لم يكن طريق العودة إلى المنزل طويلا , لكن راينر ماير شعر كما لو انتقل الىى مدينة أخرى بعيدة عن ريس بأميال.
الثقل في خطواته جعله يحس بالعجز في أعماقه رغم أن جسد روبي الذي يحمله لم يكن ثقيلا.
في الواقع كان خفيفا كالريشة بالنظر إلى جسده المصقول بعناية.
لكنه كان مثابرا في حمل روبي رغم الإرهاق الشديد الذي يجتاح جسده .
شدت روبي ذراعها المرتخية حول عنق والدها المتعب بينما هو أحكم قبضته على أقدامها المصابة,بدا الأمر كما لو أن راينر يعزي ابنته المتألمة.
الهالات السوداء تحت عيني روبي كانت واضحة كما أن بشرتها أصبحت شاحبة بينما حنت جبينها قرب رقبة والدها .
خصلات شعرها مبللة من العرق التصقت بظهر فستانها بينما القليل منها انحرف نحو وجهها الأملس .
شعر راينر بالبرودة في جسده عند لمسه لقدم روبي الحافي بعد فقدانها زوجا من حذائها.
الأب التعيس لم يملك سوى الصمت لتعزيز موقفه المكسور بينما روبي كانت منهارة بالكامل لتتمكن من الحديث.
لاحظ راينر سابقا قدم روبي المجروحة لكنه لم يجد الكلمات المناسبة للحديث ,كان مشوشا للغاية في عقله , كانت صورة روبي الهشة تظهر في ذهنه كل مرة بشكل ضبابي ولكنه امتنع عن النظر إليها مرة أخرى لإبقاء قلبه في مأمن.
أنفاسها الدافئة قرب أذنه استقرت تقريبا كلما زادت مدة مشيهما في طريق الغابة .
أصغى إليها راينر باهتمام كما لو كانت نغمة تهدئ فؤاده.
” أبي …”تنهدت روبي .
لا يزال صامتا لكنه يستمع إلى كل كلمة.
” أنا متعبة …أشعر بالحرارة تسري في جسدي “أنفاسها التي خرجت من شفتها المتشققة بدت أكثر حرارة .
توقف تفكير راينر عن العمل لوهلة قبل أن يستعيد صوابه.
كأنه وجد دليلا لكلمات مبهمة.
” لا بأس يا عزيزتي …سنصل قريبا …قريبا جدا “ابتسم في كلامه.
” هممم….”بصوت خافت .
لا زال يحمل جسدها المنهك بلا كلل .
” سيعد لك والدك المعكرونة بالجبن التي تحبينها ….”بصوت خافت.
ابتسمت روبي لكنها كانت ابتسامة فشل والدها في ملاحظتها.
” سأطبخ لك شرائح اللحم …ماذا عن شوائها ؟”نبرة ضعيفة كأنه يخاف على طفلته من نبرته الخشنة.
” مظهرها سيجعلك تتذوقينها ألف مرة قبل وصولها إلى فمك “ابتسم بحزن.
” ستتناول طفلتي الصغيرة كمية كبيرة من اللحم لتستعيد قوتها و تعود لكونها روبي من جديد”ضحك بصدق بينما كان على وشك ذرف الدموع.
ابتسمت روبي و ضحكت بصوت خافت ,بعدها أثنت رأسها لتقترب أكثر من والدها .
” حسنا ….سأكون سعيدا جدا بذلك”
سرعان ما أغلقت عينيها ببطء , المشهد في ذهنها كان مشوشا .
فقط , العالم من حولها كان ضبابيا .
تداخلت أغصان الأشجار مع الأوراق المثبتة حولها بالعشب المتزحزح كل مرة.
الظلال حولها و أصوات الغابة الغريبة لم تعد تشعرها بالخوف,لأنها كانت تحتمي خلف ظهر والدها الكبير .
