1
كان المطر يهطل.
ولمدة يومٍ كامل ابتلّت الطرق الوعرة بمطرٍ غزير لا ينقطع، ولم تكن أدريان قد تجاوزت سوى ثلاثة جبالٍ صخرية.
لا، بل كانت قد تجاوزت ثلاثة من أصل خمسة، لذا فإن وصف “بالكاد” لم يكن دقيقًا. غير أنّها، وهي تنظر إلى الفرسان المنهكين من مسيرة طويلة أرهقتهم حتى العظم، لم تستطع أن تفكر بأنّ القمم الباقية ليست سوى اثنتين فقط.
كان حرس الموكب تحت المطر طوال النهار، فوق ذلك وهم في يقظة شديدة تحسبًا لظهور وحوش مفترسة. وقيل لهم أن عليهم تجنب التخييم عند عبور الجبال الصخرية، لذلك واصلوا مسيرتهم القاسية يومين كاملين بلا نومٍ يذكر.
“أترى، هل سيأتي الدوق حقًا لاستقبالنا؟”
سألت يوريا، وهي تطرق على ذراع أدريان بإصبعها وتتكلم بالإشارة في الوقت نفسه.
[من يدري.]
أجابت أدريان بلغة الإشارة بعد أن لزمت الصمت قليلًا.
“إنه حقًا أمر قاسٍ. أنا خائفة حد الموت من أن تنقضّ علينا الوحوش. ألستِ خائفة يا سمو الأميرة؟”
[أنا أيضًا خائفة.]
ردّت أدريان بإشارة قصيرة نحو يوريا، ثم أدارت رأسها لتتطلع إلى خارج العربة.
الجبال الصخرية التي كان نصفها من الحجر الأبيض، كان يُقال إنّ الوحوش تتخذ من غابة الظلام المتصلة بشرق تلك الجبال مقرًا لها. لكنها، لقربها من الحصن “رانتسكوآ”، كثيرًا ما كانت تظهر فجأة لتهاجم المسافرين على الطرق المؤدية إليه.
وبالطبع، كانت أدريان خائفة هي الأخرى. ورغم أنّها لم تصرّح بذلك ليوريا، فإنها كانت في قلبها تصلّي مرارًا وتكرارًا أن يأتي زوجها لوكاس لاستقبالها.
وبحسب ما قاله قائد الحرس “رون”، فإن المشكلة لم تكن الوحوش وحدها. فبين الحين والآخر، كان يظهر أيضًا البرابرة الذين يسكنون أقصى الشمال الشرقي من هذه الجبال.
لذلك، إن كان حظهم عاثرًا للغاية، فقد يواجهون في وقت واحد كلًا من الوحوش والبرابرة.
وأضاف رون أنه يأمل أن يرسل الدوق فرسان “الكتيبة السوداء” من حصن رانتسكوآ لملاقاتهم. وذكر عرضًا أنّ ذلك يُعدّ من أبسط “أصول اللياقة” تجاه زوجته.
لكن ماذا عساها تفعل؟
زوجها، دوق رانتسكوآ، لم يكن يبدو أنّه يملك أدنى نية لأن يُظهر مثل هذه “اللياقة” لزوجته. ارتسمت على وجه أدريان ابتسامة مُرّة وغرقت في اليأس.
‘ليت المطر يتوقف على الأقل.’
تنهدت أدريان أخيرًا وهي تحدّق في المطر المنهمر بلا انقطاع.
“الضباب الأسود”، هكذا كانوا يلقبون دوق رانتسكوآ، لوكاس كين راهيل.
منذ عامين، تزوّجت به أدريان في قلعة تيريز. بعد سبعة أيام تحديداً من سقوط وطنها “تيفيا” تحت غزو إمبراطورية روديا.
الحجّة كانت مُنمّقة:
من أجل مستقبلٍ متين يجمع بين روديا وتيفيا.
لكنها كانت كلمات جوفاء لا معنى لها.
الإمبراطور “كسيرس” استغلّ مكانة الأميرة البكماء التي يرقّ لها شعبها، ليُخضع مواطني تيفيا الذين هزمهم بقوة السلاح.
وهكذا، وجدت أدريان نفسها تُزوَّج في زواجٍ سياسي من لوكاس كين راهيل، الابن الثالث لكسيرس، والذي كان له الدور الأبرز في سقوط موطنها.
طَقطَقة.
“بالمناسبة، لا بد أنّ الدوق ما زال وسيمًا كما كان، أليس كذلك؟ مضى عامان، فلعلّه صار أكثر قوة. ألا تشعرين بالحماس؟”
قالت يوريا، وقد انتقلت من القلق إلى الحماسة وكأن شيئًا لم يكن.
لكن أدريان لم تفعل سوى أن ابتسمت بخفوت، وعادت بعينيها إلى النافذة.
الابن الثالث الذي يشبه الإمبراطور كسيـرس كين راهيل أكثر من سائر أبنائه، ومع ذلك، بسبب كونه ابنًا غير شرعي، أُرسل مباشرة بعد توحيد الإمبراطورية إلى أرض رانتسكوآ القاحلة، في أقصى الشمال.
