين أن الماركيز ماتياس وقف بجوار النافذة الكبيرة و هو ينظر نحو البستاني الذي كان يعمل دون كلل بوجه عابس ,كان راينر .
لم يعجبه الجو الكئيب مما جعله ينظر نحو الصالة الكبيرة دون اهتمام .
رغم الجو الحار إلا أنه ارتدى ملابس أنيقة دون أي خطأ يذكر ,بدلة مثالية ,شعر مصفف بعناية و مظهر متكامل و فخور .
عيناه الخضراء الباردة تنظر بملل نحو الأرض و هو يضع يده في جيبه رافضا تبادل أي كلمات مع نواه .
السكون كان رهيبا جدا يمكن سماع صدى أنفاس الشابين حتى .
لم يكن أي شخص مرتاحا سوى فيليب ايكارد ,أمير مملكة هيرون الشاب .
كان صديقا مشتركا للدوق المتغطرس و الماركيز الفخور .
ارتسمت على ملامحه ابتسامة من فراغ بينما كان واقفا بشكل مستقيم ببدلة دون سترة .
مقابلا للوحة معلقة لرمي السهام بينما ركزت عيناه الزرقاء اللامعة على البقعة الحمراء في المنتصف.
تخللت أصابعه عدة سهام ملونة صغيرة حملها برفق .
“طق …”سقطة
السهم يضرب الجدار .
“طق …سقطة “
سقط السهم بعد تدحرجه نحو النافذة الزجاجية .
مرة أخرى أصاب الهيكل الخشبي للوحة المعلقة .
ابتسامة وجهه العريضة التي حافظ عليها بأناقة بينما لمعت عيناه عند صد انعكاس الشمس. حتى على شعره الذهبي الأشعث.
انتهى عدد السهام .
ضحك على نفسه بينما ظهرت غمازات خفيفة على وجنتيه .
“لو كانت مسابقة حية ,لكنت أكبر خاسر بفارق مشرف “بصوت مسموع.
صدى صوته عم الغرفة عندما ابتسم ماتياس باستهزاء .
” أتعلم أيها الأمير …لم أرى فاشلا فخورا بقدرك”تنهد .
” ليس عليك مدحي بهذا الشكل …ستفسد علي سلسلة الخسارات الناجحة “سخر.
” يا لك من خاسر بارع …و بل تحافظ على فشلك أيضا …أنت موهوب”تنهد و هو يبتسم بتكلف بينما وضع رأسه على النافذة الزجاجية .
” لقد صرعت رأسي …أنت تعلم …تلك المقولة …الوصول إلى القمة سهل لكن الحفاظ عليها أصعب بمراحل ” بزق كلمات خرقاء .
وجهه المبتسم جعل ماتياس يضحك طواعية و هو يشد بطنه :”لم أعتقد أن الأمير يملك رصيدا أدبيا …”تنهد بخفة و هو يمسح زاوية عينه بمرح.
” أيها السخيف “اقترب منه و ضربه على ظهره .
ضحك الاثنان بينما كان نواه العنصر الوسط بينهما دون انحناءة على شفتيه.
فقط النظرة الحادة على عينيه تعكس مزاجه المضطرب .
بعد هدوء فيليب و ماتياس ,حرك ماتياس رأسه نحو نواه المنزعج من ضجيجهما .
“يا الهي …فيليب أتعلم ؟”بصوت خافت يدعي الحزن.
” ماذا ؟”نبرة خافتة تكاد تكون غير مسموعة .
“لن يكون الدوق قادرا على حضور جولة الصيد خاصتنا مساء “
” لماذا ؟”سأل.
حديثهما جعل نواه مهتما رغم تظاهره بعكس ذلك.
” ألا ترى المسكين يعاني من المرض بسبب حادثة أمس “
ابتسم نصف ابتسامة و هو يغمز .
ركز فيليب نحو مظهر نواه الفخور الجالس بشكل مثالي على الأريكة ,كما لو أنه خرج من لوحة فنية مثالية مع المسدس الثمين في حوزته.
راوده شعور غريب في السخرية من مزاجه المتعكر و الاستحواذ على السلاح .
” يا الهي! …يا الهي! “صرخ فيليب بشكل درامي .
ضحك ماتياس بينما عقد نواه حاجبيه .
“ما سبب البلبلة …سمو الأمير ؟”تنهد نواه و تركيزه مع شيئه الثمين .
“دوقنا الوسيم لن يقوى على حضور جولة الصيد لأنه مريض …أتعلمون لماذا ؟”
“اه …هههههههههه!”ضحك ماتياس و هو يشد ظهره بشكل هستيري.
“لقد أدى عمله البطولي في إنقاذ الفتاة المسكينة من الغرق ..يا لقلبه الطيب …يقولون أنه تبعها و أنقذها فورا …يا له من شهم “تنهد.
” ما هذا ؟أيها الأهوج …اللعنة ,من أين تعرف ؟”صك أسنانه و زمجر بغضب .
“لا تنظر إلي هكذا …انه هو من أخبرني كل شيء “رفع إصبعه السبابة مشيرا نحو ماتياس الذي كان يضحك.
توقف صوت الهزار و عم السكون المكان بينما رفع نواه ثقله عن الأريكة .
مشى بخطوات بطيئة نحوهما .
تراجع فيليب بينما ماتياس كان المندفع .
” هل تريد القتال ؟”صرخ ماتياس بينما تغير مزاجه الرائع تماما .
ابتسم نواه :”القتال …معك أنت ؟أيها المهرج الجبان! “ببرود و استفزاز في نبرته الهادئة.
توقف عنده بينما لم يفصل بينهما سوى شعرة و هما يتبادلان النظرة العدائية .
في المقابل جلس فيليب على الأريكة المخملية بترف و صرخ :”انتظرا !”
“حقا …سأحظر الفشار …”
“اصمت! !”بصوت واحد ..ربما كان الشيء الوحيد الذي اتفقا عليه .
” أيها الغبيان أنتما حقا !”لقد ضن فيليب أن الأمر مجرد مزحة لهذا أطلق نكتة سخيفة لكنه لم يتوقف نظراتهما الغريبة .
الجو الخانق جعله ينهض لفك النزاع كوسيط بين النبيلين .
“هاي !!…ما بالكما …هل تضنان أنني من سينظف وراءكما؟ “عقد حاجبيه بينما لم يتخلى عن الكوميديا في حديثة .
” سخيف ….مهزلة الحديث معك أيها الماركيز “نبرة الاهانة في كلامه .
” ماذا ؟يا من تتوسل لاهتمام النساء! “صرخ .
برزت عروق نواه و هو يكبح غضبه .
نقر على لسانه لابتلاع أي ألفاظ نابية .
” حقا …لا داعي للدعايات يا ماركيز …أنا زير النساء الوحيد بينكما ..لذا ابتعدا حالا !”
صرخ بقلق ,انتزع أيديهما لفك الشجار سريعا.
” هوف ” تأفف نواه و هو يمس على شعره ,ثم عاد إلى الأريكة في موقعه المثالي و التقط البندقية من جديد.
بينما خفف ماتياس قبضته و خرج من الصالة ,أغلق الباب بعنف .
” طك! ….غلق “
دوى صوت الباب كما دوى صوت قرع الطبول في رأس فيليب المرهق.
التعليقات لهذا الفصل " 15"