2
لنفترق كغرباء .
الفصل الثاني ..
الكلمات التي خرجت من شفتيها بلا أدنى تغير في ملامحها ، جعلت أفواه الجميع ، بما فيهم إيريك ، تنفتح دهشة ..
وحدها إليشا كانت تحدق ببرود وهي ترمش بعينيها بهدوء ، كأن الأمر لا يعنيها ..
صحيح أن إيريك تصرف دون لياقة ، لكنه في النهاية وليّ للعهد
شخص في مثل مكانته لا يمكن لأحد أن يوبخه أو يعترض عليه إلا الإمبراطور نفسه أو من فوّضه بذلك ..
ومع ذلك ، ها هي تقول له وقح… ليس ذلك فحسب ، بل وضعته في نفس مستوى الوصيفات!
“أ.. أنتِ، ماذا قلتِ للتو؟”
تساءل إيريك مذهولًا وعيناه متسعتان ، وكأنه لم يصدق ما سمعه
“كم مرة قلتُ لكما ألا تركضا في القصر؟”
رنّ صوت هادئ ورزين مليء بالهيبة في الأرجاء ..
فتسارعت الوصيفات إلى خفض رؤوسهن مرة أخرى ، ووجوههن تكسوها الدهشة ..
في تلك الأثناء ، تقدّم بيرنهارت ووقف أمام إيريك ، وارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة ..
ابتسامة دافئة تشبه تلك التي رآتها إليشا في السابق ، لكن مع فرق واضح هذه المرة ..
أما إيريك ، فكان يعرف جيدًا متى يرسم والده تلك الابتسامة .
“أبي ، أنا فقط…”
“إيريك فون كارديون.”
قُطع كلام إيريك وهو متلعثم ، حين خاطبه بيرنهارت باسمه الكامل وهو ينظر إليه بثبات ..
“أخبرني ، ما الذي حدث منذ قليل؟”
نبرة صوته كانت لينة لكنها تحمل قوة لا يمكن مقاومتها ..
فانكمش إيريك فورًا في مكانه ، أما إليشا فكانت تراقب الموقف ببرود ، دون أن تُنزل يدها التي ما زالت تشير بها نحو الوصيفات ..
“هي… هي قالت إنني وقح!”
تمتم إيريك أخيرًا بارتباك ، وكأن ما سمعه للتو لا يزال غير معقول حتى في ذهنه ، وبمجرد أن أنهى كلامه ، استدار فجأة بحدة يحدّق في إليشا بنظرات غاضبة ..
أما إليشا، فاكتفت بالنظر إليه بلا اكتراث قبل أن تتلفظ ببرود:
“وأنت أشرت إليّ بأصبعك أولًا.”
“ذلك لأن…!”
“إليشا ، إذن لماذا تشيرين أنتِ الآن إلى الوصيفات؟”
تدخل بيرنهارت فقطع كلام ابنه ، موجّهًا السؤال إلى إليشا ، عندها ، أنزلت ذراعها ببطء وأعادت السؤال بهدوء:
“إلى أين ستأخذني؟”
كان سؤالها بعيدًا كل البعد عن سؤال بيرنهارت ..
سؤال طفولي بريء ، خالٍ من أي نية خبيثة.
رفع بيرنهارت حاجبه قليلًا ، ثم هز رأسه مبتسمًا نحو إليشا ، وكأنه استوعب الأمر بأكمله …
“ما دمت أنا من أحضركِ ، فلن تذهبي إلى أي مكان ..”
اقترب بعدها من مكانها ، وتجاوز إيريك حتى وقف أمام إليشا وانحنى قليلًا نحوها ، عندها شهقت الوصيفات بخفوت .
كان معنى ذلك واضحًا تمامًا ..
الإمبراطور كان يري الجميع مكانة هذه الطفلة .
“ولكي تتأقلمي هنا أيضًا…”
تلألأت عيناه الزرقاوان وهما تتنقلان بين إليشا ، ثم إيريك ، وأخيرًا الوصيفات الواقفـات بجانبه ..
“يبدو أن علينا البدء بتعليمكِ آداب السلوك.”
