5
الحلقة الخامسة: لنكن غرباء من جديد
في حديقة قصر سولتاير ، الذي منحه الإمبراطور برنارد إلى أليشا، كان هناك متاهة شاهقة من اللبلاب المتشابك
اعتادت أليشا أن تجلس في أعماق تلك المتاهة لتقرأ بهدوء ..
مكان لا يجرؤ فيه أحد على مقاطعتها ، سوى نداء وصيفتها التي تجوب الحديقة باحثة عنها ..
خشخشة العشب على أطراف ثوبها ، ونسيم الصيف الحار وهو يمر بخصلات شعرها ..
وحين كانت تنغمس في القراءة ، كان يعلو صوت صبي حاد اللهجة:
“هل جئتِ لتقرئي فعلًا ، أم لتلعبي الغميضة؟”
في كل مرة ، كانت أليشا تزفر بهدوء ، ترفع بصرها إلى إيريك وترد برد بارد ..
غالبًا ما كان جوابها: “أنت تُزعجني وأنا أقرأ ، يا صاحب السمو.”
لكن أحيانًا، عندما يلفظ الصبي كلمة جديدة ، كان فضولها يسبقها ..
“غميضة؟”
“ماذا؟ ألا تعرفينها؟”
قالها الصبي متباهيًا وهو يرفع كتفيه ، أليشا أمالت رأسها بصمت بدل الجواب ..
“صاحب السمو الصغير —”
لكن إيريك قاطعها سريعًا ليشرح:
“الأمر بسيط ، واحد يكون الباحث ، يعدّ حتى مئة ، ثم يبدأ بالبحث عن المختبئين.”
جلس بجوارها دون تردد ، لتتناثر خصلات شعره الأسود مع الريح ، أليشا رمقته طويلاً ثم قالت بنبرة عابرة:
“لم أختبئ للعب.”
“…….”
“أنت الذي كنتَ تلاحقني دومًا، ففضلتُ أن أبتعد أولًا لكنك الآن جئت تلحق بي من جديد …”
بكلماتها البسيطة تلك ، احمرّ وجه إيريك فجأة ..
رمقته أليشا ، وأهدابها تخفق في الهواء ..
لون وجنتيه بدا كأحمر الورود في الحديقة ..
“رأيتكِ لأنكِ تختبئين في أماكن مكشوفة ، لا أكثر!”
قالها وهو يرفع صوته ليخفي ارتباكه ..
لكن أليشا ردت بنفس برودها المعتاد:
“وصيفتي لم تستطع إيجادي.”
“لأني أذكى وأسرع منها فقط…”
“يبدو أنك بارع جدًا في الكذب يا صاحب السمو.”
وما إن أنهت جملتها حتى ارتجف وجه الصبي غضبًا ..
لكنها أضافت بهدوء:
“هذه المرة لم أختبئ للعب.”
“…….”
“لكن في المرة القادمة ، حين نلعب الغميضة ، سأختبئ بجد.”
عندها عضّ إيريك على شفته ، وصوته يخرج مفعمًا بالإصرار:
“فلنلعب الآن إذًا.”
“…….”
“أنتِ ستتوقفين عن القراءة على أي حال.”
أشار ببرود إلى زاوية الكتاب المطوية ..
كانت تلك عادة أليشا: تطوي الصفحات بدل استخدام علامة للكتاب ..
“……إن فزتُ أنا، فعليكِ أكل كل الجزر الليلة.”
“ماذا؟”
“جلالته قلق باستمرار ، يقول إنكِ إن واصلتِ هذه العادة السيئة ، فلن يطول بكِ العمر…”
“الجملة الأخيرة من تأليفك!”
“توهّمتِ.”
نظرت إليه بعينيها الزرقاوين ، بلا أي انفعال ظاهر ، لكنه لمح بريقًا صغيرًا في أعماقهما ..
“حسنًا ، إن خسرتُ ، سألتهم كل الجزر الليلة ، لكن إن فزتُ أنا، فأنت من ستأكله عني.”
عقد حاجبيه بعزم ، أليشا أغمضت عينيها بهدوء، ثم قالت:
“صفقة خاسرة بالنسبة لي… لكن لا بأس.”
أومأت بابتسامة خفيفة ..
“فأنا الفائزة على أي حال.”
فصرخ الصبي بثقة:
“استعدّي للجزر إذن!”
ثم غطى وجهه براحته وبدأ العدّ ..
وكان واثقًا من فوزه ، فهو ابن القصر ، العارف بكل شبر فيه ..
لكن في تلك الليلة—
جلس إيريك على مائدة العشاء ، يدفع دموعه مع كل قضمة من الجزر …
“وجبة الإفطار اليوم هي الحساء للجميع.”
ارتفع صوت أجشّ ، وُضعت أمام أليشا صحفة حساء ..
نظرت إليه طويلًا، أغمضت عينيها وأعادتهما إلى الطبق أمامها ..
غادرت القصر متجهة إلى المدينة مباشرة ، ودخلت نُزلاً لمجرد أن اللافتة كُتب عليها أنّه يوفر الطعام والمأوى ..
ظنّت أنها ستجد مكانًا يشبه القصر ، لكن—
‘ لو كنت أعلم ، لالتهمت البارحة وليمة الوداع ..’
حساء بلا قطعة لحم واحدة ..
رفعت الملعقة وحرّكت الحساء بخفة ، وأطلقت تنهيدة قصيرة ..
كان عليها أن تعتاد على هذا الآن ..
لقد كان الأمر مجرّد فقدانها لإحساسها بالواقع بعد أن قضت زمناً طويلاً في القصر الإمبراطوري ، وإلا فالبشر العاديون يعيشون حياتهم هكذا في معظم الأحيان ..
