لنكن غرباء من الآن فصاعدًا
الفصل الرابع
امتلأت رئتاهــا بالهواء الرطب كأنّه ندى الفجر تسلل مع كل شهيق ..
رمشت إليشا ببطء ، وعينيها تائهتان تحدقان في الأفق الممتد أمامها ..
كان المشهد مختلفًا كليًا عمّا اعتادت أن تراه ،
فبدل الأشجار المصقولة بعناية في حدائق القصر ، ارتفعت هنا وهناك أشجار متفرقة ..
وبدل القباب الرخامية البيضاء ، برزت أسطح الطين الأحمر الداكن ..
كل ما تراه الآن لم يكن موجودًا في القصر الإمبراطوري ، ولهذا بدا غريبًا عليها ..
“عندما كنت أخرج في حملات أو بعثات ، كنا نستخدم دوماً سحر الانتقال الفوري…”
ثم أغمضت عينيها برهة وأعادتهما إلى الأفق ..
لم تكن تغادر القصر أصلًا ، فلا داعي لذلك ،
فهي ليست ممن يستمتعون بالخروج بلا سبب ..
لكن الآن ، صار هناك سبب ..
رفعت خصلة من شعرها المتطاير خلف أذنها ، وأطلقت تنهيدة هادئة ..
“إل… ليشا.”
كان صوتًا واهنًا ، متقطع الأنفاس ، ينادي اسمها آخر مرة
وجه شاحب ، خصلات بيضاء متناثرة وسط شعر أسود ، تجاعيد صنعها الزمن عند العينين ، وابتسامة شوهت كل ذلك ..
“لديكِ… أمر أرجوكِ أن تقومي به ، أخيرًا.”
ذلك كان الإمبراطور الراحل، برنهارت ..
“بعد… جنازتي…”
حتى وهو يلهث ، واصل الحديث أمام الجميع:
إليشا ، إيريك ، حرسه الشخصي ، مستشاروه ، وأكابر النبلاء ..
لم يكن رجاؤه موجهًا لها وحدها ، بل وصية تركها علنًا:
“إيريك… والزواج الملكي…”
كانت تلك آخر وصايا الإمبراطور برنهارت …
أغمضت إليشا عينيها، وجمعت أنفاسها ..
لقد صدق إيريك ، وكان حدسها صائبًا ..
برنهارت كان رجلاً لا يرجع عن كلمته ، وقد أصبحت بالفعل ما تنبأت به: شخصية أكفأ من إيريك ..
لكن… الكفاءة هي المشكلة ..
فهي الآن كبيرة سحرة القصر الإمبراطوري
منصب لا يُنال لا بمال ولا بنَسب ، بل بالقوة الخالصة وحدها ..
ولهذا ، كان من الأفضل للنبلاء تبنيها في إحدى عائلاتهم العريقة بدل الطعن في أصلها ..
إلى أن غادرت القصر ..
“هل أدرك الآن أنني اختفيت؟”
فكرت وهي تميل رأسها ..
تركت رسالة في مكتب إيريك ، لكن حتى إن لم يقرأها… لا بأس .
فهذا ما كان يريده دومًا ..
إذن ، ربما الآن فقط عاد كل شيء إلى موضعه الصحيح ..
لكن هناك مشكلة صغيرة:
“عادةً في مثل هذا الوقت أكون نائمة.”
تنهدت وهي تحدق بالشمس التي بدأت تشرق ببطء فوق الأفق ..
غادرت القصر وفاءً بوعدها لإيريك ، لكنها الآن لا تدري إلى أين تتجه ..
هل تعود إلى المكان الذي وجدها فيه برنهارت أول مرة؟
لكن ذكرياتها قبل ذلك شبه معدومة ..
وحتى لو عادت ، فلن تجد سوى أطلال ماضٍ متهالك .
لم تشأ أن تهدر قواها عبثًا ، رغم أن الانتقال عبر مسافات طويلة بالكاد يستنزفها .
“أريد فقط أن أنام قليلًا.”
طرقت الأرض بأطراف قدميها برفق وهي تفكر ..
ربما عليها أن تبحث عن نُزل أو مكان يأوي المسافرين.، كما قرأت في الكتب ..
“الأفضل أن أبدأ بالمدينة.”
لكن بما أنها لم تغادر العاصمة من قبل ، فكل مكان يبدو كمدينة لها ..
“…مزعج.”
ما إن تمتمت بذلك حتى انبثق تحت قدميها دائرة سحرية مضيئة …
على أي حال ، إيريك لن يبحث عنها ..
وليس سيئًا أن تقيم أيامًا في العاصمة لترى كيف يعيش الناس .
وبمجرد أن اكتملت الفكرة ، أضاءت الدائرة بنور ساطع
أغمضت إليشا عينيها للحظة ، بوجهها الخالي دومًا من التعبيرات ..
كل ما تريده الآن… هو الراحة ..
في الوقت ذاته، داخل مكتب الإمبراطور ..
“إليشا…”
تمتم رجل وهو يحدق في العصا السحرية والرسالة الموضوعة فوق المكتب ..
إنه دانتي رينار ، قائد فرسان السحر الأول وأقدم أصدقاء إيريك ..
لقد استدعاه منذ الفجر ، فظن أن أمرًا عاجلًا وقع…
“هل اختفت حقًا؟”
“نعم.”
“ألا يمكن أن تكون خرجت لتستنشق بعض الهواء…؟”
“إليشا لم تغادر القصر قط بلا سبب وجيه.”
