3
الفصل الثالث
“لن أتزوجكِ أبداً!”
ارتفع صوت إيريك الجهوري حتى دوّى في أرجاء القصر كلّه ، كان صوته قوياً لدرجة أنّ إحدى الوصيفات التي كانت تمر في الممر ارتجفت كتفيها خوفاً ..
لكن إليشا لم تُعر كلامه أدنى اهتمام ، بل اكتفت برسم دائرة على الورق أمامها ، وكأنها قد اعتادت على مثل هذا الأمر ..
منذ أن أطلق الإمبراطور برنهارت تصريحه الصادم قبل بضعة أيام ، لم يتوقف إيريك عن ترديد تلك الجملة كلما قابلها ..
ولم يكن أمام إليشا سوى التعود على الأمر ..
لكن التعود لا يعني أنها تنوي تركه يمر مرور الكرام ..
“سمو الأمير.”
تنهدت إليشا وهي تحدّق في الدائرة المائلة التي رسمتها ..
فارتجفت شفتا إيريك قليلاً، في تناقض واضح مع صراخه قبل قليل ، كان يعرف جيداً معنى ذلك التنهد ..
إنها مقدمة كلماتها المرعبة ، حادة كالسكين ، التي لم ينجُ منها أحد …
“سمو الأمير ، ألا تعرف كيف تميّز الكذب؟”
“ماذا؟”
“أي شخص يرى أن الأمر كان مجرد مزحة ، بينما أنت الوحيد الذي صدّقها ، هذا يبدو غبياً جداً ، يقولون إن وصف الأمير بالغباء يُعتبر إهانة تُقطع بسببها الرؤوس ، لكن مع ذلك لا بد أن أقولها.”
“…….”
“سموك يبدو غبياً حقاً.”
أمالت إليشا رأسها قليلاً بعد أن أنهت كلامها ، ونظراتها الواثقة توحي وكأنها تقول: إن كنت ستقطع رقبتي فجَرِّب ..
ظلّ إيريك يرمش محدّقاً فيها بدهشة ..
تلك الفتاة الصغيرة تجرأت على وصفه بالغبي ..
وليس مرة واحدة، بل مرات عدة ..
“أنتِ حقاً…….”
تقلصت ملامح وجهه واشتعلت عيناه الزرقاوان بالغضب وهو يفتح فمه ..
أما إليشا فكانت تنظر إليه ببرود ، بانتظار ما سيقوله.
هل سيهددني بقطع عنقي؟
رغم أنها تعلم أن الأمر لن يحدث ، لكنها فكرت أنه قد يؤدي إلى زيادة حصص دروس الآداب على الأقل ..
آه ، لكن ربما سيُعتبر ذلك امتيازاً في نظر الآخرين ، أليس كذلك؟ بدلاً من الإعدام يكتفون بتعليم إضافي!
لا بد أن أكون أكثر حذراً بكلامي مستقبلاً ..
أو ربما أن ما يمنحها هذه المعاملة هو قيمتها الخاصة ..
فإليشا كانت تدرك جيداً بنية القصر الإمبراطوري:
من يملك فائدة للإمبراطور ، ينال الحظوة لديه .
وإن كنت سأبقى هنا ، فمن الأفضل أن أكون ضمن تلك الفئة ..
وبينما كانت تدور هذه الأفكار في ذهنها، قالت إيريك فجأة:
“أنتِ الغبية هنا، أليس كذلك؟”
رفعت إليشا حاجباً واحداً وهي تميل برأسها قليلاً ..
فانتهز الفرصة ليواصل:
“أنتِ لا تعرفين أبي.”
“…….”
“أبي لا يتراجع أبداً عن أي كلمة يقولها ، أبداً.”
ولهذا السبب بالذات تنعمين بالراحة هنا ..
عيناه الزرقاوان لمعتا بمزيج من الهيبة والخوف ..
أمالت إليشا رأسها في الاتجاه المعاكس ، غير مألوفة لديها تلك النظرات ..
“إذن أنتِ الغبية ، أيتها الغبية.”
قالها إيريك وهو يشبك ذراعيه ويرفع ذقنه بتعالٍ ..
خفضت إليشا بصرها إلى الدائرة التي رسمتها ..
ذلك الأمير الصغير ، بما أنه لا يسمع إلا ما يريد سماعه ولا يرى إلا ما يريد رؤيته، فطبيعي أن يجهل الحقيقة.
لكنها كانت تعرف الكثير مما يدور في القصر ..
وأهمه ما يخص وضعها هي ..