اقتربت أكثر لتلتصق بظهره تماما و هي تشعر بدفء في جسدها كمواساة لروحها .
لقد وصلوا بالفعل إلى المنزل لكنها غفت .
تم فتح الباب الخارجي بإهمال و دفعه مرة أخرى بقدم راينر الذي حمل جسد روبي حتى سريرها المحمل بالملاءات ,وضعها برفق قبل أن يعجل لإعداد العشاء بينما كانت روبي تنعم بغفوة هانئة.
. .
” خالص أسفي سمو الدوقة الأرملة …لسوء الحظ لم تسر المأدبة بشكل مثالي”
قدمت مديرة الأكاديمية اعتذارها بشكل رسمي بعد انحراف مخطط الحفل تماما.
وقفت بشكل مثالي بجانب الدوقة غريتا التي بدت عليها ملامح الانزعاج و هي تضح سطح يدها فوق كتف غريتا المرهق كعلامة تعزية .
جفن غريتا المزين بالماكياج الثقيل فتح بشكل كامل لتتمكن من النظر إلى المديرة التي واستها بجفاف , ابتسمت بتكلف لكنها لا زالت تحافظ على موقفها النبيل.
تجمعت حولها العديد من النساء النبيلات من الطبقة المتدنية بينما تهاتفن للحديث معها في موقف كهذا ,بعد المشكلة العبثية التي خلقت من العدم.
بالطبع كانت ليلى بيكر جزءا من التجمع .
في ذهن غريتا المخملي لم تكن أستاذة الموسيقى عائقا و لا ابنتها لكنها لم تتوقع أنها قد تضيع في الغابة مع رفيقتها و تغرق .
بفضلها فسد الحفل و نجم عنه اضطراب داخلها كما لو أنها فشلت في إحياء حدث وضيع كهذا لأول مرة في حياتها ,سار بشكل فضيع جدا إلى منحنى لم تتوقعه مطلقا.
جعلها تشعر بالضيق و عدم الراحة داخلها ,هذا الشعور المزعج جعلها تنفر غريزيا عن السيدات كما لو كانت تهرب .
لكن ارتباكها و استياؤها لم يكونا عائقا كبيرا لتشويه صورتها المثالية كدوقة .
تداركت هفوتها لتسارع في إجابتها :”لا بأس …طالما أن الآنستان في مأمن الآن”
” هذا يكفيني …”تنهدت بحزن مصطنع.
بالفعل نجحت في كسب تعاطف النساء لها الذي لم يخلو من كونه تصرفا زائفا.
” يا لكرم موقفك سمو الدوقة …لا أشك أن جلالتك قد تنزعج من حادث صغير كهذا”
لم تكن سوى ليلى بيكر التي استعادت عقلها كاملا في تهوين موقف غريتا .
كلماتها الغريبة التي بدت طيبة و خالية من العداء كانت تهدف إلى صنع بلبلة لشهر كامل في المجتمع الارستقراطي.
تماسكت غريتا و هي تقف منتصبة كجوهرة لامعة وسط النسوة حتى الشابات منهن.
نظرة خاطفة على مظهر ليلى البائس جعلها تشعر بالشفقة اتجاهها ليس لشكلها بل لعقلها المتلهف لأمور لا فائدة تذكر قد تعود عليها فيها .
ابتسمت بنبل بينما بزغت أسنانها البيضاء :”السيدة شولر شخص عزيز علي بما أنها جزء من العائلة في الوسط المدرسي الذي تشرف عليه دوقيتنا …و الآنسة شولر قطعة من والدتها ,لذا ستكون عزيزة علي بنفس القدر “
قبل أن تفتح ليلى ثغرها لخلق نميمة قاطعتها غريتا .
” أما السيد ماير فهو صديق للعائلة …عمل كبستاني لدينا لمدة طويلة ,كافية لتلاحم العلاقات و الروابط بيننا ,لقد كان من المؤسف حقا أن تتعرض ابنته لمثل هذا الموقف الرهيب “
وضعت سطح يدها المغطى بقفاز أبيض مطرز ,مزوق بشريط دانتيل أنيق على وجنتيها .