—
طفلة لم يكتفِ الإمبراطور بإحضارها بنفسه ، بل منحها جناحًا خاصًا في القصر، وجعلها تحضر الدروس إلى جانب وليّ العهد .
أما الوصيفات اللواتي أسأن إليها للحظة ، فقد طُردن من القصر في الحال ..
وسط هذه الظروف ، بدأت الشائعات حول إليشا تكبر يومًا بعد يوم بلا توقف .
من كونها ابنة غير شرعية للإمبراطور، إلى كونها ثمرة حب قديم لم يكتمل ..
وبينما تمر بين أروقة القصر، كان بعضهم يرمقها وكأنها كائن نادر، بل إن بعضهم تعمّد أن يذكر الشائعات أمامها بصوت مرتفع .
إليشا كانت تستمع لكل ذلك بصمت ..
وهذا كل ما كانت تفعله…
إن نظر إليها أحد ، أعادته بنظرة ثابتة ، وإن تحدث ، اكتفت برمشات هادئة لجفنيها .
وفي النهاية ، كان الآخرون هم من يتراجعون أولًا ، مرهقين من هذا الصمت المهيب .
“لا أدري لماذا، لكنها تعطيني شعورًا سيئًا.”
“لم أرها تتحدث يومًا… هل هي عاجزة عن الكلام؟”
هكذا كان يقول كل من التقى بها ولو مرة ..
بالطبع ، إليشا كانت قادرة على الكلام ، لكنها لم ترغب في تبادل الحديث معهم ..
فإن نبح الكلب ، هل ستنبح هي أيضًا؟ لا طبعًا… مع أن النباح قد يكون ممتعًا أحيانًا …
على أي حال ، كانت معظم هذه الأحاديث مؤقتة ولا تستحق الاهتمام ..
إلا أن هناك من كان يصرّ على استفزازها أحيانًا ..
“لا تظني أن حضوركِ الدروس معي سيجعلكِ مثلي أبدًا.”
قال إيريك ذلك بصوت متعالٍ ، بينما كانت إليشا جالسة تحت جذع شجرة تقرأ كتابًا ..
لم تلتفت إليه إليشا ولو بنظرة واحدة ، وأكتفت بقلب صفحة الكتاب بين يديها ..
فعقد إيريك حاجبيه بغضب وأردف قائلاً ..
“توقفي عن ملاحقتي …”
“…سمو الأمير.”
أخيرًا ، وبعد طول صمت ، نطقت إليشا بنبرة هادئة ، وما زالت عيناها مثبتتين على الكتاب:
“بل سموك أنت من يبالغ في الوهم ، ولماذا قد أتبعك أصلًا؟ ليس فيك ذرة من الجمال أصلًا …”
“أنتِ… كيف تجرؤين على قول هذا بفمكِ ذاك…!”
“الأفواه خُلقت لتتكلم ، أم تراك تريدني أن آكل الطعام بأنفي؟”
أنهت كلامها ، ثم دارت بعينيها الزرقاوين نحو إيريك ببطء .
وكما توقعت ، كان وجهه محمرًا تمامًا وهو يحدّق بها من الأعلى ..
في الأحوال العادية ، كانت لتقول له: “أكره هذا التحديق من الأعلى ، إنه قلة تهذيب.”
لكن إليشا أمسكت لسانها هذه المرة ..
فالشخص الذي علّمها معنى “التهذيب” كان يقول لها .
إن إيريك يختلف عنها في الأصل والمقام ، وإن عليها أن تراعي آدابها أمامه ..
وأن قول عبارة “هذا تصرف غير مهذب” لولي العهد هو في حد ذاته قلة تهذيب ..
لهذا السبب ، كانت إليشا أحيانًا تكتم ما في صدرها ، وتكتفي بمناداته بـ”سمو الأمير” احترامًا ..
تلك كانت أقصى درجات التهذيب التي تستطيع أن تقدمها له ..
“ألم تسمعي ما قاله معلّم الآداب؟ يجب أن تستخدمي الألفاظ الرسمية!”
قال إيريك ذلك بنبرة متعالية ، رافعًا ذقنه بفخر ، فنظرت إليه إليشا بعينين هادئتين وأجابته:
“قرأت في الكتاب أن الألفاظ الرسمية تُستخدم للتعبير عن الاحترام لشخص ما.”