“لكن ربما اضطربت لأنها ستتزوج ، فأرادت أن تهدأ قليلًا…”
لم يُكمل دانتي حديثه حتى خطف إيريك الرسالة ودفعها إلى يديه ..
راح دانتي يقرأ ببطء، يتأمل الخط والكلمات الواثقة.
“نعم ، هذه بخطها بلا شك.”
مسّد شعره البلاتيني ، بينما عيناه البنفسجيتان لا تفارقان السطور ..
كان إيريك بالنسبة لها عاجزًا، نعم… وربما معها حق ،
لكن هذا ليس المهم الآن .
“لقد كتبتها صراحة: لن أتزوجك أبدًا!”
تشنج وجه إيريك بغضب ، فيما تمتم دانتي مذهولًا:
“لكن… إن كان عليّ الزواج بها، فأُفضل الذهاب إلى الدير…”
“دانتي رينار.”
“أعتذر، جلالة الإمبراطور.”
ساد الصمت بينهما، لا يقطعه سوى أنفاسهما الثقيلة ..
حينها، قال إيريك بصوت متوتر ، كأنه يحدث نفسه:
“كانت مجرد كلمات طفل… لا معنى لها.”
ككلام الأطفال الذين يزعمون أنهم سيتزوجون أحد والديهم مستقبلًا ..
كلمات عابرة يفترض أن تُنسى مع الزمن ..
لكن دانتي ابتسم جانبًا:
“ومع ذلك ، ألم تُكررها كثيرًا؟ ألم تكرهها فعلًا؟ بل وتجادلت معها حتى آخر لحظة مع الإمبراطور الراحل؟”
قطّب إيريك جبينه:
“لقد ظهرت فجأة وأخذت مكاني… طبيعي أن أرفضها.”
كانت طفلة مجهولة ظهرت من العدم ، وحظيت بحب الإمبراطور العلني ..
كان من المستحيل أن يراها إيريك بعين الرضا ..
لكنه لم يؤذها يومًا ..
“على كل حال… هذا موضوع آخر.”
أجاب إيريك بحدة ..
ابتسم دانتي وهو ينظر إلى العصا فوق المكتب:
“المشكلة الآن أن إليشا، الساحرة العظمى ، اختفت.”
تابع بجدية:
“العاصمة ما زالت هشة بعد انتقال العرش ، وإذا شاع خبر غيابها ، فسيكون لذلك أثر خطير ، وقد تستغل بعض القوى هذا الفراغ لتطمع في الإمبراطورية.”
انشق هواء المكتب بصوت بارد صارم ، ضغط إيريك بأطراف أصابعه على ما بين حاجبيه وأومأ برأسه ..
“لتصدر أوامر كتمان إلى وصيفات قصر سولتاير ، وليُعلن رسميًا أن أليشا قد خرجت في إجازة قصيرة.”
“لن يدوم ذلك طويلًا ، فالإشاعات تنتشر لا محالة.”
حتى لو لم يكن الناس راضين عن فكرة مغادرتها قبل الزفاف مباشرة ، فإن اختفاءها لأسابيع سيُثير الشكوك بلا شك ..
ولن يمر وقت طويل حتى يطفو خبر اختفاء أليشا على السطح ..
عند كلمات دانتي ، أغمض إيريك عينيه للحظة ثم فتحهما، وفي زرقة عينيه بريق غامض .
“إذن يجب أن نجدها.”
ثم قال بصوت خافت:
“سواء كانت داخل الإمبراطورية أو غادرت حدودها ، لا يهم ، المهم أن نعيدها.”
ما إن أنهى إيريك كلماته، حتى اجتاح دانتي شعور سيء لا يخطئ ..
أوه، تبًا ..
“دانتي رينار.”
ناداه إيريك بصوت رسمي لا يحتمل أي تأويل ، جفف دانتي ريقه لا إراديًا ونظر إلى سيده أمامه ..
هو يكره الأعمال المزعجة ، لكن قلبه يخبره أنّ أكثرها إزعاجًا قد وُضع على عاتقه للتو ..
والدعوة إلى القصر فور استيقاظه لم تكن فأل خير أصلًا.
“فقط للتوضيح… لا تجعلني أنا المسؤول عن هذا ، قد لا يبدو عليّ ، لكنني رجل مشغول للغاية.”
ما إن خطرت الفكرة في ذهنه حتى سبق لسانه بها، لكن إيريك تجاهله تمامًا وأكمل:
“تذكرت الآن ، كنتَ منذ الصغر تحب البحث عن الكنوز.”
لم يحدث هذا قط ..
“سأمنحك إجازة كذلك.”
لا يريد مثل هذه الإجازة البتة ..
“ابحث في القارة كلها إن لزم الأمر ، لكن أعِد إليّ أليشا.”
“لماذا لا تخطئ التوقعات السيئة أبدًا…؟”
تمتم دانتي رينار بنظرة يائسة ، فيما لم يلتفت إيريك إليه، بل اكتفى بالتحديق في عصاه أمامه ..
أليشا، تلك الفتاة التي لا تخلّ بوعد قطعته ، مهما كان ، وقد أيقن الآن هذه الحقيقة بعمق ، لذا، آن أوان استغلالها ..
حين يعيدها أمام عينيه ، عندها—
“سنعقد وعدًا جديدًا.”
ترجمة ، فتافيت
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"