بدت كأنها تحمل هما لا يطاق على كتفيها .
” آه ….”تنهدت ليلى بسأم.
رغم فشل مخططها الصغير إلا أنها ابتسمت بغم مزيف على وجهها .
فسدت الأجواء الحماسية في حين أن غريتا كان أكثر ما يهمها هو صورتها التي لا تخدش .
المشهد الذي زرع في الآنسات الشابات أن الطبقة الرفيعة لا ترحم.
واصلت غريتا الدردشة مع السيدات لفترة قبل أن تعود إلى القصر بعد ليلة مرت بشق الأنفس.
. . .
” تك …تك “كان الصوت الذي خلفه نقر كعب حذاء بيرثي كلما غيرت موضعها كل مرة ,تنتقل بخفة من غرفة إلى أخرى في المنزل البارد بعدما تم نسيان الشبابيك مفتوحة.
راقبت بيرجيت كل حركة سريعة من بيرثي بمهارة بينما كان عقلها يدور في كل لحظة.
الحرارة في أطراف أصابعها و جبينها تشتعل بينما دخل الهواء البارد عبر أنفها إلى حنجرتها مما خلق حكة مزعجة .
أنارت بيرثي المدفأة بالخشب المخزن في المطبخ ثم أغلقت باب المدفأة بيدها المرتجفة .
لم تضيع أي لحظة في قياس معدل حرارة بيرجيت بيدها العارية .
انتبهت إلى أن جبينها المتعرقة ولت محترقة بشدة.
النظرة العابسة على ملامحها أفسدت شكلها المرتب .
رغم أن بيرجيت غيرت ثيابها المبتلة و تغطت بالبطانية الصوفية الكبيرة التي غرق فيها جسدها بأكمله إلا أنها تشعر بقرصة برد في أقدامها , جسدها يرتعش ,أنفها أحمر.
الأمر الذي دفع بيرثي للقلق عليها أكثر.
جفونها المتوردة مغلقة بإحكام رغم أنها لا تزال واعية .
بسرعة خاطفة نزعت بيرثي ملابسها بإهمال و حضرت الشاي .
شاي القرفة و الليمون الطازج.
الذي كان مرا و لا يطاق في حواس بيرجيت المتعبة .
وضع الفنجان فوق الطاولة الخشبية العتيقة بينما تصاعد البخار من حوله باستمرار.
رفضت بيرجيت النظر اليه حتى لكن تداعيات بيرثي المستمرة بالشفاء جعلتها تشربه رغما عنها.
لا زال طعمه مخزيا لكنها تكافح .
ضمت بيرثي يديها حول خصرها و هي تلقي نظرها نحو شكل بيرجيت المريض .
نظرة الحزن و الأسى اختلطت بالغضب من ابنتها و تأنيب الضمير على نفسها.
العيون الخضراء الزاهية لا زالت مصحوبة بالقلق ,خيوط الثرايا اللامعة في الصالة انعكست عليها مما أعطى لها لونا زمرديا متوهجا.
عيون نادمة و جسم مرتجف يخيطه الألم و اللوم .
“بيرجيت …”بصوت خافت بينما جلست بشكل مستقيم على الكنبة .
عيون بيرجيت اجتاحتها ظلمة الكرب فلم تعد بها نفس اللمعة المبتهجة.
” لقد كنت السبب ….كنت أنا السبب في كل ما مررت به …أنا آسفة”
” ليس فقط لك …بل لروبي أيضا”
عيون بيرجيت المندهشة أصبحت ضعف حجمها الطبيعي من الغرابة في حديث بيرثي .
رفعت رأسها لتلاقي عيون والدتها كأنها تبث عن الصدق في كلامها لكنها لم تبدو لها كامرأة شفافة.