ذريعة الأمر كانت الدفاع عن الحدود ضد غارات البرابرة. لكن قلّة فقط من صدّقت ذلك حقًا.
الرأي الغالب كان أنّ الإمبراطور اتخذ هذا القرار كي لا ينشب خلاف بين لوكاس، الملقب بـ “ضباب المعركة الأسود”، وأخيه غير الشقيق، الوريث الشرعي أغمنت.
لقد جاب لوكاس ساحات الحرب مع والده كسيرس، وحقق انتصارات عظيمة. حتى أنّ فئة من الشعب كانوا يعظمون اسمه أكثر من أغمنت، الذي جلس في أمان على العرش يحمي الإمبراطورية بينما كان غيره يقاتل.
‘لو لم يكن ابنًا غير شرعي.’
‘لو كان وريثًا شرعيًا للإمبراطور.’
كثيرًا ما كان مثل هذا الكلام الخطير يتسرّب على ألسنة الناس.
وبعضهم قال إنّ قرار الإمبراطور لم يكن سوى محاولة لحماية لوكاس من بطش أخيه أغمنت. لكن الحقيقة لا يعلمها أحد.
والوحيد الذي كان يعلمها حقًا هو الإمبراطور كسيرس كين راهيل.
“وحوش!”
“وحوش ظهرت!”
طَقطَقة. طَقطَقة.
“الوحوش ظهرت يا سمو الأميرة!”
[ماذا؟ وحوش؟]
“ماذا نفعل؟ قد نموت الآن!”
ارتجف جسد يوريا، وعيناها تتلألآن من الذعر.
“غغغغغ…….”
“آه! احموا العربة! لا تلتفتوا إلى الوراء، اركضوا!”
صرخ القائد رون وهو يواجه الوحوش المندفعة بوحشية.
تعثرت العربة واهتزّت بعنف.
وحين انطلق السائق بالخيول بكل ما يملك من سرعة تنفيذًا لأمر رون، أخذت العربة تميل وتتمايل وهي تنطلق بجنون إلى الأمام.
“آآآه!”
“غغغغغغغ!”
ارتجاف. ارتجاج.
“اللعنة! لا يصلح هذا! إنهم أسرع منا! آآآه!”
“غغغغغغغ!”
وفي لحظة، انقضّت الوحوش على أحد الفرسان المرافقين للعربة، فمزقته إربًا وطرحته أرضًا.
وبينما تناثر دمه غزيرًا على الأرض، قبضت يوريا المذعورة بقوة على يد أدريان.
“سموّ الأميرة… ماذا نفعل الآن؟”
“… ككخ!”
“آآآه!”
مزّقت الوحوش فارسًا آخر. عندها كادت يوريا أن تُصاب بالهلع، فأطبقت كفّيها على أذنيها وأخذت تصرخ.
ارتجاف… اهتزاز… ارتطام.
ورغم ذلك، كانت العربة تواصل اندفاعها بجنون.
طَرق!
“أ… أ… أأأ…”
صرير حاد.
حينها حدث الأمر. اصطدمت العربة بصخرة ضخمة، فمالت جانبًا ثم توقفت في مكانها. صهلت الخيول بعنف، وفي الأثناء فرّ السائق هاربًا لينجو من الوحوش المطاردة.
“سنموت الآن… آه، آه…”
طَقطَقة.
[انزلي من العربة. ثم اركضي.]
“لا فائدة يا سمو الأميرة. النتيجة واحدة. حتى رون قد يكون قُتل بالفعل!”
طَقطَقة.
[يوريا. استمعي إليّ. انزلي من الجهة الأخرى. ثم اركضي بكل ما تملكين من قوة.]
“آ… حاضر. سأفعل.”
لشدة صرامة ملامح أدريان، استعادت يوريا وعيها. مسحت دموعها، وقفزت مع أدريان من العربة.
وبينما كانت أيديهما متشابكة، ركضتا بجنون إلى الأمام. كانتا تسمعان خلفهما أصوات تحطّم العربة، وتمزّق الخيول إربًا، ومصرع السائق، لكنهما لم تلتفتا قط، بل واصلتا الركض.
“غغغغغغ…”
“إنها وحوش!”
رغم الجري اللاهث، صرخت يوريا حتى كادت حنجرتها تنفجر.
لكن أدريان، التي لم تسمع أي شيء رغم اتساع الأفق أمامها، شعرت برعب آخر يجتاح جسدها بالكامل.
ومع ذلك، لم يكن بوسعها سوى أن تركض.
“… غغغغغغ.”
كانت الوحوش تقترب منهما إلى حدّ أن أنفاسها تكاد تلامس ظهورهما. وسرعان ما أدركت أدريان الحقيقة:
لقد سلكتا الطريق الخطأ!
فما كان أمامهما سوى شجرة عملاقة وحافّة هاوية. ارتبكت أدريان، والتفتت نحو يوريا.