فمهما أحبها الإمبراطور ، إلا أن هناك أسباباً تمنعه من اختيارها إمبراطورة مستقبلية ..
ولهذا لم يكن هناك داعٍ لأن يفقد إيريك أعصابه إلى هذا الحد ..
لكنها لم تُفصح له بذلك ..
ربما لأنها وجدت في اندفاعه الغريب شيئاً مثيراً للاهتمام
بل ربما كانت ترغب في رؤية المزيد من هذا الجانب المختلف عنها تماماً ..
على أي حال، لم يكن الأمر سيئاً ..
“سمو الأمير.”
قالت إليشا وهي تحدق في شعره الأسود اللامع.
“ماذا؟”
نظر إليها ايريك من طرف عينيه وأجاب بفظاظة.
أغمضت إليشا عينيها ببطء مرتين قبل أن تسأل:
“لقد نعتُّ سموك بالغبي ، فلماذا لم تغضب؟”
عينان مملوءتان بفضول صادق حدّقتا فيه مباشرة
وتحت ذلك النظر تلعثم إيريك وأجاب متردداً:
“لأنكِ تقولين أشياء أسوأ من ذلك بكثير…”
“متى مثلاً؟”
“مجرد أنها ليست لعنة مباشرة لا يعني أنها ليست
لعنة .”
أيتها الغبية ..
قالها ثم هز كتفيه وكأنه فخور بنفسه.
لكن إليشا، بملامحها الباردة، واصلت تسأل:
“إذن ، هل لهذا السبب تكرهني؟”
“ماذا؟”
“هذا ما تردده دائماً ، أليس كذلك؟ تقول إنك لن تتزوجني أبداً ، وأنك تكرهني ، أليس كذلك؟”
“لا… لا، أعني… نعم!”
تلعثم قليلاً، ثم عض شفتيه وحدّق بها بغضب ..
نظرت إليشا إلى أذنه التي احمرّت خجلاً، ثم التقت بعينيه الزرقاوين وقالت:
“إلى أي حدّ تكرهني؟”
“هاه؟”
“كم تكرهني بالضبط؟”
رمشت عيناها وهي تحدّق فيه بصدق طفولي ، وكأنها تريد جواباً واضحاً ..
رمش هو الآخر مرات عدّة، قبل أن يجيب أخيراً:
“بقدر ما أكره الخضار…”
“سموك لا تكرهني في الحقيقة ، أليس كذلك؟”
“ماذا تقولين! الخضار مقرف لدرجة لا تطاق!”
“حسناً… وإن قيل لك إنك إن تزوجتني فلن تضطر إلى أكل الخضار بعد الآن ، فهل سترفض؟”
“هـ… هذا…”
اهتزت عيناه الزرقاوان في اضطراب، وكأن إغراءً لا يُقاوَم يشده ..
تأملته إليشا مليّاً قبل أن تقول ببرود:
“أنت مُدلّل في الأكل.”
“وأنتِ أيضاً!”
“أنا آكل الخضار جيداً. هل تريد أن آكل حصتك أيضاً؟”
بلع ريقه ..
ما إن انتهت كلماتها حتى ابتلع إيريك ريقه بسرعة.
أن تأكل الخضار بدلاً عنه؟
لقد كاد يبكي في المرة السابقة حين اضطر إلى أكل جزرة نيئة ..
لا… تمالك نفسك ، لا تنجر وراءها…
“حسناً! على كل حال ، لن أتزوجكِ أبداً! حتى لو مت ، فلن أفعل!”
صرخ ايريك فجأة بعدما استعاد رباطة جأشه ..
أما إليشا فوضعت إصبعها في أذنها بملامح منزعجة.
رغم دروس الآداب التي خضعا لها معاً، لم تستطع أن تفهم لماذا يصرخ في كل وقت هكذا ..
بالطبع لم يكن ذلك هو المهم الآن…
“حسناً، فهمت.”
قالت إليشا وهي تُنزل يدها عن أذنها وتهز رأسها بخفة ..
“بصراحة ، بالنسبة لي الزواج من سمو الأمير أو عدمه… سيّان.”
“…….”
“أنا لا أحب سموك كثيراً، لكنني في المقابل لا أكرهك أيضاً.”
“…….”
“ولهذا… أرجو فقط ألا تموت.”
“ولماذا تتحدثين فجأة عن حياتي وموتي؟”
سأل إيريك وهو يرفع يده الصغيرة ليشير إلى عنقه ، فيما هزّت إليشا كتفيها بلا مبالاة .