“وماذا في ذلك؟”
“أنا لا أحترمك ، سمو الأمير.”
إذن لن أستخدمها ..
قالت ذلك وكأنها تخبره بحقيقة بديهية ، وهي تطرف بعينيها ببطء. عندها صرخ إيريك بغضب:
“قيل لكِ إن الإمبراطور مكانته تجعله يستحق الاحترام من الجميع! وعندما يتوفى والدي سأصبح أنا الإمبراطور!”
“لكن… قدوم المرء له ترتيب ، أما رحيله فلا ترتيب له…”
“هذا أيضًا قرأتِه في الكتاب ، أليس كذلك؟!”
“لم أقرأ هذا في كتاب.”
أجابت إليشا بخفة وهي تطرف بعينيها الزرقاوين بضع مرات ، ثم سرعان ما قطبت حاجبيها كما لو كانت تفكر في أمر بالغ الأهمية، قبل أن تقول:
“حسنًا ، عندما تصبح إمبراطورًا في المستقبل ، سأخاطبك بالألفاظ الرسمية ، رغم أنني قلقة على مستقبل هذه البلاد ، لكن إن كان لا بد من ذلك ، فلا حيلة لي …”
قالتها بنبرة حاسمة كما لو كانت تقدم له معروفًا ، دون أن تشوب صوتها أي نبرة سخرية ، بل كان كله صدقًا صافياً ..
لكن بالنسبة لإيريك ، كان الكلام كفيلًا بأن يفقده صوابه ..
“أنتِ…”
كاد يصرخ متسائلًا عن معنى كلامها ، لكنه تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة ..
فقد تعلم أن رفع الصوت تصرف غير لائق ، وأن من يصرخ لا يمكنه أن يصبح إمبراطورًا يحظى بالاحترام ..
“…المربية تقول إنه لو سمعت كلامكِ ، لما صدقت أنكِ في الثامنة من عمركِ …”
تسلل صوت إيريك المتجهم إلى أذن إليشا ، لكنها أجابت بسهولة كالمعتاد:
“وأنتَ أيضًا لا تبدو في الثامنة من عمرك .”
“حقًا؟”
“حتى طفل في الخامسة خارج أسوار القصر لا يتصرف بطفولية مثلك.”
“ماذا!”
“أقسم أنني قلقة حقًا على مستقبل هذه البلاد…”
تنهدت إليشا بعمق وهي تهمس بصوت خافت ، فيما كان إيريك ينفخ الهواء من أنفه غيظًا ويعضّ شفته بشدة ..
لقد مر شهر كامل منذ أن دخلت هذه الفتاة الغريبة إلى القصر ..
لولا والده ، لما كان لها حتى اسم ، فهي بلا مقام يذكر، ومع ذلك تتجرأ على الرد عليه بهدوء وإصرار ..
في البداية كانت تلقي بكلمات مقتضبة ، أما الآن فهي ترد بجمل كاملة ، بل وتجادله أيضًا! …
والأسوأ من ذلك… أن معظم كلامها صحيح ، فلا يجد ما يرد به ..
“أنا حقًا أكرهكِ …”
قالها إيريك بوجه عابس وشفاه مزمومة ..
عيناه لم تحتمل تلك النظرات الهادئة التي تبدو وكأنها رأت كل شيء في هذه الحياة ، ولا ذاك الوجه الذي لا يتغير مهما قال .
“وأنا أيضًا لا أحب سمو الأمير كثيرًا.”
حتى شخصيتها العنيدة التي لا تعرف الاستسلام… لا شيء فيها يروق له!
رفع إيريك حاجبيه دهشة من كلامها ، لكن قبل أن ينطق ، سبقتْه إليشا بقولها ببرود:
“لكن لا تقلق.”
تابعت بنبرة خالية من أي انفعال:
“لم أفكر يومًا أن أُعامل مثل الأمير ، ولا حتى خطر في بالي أن هذا ممكن.”