على الأقل ، هذا ما قرأته في الكتب .
‘. إريك محظوظ كونه من العائلة الإمبراطورية ..’
فإريك ، الذي كان يأنف من مجرد رؤية الخضار ، لم يكن ليتحمّل مثل هذه المعيشة ..
تساءلت إليشا في نفسها وهي تلتقط بملعقتها قطعة جزر طافية على السطح ..
ربما كان سينفجر بالبكاء… أو يرفض الأكل تماماً حتى يسقط من الإعياء ..
وفي كلتا الحالتين ، فالنتيجة مزعجة بالقدر نفسه .
قال الرجل الواقف أمامها، بينما كانت تحرّك حساءها بالملعقة:
“يكفي النظر إليكِ ليُدرك المرء أنكِ نشأتِ في ترف ، وهذا أمر يثير الشكوك …”
ثم تابع:
“فليس من عادة بنات النبلاء أن يخرجن للتنزّه في القرى من دون حراسة ترافقهن.”
ألقت إليشا نظرة جانبية على الرجل ، تذكّرت أنه قيل إنه صاحب هذا المكان ..
“أأنتِ هاربة من بيتكِ؟” سألها وهو يداعب طرف لحيته.
لكن إليشا لم تُجِب ، واكتفت برمش أهدابها بهدوء ..
أما “البيت الكامل” فلم يكن القصر بالنسبة لها قط
لقد أدركت جيداً أن سبب بقائها هناك كل تلك السنين لم يكن سوى كونها ذات نفع وقيمة ..
وكانت تعلم أيضاً أنها ستظل نافعة للآخرين ما دامت على قيد الحياة ..
‘ لو لم يحدث شيء استثنائي ، لربما قضيت حياتي كلها في القصر ..’
لذا، فمن ناحية ما، يمكن اعتبار ما فعلته “هروباً.”
“أم تراكِ قد طُردتِ؟”
فسّر الرجل صمتها على طريقته ، وسأل من جديد ..
مالت إليشا برأسها قليلاً دون أن تُجيب ..
“طُردت؟” أجل، يمكن القول إن هذا صحيح جزئياً، وإن كان مشروطاً ..
فقد جاء الوقت أخيراً للوفاء بالوعد الذي قطعته لإريك ، ولهذا السبب غادرت القصر دون تردّد ..
لكنها لم تفعل ذلك من غير تدبير ..
فمن خوفها أن يتعرّض إريك للاغتيال بغيابها ، نصبت له شتى وسائل الحماية السحرية ..
أما منصب “كبير السحرة” فسيخلفها فيه دانتي رينار ، لذا لم يكن هناك ما يُقلقها ..
حتى عصاها السحرية تركتها خلفها ، وقد ألقت عليها تعويذة تمنح مستخدمها قوة سحرية أكبر وسرعة أعلى في الإلقاء ..
‘ غالباً سيستفيد دانتي رينار من ذلك ..’
تنفست إليشا بهدوء بعد أن أنهت أفكارها .
سواء كان هروباً أو طرداً، فالخلاصة واحدة:
لن تعود إلى هناك أبداً ..
“حقاً طُردتِ؟”
أعاد الرجل سؤاله وهو يقطّب حاجبيه ..
هزّت إليشا كتفيها بخفة وأمسكت الملعقة من جديد ..
لم يكن هناك أي سبب يجعلها تروي قصتها لأحد ، وخاصةً لرجل تلتقيه لأول مرة ..
“يا آنسة…”
لكن قبل أن ترفع الملعقة إلى فمها، خطف الرجل صحن الحساء من أمامها ..
فانقبض حاجباها وهي تحدّق فيه بنظرة حادة ..
“ظننتكِ نبيلة فلم أتحدّث عن المال ، أما وقد تبيّن أنكِ مطرودة، فالأمر يختلف.”
تغيّرت ملامحه إلى شيء أكثر خشونة:
“هل معكِ مال أصلاً؟”
بدأت إليشا ترمش بهدوء وهي تستعيد أفكارها.
فالرجل قد وفّر لها طعاماً ومأوى ، ومن الطبيعي أن يطلب مقابلاً لذلك ..
ثم تذكرت ما قاله دانتي رينار لها: البشر عاديون وضعفاء ، إشارة واحدة من يدها تكفي لقطع أنفاسهم.
قال لها وقتها:
“إن استطعتِ فاحسمي الأمر بالكلام ، بالمفاوضة ، بالتفاهم ، بخاتمة سعيدة… وإن لم يُجْدِ، فحينها امسحيهم من الوجود.”
رفعت عينيها إلى الرجل وقالت بهدوء:
“لا مال معي.”
تجهّم وجهه أكثر وهمّ أن يصرخ:
“إذن اخرجي فوراً من نزلي…”
لكنها قاطعته وهي تُخرج شيئاً من بين ثيابها وتضعه على الطاولة:
قطعة أثرية مذهلة التصميم ، مطعّمة بحجر سحري بنفسجي تحيط به حلقة ذهبية دقيقة الصنع ..
تجمّدت الكلمات على لسان الرجل ، وعيناه البنيتان ارتجفتا للحظة ..
ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة وديعة وقال بلطف:
“سأضيف اللحم إلى حسائكِ ، آنسة.”
رمشت إليشا مرتين قبل أن تومئ برأسها.
لو سمع إريك بذلك ، لسرّه الأمر كثيراً ..
وإن كان هو نفسه يتناول لحماً أفضل بما لا يُقاس.
ترجمة ، فتافيت …
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"