” مالذي تقولينه أمي ؟….كيف يمكن أن تكوني السبب ..؟؟”صرخت بضعف.
أخذت بيرثي نفسا عميقا و هي تتذكر كل لحظة مشوشة في ذهنها ,الرجل الذي مل بيرجيت بين ذراعيه بينما تدلى جسدها و كأنها ميتة ,زرع فيها أفكار تجعل قلبها يتوقف.
عندما خرجت إلى الغابة في الليل ,الجو القارص جعل جسدها يرتجف تلقائيا و كأنها شعرت بقدوم كارثة .
مظهر روبي و بيرجيت سيبقى راسخا في ذاكرتها.
استعادت وعيها و أكملت حديثها :”أنا من أعطيتكما الإذن بالخروج,بعد ما حدث لروبي مع السيدة بيكر …فقط ,انشغلت معها و نسيت أن أراقبكما جيدا”همست بصوت خافت.
لم تتحدث بيرجيت فقط واصلت الصمت المدهش بعيونها حائرة ,كأن ثقل كلمات بيرثي مزق قلبها و روحها معا.
اقتربت بيرثي من ابنتها المتفاجئة بروية دون صخب كما لو كانت تمهد لكلمات أكثر قسوة
“لذلك أنا مضطرة لقطع علاقتك مع روبي لفترة …لا تسيئي الفهم ,روبي ليست فتاة سيئة ,لكن تهوركما جعلني أقبل على قرار كهذا …أنا آسفة “تنفست الصعداء .
أحكمت يدها المتجمدة بيد بيرجيت و شابكتهما معا .
عيون بيرجيت تتلألأ بالحسرة بينما أوشكت على ذرف الدموع التي لم تذرفها حتى عند ضياعها في الغابة أو غرقها لأنها كانت برفقة روبي ,روبي فقط ,الشخص الوحيد الذي كان غاليا عليها بعد والدتها.
أحكمت قبضتها و هي تبتعد عن جسد والدتها ,تم نزع البطانية الدافئة مما جعل جسد جيت يقشعر .
قاومت شعورها الجسدي مقابل تدمر نفسيتها في هذه اللحظة.
” ماذا ؟”صاحت و هي ترتجف بالبؤس.
ضغطت شفتيها المحمرة معا بينما عقدت حاجبيها بانزعاج .
” كما تسمعين …”
نظرت إليها بيرثي ببرود و هي تنهض من على الأريكة متمهلة.
نبرتها القاسية جعلت موقف بيرجيت أكثر حدة بينما انقبض صدرها .
ثياب نومها الجديدة أصبحت باردة مع الجو ,جعلها تشعر بنقزة في عمودها الفقري.
” غدا سأعتذر من السيد ماير و سأحاول أن أشرح له تهوركما …أنا متأكدة من أنه سيفهم…”
” تذكري …سيكون كل شيئ لمصلحتك عزيزتي …”مسحت على ظهرها بحنان صادق.
لا زالت تعابير بيرجيت مصدومة لكن شفتاها لم تنبس بأي كلمة.
غادرت بيرثي الغرفة تاركة بيرجيت في عمق همومها .
“مصلحتي ؟”
” كيف سيكون بعدي عن روبي شيئا ايجابيا ؟”صرخت وراء الباب .
لكن بيرثي لم تعر الأمر اهتماما فقط استمرت في إعداد الحساء من أجل طفلتها الوحيدة التي عزمت حمايتها بأي ثمن ,لأنها الشخص الوحيد في حياتها التعيسة بأكملها .
الإنسانة التي ملكت قلبها لها وحدها فقط .
ابنتها بيرجيت .
حتى لو عنى الأمر أن تبدو سيئة في نظرها فستفعل ذلك دون تفكير.
لم تكن أما قاسية بل اختارت طريقة أخرى للتعبير عن الحب.
التعليقات لهذا الفصل " 14"