“سمو الأميرة…”
قالتها يوريا ودموعها تغمر وجهها بأكمله.
‘يا إلهي… أنظر إلينا برحمتك.’
قبضت أدريان بكل ما أوتيت من قوة على القلادة المعلّقة في عنقها، وأغمضت عينيها لتدعو.
فجأة – فشششت!
انبعث من القلادة نورٌ خاطف كالبرق.
“غغغغغ… ككخ!”
“… ككخ!”
الوحوش السوداء التي كانت تندفع نحوهما بدأت تندثر في الهواء، واحدًا تلو الآخر، تحت وهج ذلك الضوء.
ومع مشهد الوحوش وهي تتمزق وتتناثر دماؤها القانية أمام عينيها، فقدت أدريان وعيها من هول الموقف.
***
أدريان كلاديوس.
كانت أول أميرة في مملكة تيفيا بعد إعادة تأسيسها. ولأن العائلة المالكة لم تُرزق ببنات عبر أجيال طويلة، فقد غمر الملك ديفيل فرحًا بميلادها لدرجة أنه أعفى المملكة كلها من الضرائب في تلك السنة.
أما الملكة هيرسي، فكانت تعاني الازدراء من بعض النبلاء الذين شككوا في شرعية نسبها، غير أنّها بعد أن أنجبت وريثة العرش، نالت اعترافهم بوصفها ملكة شرعية لتيفيا في غضون عام واحد فقط.
وهكذا عاشت المملكة في رخاء.
فبفضل التجارة النشطة مع ممالك الشرق، ازدهرت المدن، وامتلأت خزائن المملكة يومًا بعد يوم. أما أدريان، فنشأت وسط محبة غامرة ورعاية بالغة.
لكن، عندما بلغت العاشرة من عمرها، وقع البلاء.
بدأت المأساة بمرض الملكة هيرسي.
المرأة التي اشتهرت بجمالها الأخّاذ، الملقبة بـ “جمال القرن”، بدأت فجأة تُصاب بتغيّر مروّع في بشرتها، إذ أخذت تصير كجلد عجوز. ولم يستطع أي معالج معرفة السبب.
وسرعان ما أطلق الناس على الداء اسم “مرض الشيخوخة”، وعدّوه لعنة. أمّا الملك ديفيل، فقد أعرض عن زوجته الموبوءة.
وفي النهاية، نفى ديفيل الملكة المحتضرة إلى قصر جانبي في شمال قلعة تيريز. ولحمايته، أحيط القصر بطبقاتٍ متتالية من السحر حتى لا يقترب أحد منه.
وفي ليلة وفاتها، حين كانت تُنازع، طلبت من خلال المعالج أن ترى ابنتها أدريان. لكن ديفيل رفض، فغادرت روحها دون أن تودّع طفلتها.
لقد كان ذلك بعد ستة أشهر فقط من ظهور المرض.
وبعد موت الملكة، أمر ديفيل بحرق جسدها. وزاد من قوة الطلاسم المحيطة بالقصر الجانبي، حتى لا يجرؤ أحد على دخوله مجددًا.
ظنّ أنّ الأمر قد انتهى.
لكن مآسي تيفيا لم تنتهِ بعد.
فما إن انقضى وقت قصير على وفاة الملكة، حتى أصيبت أدريان نفسها بحمّى أودت بها إلى الغيبوبة.
ولما علم ديفيل أنّ أطباء المملكة عاجزون عن إنقاذها، استدعى الكهنة والسحرة من معبد أسكرو العظيم.
وبفضل قواهم السحرية، قُدّر لأدريان النجاة.
غير أنّها فقدت سمعها وصوتها إلى الأبد…
منهم من قال إنها نعمة، ومنهم من رأى أنّ اللعنة لم تنتهِ بعد.
أما ديفيل، فقد أخذ يرى في أدريان صورة هيرسي المريضة والهرِمة. استبدّ به الخوف حتى أعمى بصيرته، وفتك به الذنب حتى صمّ أذنيه وعينيه عن الحق.
“يا جلالة الملك، لا بدّ من إبعاد الأميرة من أجل المملكة.”
“تذكّر أن اللعنة لم تنكسر بعد.”
“إن تأخرت في القرار، فسينزل البلاء الأكبر، يا مولاي.”
تحت ضغط التضرعات المتكررة من النبلاء، لم يعد ديفيل قادرًا على المماطلة.
“احبسوا أدريان في القصر الجانبي الذي سُجنت فيه الملكة. ولن يُسمح سوى لخادمة واحدة من اختياري بالدخول إليها.”
“جلالتك…”
“لكن، هذا…”
“هذا أمرٌ!”
أميرة تيفيا البكماء.
التي وُلدت لتغمرها محبة المملكة جمعاء، انتهى بها المطاف حبيسة في القصر الشمالي من قلعة تيريز، القصر ذاته الذي سُجنت فيه والدتها.
وكان عمرها آنذاك اثنتي عشرة سنة فقط.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"