“ألم تقل بنفسك إنك تفضّل الموت على الزواج بي؟”
“هذا صحيح، ولكن…”
شعر للحظة وكأنه قال شيئاً فظيعاً ، تمتم إيريك بارتباك ، غير واثق من كلامه ..
وحين فكّر بالأمر… ربما لم يكن الأمر سيئاً منذ قدوم هذه الفتاة ، لم يعد يشعر بالملل كما في السابق ..
صحيح أنه اعتاد أن يصرّح بلا وعي: أنا أكرهكِ!، لكنه لم يكن يكرهها لدرجة حتى الموت …
لكنني منذ قليل قلت لها إنني أكرهها بقدر ما أكره الخضار…
وبينما كان إيريك غارقاً في دوامة مشاعره المربكة ، تابعت إليشا حديثها:
“لذلك… إذا حدث في المستقبل حقاً أننا أُجبرنا على الزواج…”
تنفست ببطء، وارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة ..
“فحينها… سأرحل بنفسي.”
في تلك اللحظة ، توقف إيريك عن التفكير وحدّق بها مطولاً ..
خلال أكثر من شهر قضياه معاً، لم ير ابتسامة على وجهها ولا مرة واحدة ..
صحيح أنها أحياناً كانت ترفع حاجبيها لتُظهر انزعاجها ، لكنها غالباً ما بدت باردة بلا تعابير ..
لكنها الآن ابتسمت ..
ابتسامة نقية ، مثل أول ثلج يتساقط في ليلة هادئة.
شعر إيريك بأنفاسه تُحتجز فجأة في صدره ، وكأنه مجبر على استنشاق الهواء بعمق .
ولم يعرف لماذا ، لكن معدته انقبضت وارتج قلبه ..
“حتى لو أصبح مستقبلي أكثر ذكاءً منك ، وأكثر كفاءةً منك ، وحتى لو أراد الجميع أن أكون بدلاً منك… فسأرحل عنك ، حينها سأكون قادرة على العيش بمفردي …”
لم تكن إليشا تدرك اضطراب قلبه وهي تضرب طرف القلم الريشي بأصابعها في لا مبالاة ..
لكن إيريك ، وقد استعاد وعيه ، عقد حاجبيه بشدة وصاح:
“هذا لن يحدث أبداً!”
فأجابته إليشا بنبرة هادئة، تكاد تكون ساخرة:
“إنها أنباء محزنة بالنسبة لسموك… لكن العالم لا يحب أميراً لا يجيد سوى الصراخ.”
قالت إليشا بصوت مفعم بالأسى ، لكن عينيها ظلّتا خاليتين تماماً من أي عاطفة ..
مظهرها هذا لم يكن يوحي أبداً بأنها قبل قليل فقط ابتسمت ، مما دفع إيريك إلى إطلاق ضحكة قصيرة ساخرة .
«حتى لو أصبح مستقبلي أكثر ذكاءً منك وأكثر كفاءةً، وحتى لو أراد الجميع أن أكون بدلاً منك…»
فتاة لا تجيد سوى توجيه الكلمات اللاذعة له… هي التي ستتفوق عليه؟
هز إيريك رأسه بعنف ..
“هذا لن يحدث أبداً.”
لماذا تعود تلك الذكرى الآن بالذات؟
وضع إيريك أصابعه على ما بين حاجبيه وأطلق تنهيدة خافتة ..
بينما قبضته لا تزال تمسك بالرسالة التي تركتها إليشا ورحلت ..
لقد رحلت إليشا ..
رحلت لتفي بوعد طفولي ساذج ، بالكاد كان يتذكره في البداية ..
“إليشا…”
“إليشا ، إليشا…”
ردد الرجل الذي كبر كثيراً الآن اسمها بصوت منخفض ..
إليشا… لم تتفوه بكلمة لطيفة حتى بمحض المجاملة في حياتها ..
فهي لم تكن يوماً من النوع الذي يضع مشاعر الآخرين في حسبانه حتى يقول ما يرضيهم ..
لكنها في تلك المرة نطقت كلماتها وكأنها تعويذة ، محمّلة بيقينها الخاص ..
وتذكّرها لحديث قالته في طفولتها وتنفيذها له بعد كل هذه السنوات… لم يكن سوى استمرار لذلك المنطق بعينه ..
“ميلن كاسرس.”
بمجرد أن أنهى أفكاره ، انطلق صوت إيريد بارداً إلى أقصى حد:
“استدعوا قائد فرسان السحر حالاً.”
ثم أردف بأمر حاد كأنه يطحن كلماته بين أسنانه:
“……لقد اختفت كبيرة سحرة القصر الإمبراطوري.”
ترجمة ، فتافيت..
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"