“أنتِ…”
“إن كان سموك قد شعر بذلك بسبب تصرفي ، فأنا أعتذر ، أنا لا أحب قول ما لا أعنيه ، أشعر وكأن الشوك ينبت في جسدي حين أفعل ، لهذا غالبًا ما أفضل الصمت ، لكنك أنت من يصرّ على الحديث معي.”
“…”.
“على أي حال، أنا…”
توقفت لحظة ، ثم ثبتت عينيها الزرقاوين الباردتين في عينيه وقالت:
“أنا هنا لأعيش… فقط.”
قالتها بنبرة هادئة ، كأنها تخبره بحقيقة بسيطة لا تحتمل أي تأويل
إريك ، في تلك اللحظة ، لم يعرف ما الذي يجب أن يقوله ، فاكتفى بفتح فمه كسمكة تلهث خارج الماء ، أما إليشا فقد حولت بصرها عنه مجددًا، لتعود وتحدّق في الكتاب الذي كانت تقرأه
.
الأكل ، والنوم ، وحتى التنفس ، كلها في النهاية أفعال تنبع من الرغبة في البقاء حيًا
«حتى اتباعي لذلك الشخص كان من أجل ذلك».
لو لم تمسك بيد بيرنهارت في ذلك الوقت، لربما ماتت جوعًا ..
إليشا كانت تدرك هذه الحقيقة جيدًا ..
ولهذا السبب لم تكن تكترث لما يقوله الآخرون عنها ، فبمجرد أن تنبس ببنت شفة ، ستضع الرجل الذي أحضرها في مأزق ، وكانت تعرف أن هذا الأمر سيعود عليها وحدها بالخسارة ، فمهما عاشت هنا، ستظل في النهاية غريبة عن هذا المكان ..
مجرد تخيل ذلك كان كافيًا لأن تشعر بالاختناق…
“أنا متعبة.”
“ماذا؟”
“
متعبة لأن الأمير ظل يثرثر معي.”
قالت ذلك وهي تغلق الكتاب ثم نهضت من مكانها ، أما إريك، فقد ألقى نظرة سريعة على غلاف الكتاب الذي كانت تقرأه، ليقرأ العنوان:
«غامض ولكنه مثير: سيكولوجية الإنسان»
“من أين استعرْتِ هذا الكتاب هذه المرة…؟”
كان إريك على وشك أن يطلق تعليقًا كالعادة ، حين قاطعه صوت مألوف تسلل إلى أذنيهما:
“إريك ، إليشا.”
التفت كلا الطفلين في وقت واحد نحو الرجل الذي كان يقترب منهما ..
“أبي!”
“يبدو أنكما تلعبان بانسجام.”
ابتسم بيرنهارت وهو يقف أمام الطفلين ، أما إليشا فحدّقت فيه للحظات قبل أن تقول بهدوء .
“لسنا بانسجام.”
“أوه؟”
“الأمير يكرهني.”
قالتها بنبرة باردة وكأنها تذكر حقيقة لا أكثر ..
ما إن خرجت كلماتها من فمها حتى اتسعت عينا إريك ، وفتح فمه في صدمة .
حتى لو كانت بلا تفكير، كيف يمكن أن تقول هذا الكلام أمام والده بلا تردد؟ هل تريد استفزازه عمدًا؟
لكن الحقيقة أن كلام إليشا لم يكن يحمل أي نية خفية ، بل كان مجرد تصريح لحقيقة كما هي .
“هكذا إذًا…؟”
ارتسمت على وجه بيرنهارت ابتسامة غامضة وهو يحدّق في كلٍّ من إريك وإليشا بالتناوب
أما إليشا فقد أملت رأسها قليلًا وهي تحدق في عينيه الزرقاوين الداكنتين .
لقد قرأت عن مثل هذه النظرات في كتابها: «غامض ولكنه مثير: سيكولوجية الإنسان».
هذه النظرة تعني أن…
“أود لو تصبحان صديقين حميمين.”
قالها بصوت هادئ لا يقل عن هدوء صوت إليشا ، بينما كان يضع يديه على كتفي كلٍّ منهما
ثم أضاف بابتسامة:
“وعندما تكبران ، ستتزوجان ، أليس كذلك؟”
في تلك اللحظة ، شحب لون وجه إيريك حتى صار كالأموات
ترجمة ، فتافيت
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"