1
1
**الفصل الأول: الرسالة**
[*لندن _من شهر ماي_1944*]
في صباح يوم وضاء ، توسط قرص الشمس كبد السماء المتناثر عليها الغيوم ، منذرة بإحتمالية تعكر الجو في أي لحظة
كانت الساعة الثامنة والنصف عندما دخلت مايا آن
في أواخر العشرينات، مكتب البريد المدني في وسط مدينة لندن ، كانت ترتدي فستانا أبيضا بحزام يلتف حول خصرها مع قبعة قماشية بيضاء تخطي شعرها البني الفاتح، متوسط الطول ،الذي يصل إلى كتفها و معطفها على ذراعها ، تمشت في المرر الرئيسي وصولا لمكتبها بخطوات رصينة إلى أن توقفت أمام قاعة ،يصدر منها صوت ضحكات متعالية ، فإبتسمت لوهلة ثم فتحت الباب على قاعة فسيحة ينسكب منها وهج الشمس من النوافذ العالية كأنها شلال منير.
وجدت مايا آن صديقتها،فايوليت حاملة زجاجة نبيذ و كأسا زجاجية أنيقة ،تسكب الشراب لزميلاتها و تقهقه بفرح حتى إلتفتت للوصول مايا ، فتقدمت صوبها بعينين خضراوتان لامعتان و فتحت ذراعيها لها وحضنتها بقوة تصرخ قائلة :
-” آهٍ، يا مايا كم أنا سعيدة اليوم ، سعيدة…سعيدة!”
فنظرت إليها مايا بتعجب قائلة بقهقهة خفيفة:
_”ماذا هناك ، تبدين أكثر إشراقا مما كنت عليه ؟”
_”إرتبطتُ ،يامايا …إرتبطت برجل أحلامي !”
صرخت فايوليت بسعادة غامرة وهي تحضن مايا وكأنها صبية صغيرة، ثم أرتها خاتم الخطوبة على إصبعها و هي تقفز سعيدة ، كانت فايوليت ترتدي معطف بلازير مخططا بالأبيض و الأسود و تنورة جلدية ضيقة ،مع ربطة عنق فَراشية ، شعرها كان كستنائيا قصيرا مُصففا ،بشفاه رفيعة حمراء .فردت عليها مايا قائلة بصوت متحمس :
_” مِن مَن؟ أخبرني بكل شيء!”
فإرتشفت رشفة من كأسها ، تستلذ طعمه ثم قالت بوضوح:
_” جاكسون! … أخبرتك عنه ، أنسيتي ؟! الرجل الذي إلتقيت به في المقهى ، عرض عليّ الزواج بالأمس! “
فإبتسمت مايا بدفئٍ سعيدة لأجلها قائلة:
_” يا إلهي …يا فاي…سعيدة لأجلك ” ، فجلستا معا
ثم أردفت مايا مضيفة مازحة :
_” أخبرني…كيف تعرفتِ به…هل هو وسيم؟”
فضحكت فايوليت بخفة ثم قالت :
_”هه، نعم!…في ذلك اليوم ، كنت في المقهى أحتسي قهوتي الساخنة و أقرأ كتابي الفرنسي المفضل ، و عندما هممت بالرحيل و خرجت من المقهى ، نادني رجل طويل حسن المظهر ، ببدلة عسكرية و بإبتسامة جذابة ،قال بصوت رجولي فخم:
_”يا آنسة …نسيتِ معطفكِ” ، فإستدرتُ إليه و إقترب مني ببطء و سلمني إياه …في تلك اللحظة ، لم أشعر بالوقت حولي و كأن شيئا شدنا للمكوث طويلا ،فشكرته…و أنا أتنهد بعمق و أتلمس شعري بخجل واضح …حتى دعاني لشرب قهوة معه … بطبع كنت قد فرغت من شرب قهوتي و لكن ما كنت لأفوت هذه الفرصة أبدأ…و كأنني أعيش لقاءًا سينيمائيا
و هكذا توالت اللقاءات فأصبحت أكثر عاطفية و حميمية مع كل لقاء ،حتى طلب يدي يوم أمس للزواج ، قال لي وهو راكع أمامي في الحديقة العمومية:” فايوليت… أعجبتُ بك منذ أول لقاء بيننا و مستعد لإمضاء حياتي كلها رفقة فتاة تعشق الموسيقى و حكايات الرومانسية و تنسى معطفاها
في كل مرة في المقاهي …أريد أن أكون الذي يحمله لك و يُذكركِ به …فهل تقبلي بالزواج بيِ”
في تلك الأثناء كانت هذه اللحظة و لا في الخيال لدرجة أنني شهقت و قفزت أَحضنهُ بشدة …و وعدني
بإتمام الزواج حين ينتهي من مهامه في القوات المسلحة “…
في تلك الأثناء تجمدت إبتسامة مايا و بدأت بتلاشي تدريجيا حتى أخفضت عينيها، تخفي قلقا باطنيا لتجنب لفت إنتباهها، ثم قالت بصوت مرتعش يخفي قلقا:
_” ضابط عسكري ؟! ، جيد … فرحتُ لأجلك حقا “
في تلك اللحظة ،لاحظت فايوليت ذلك من أول مرة ثم قالت متساءلة:
_” ماذا هناك؟ …هل حدث شيء ما؟”
فرفعت مايا رأسها تنظر إليها بإبتسامة هادئة زائفة :
_” لا، لا شيء يا فاي ، لا شيء مهم “
فأصرت فايوليت عليها إلا و تعرف لماذا تبددت إبتسامتها لحظة سماعها بمهنة خطيب فايوليت و قالت بنبرة مصرة تمسك بيدي مايا :
_” لا تنكري …أعرفك منذ سنين …ماذا هنالك ؟ ماذا الذي عكر مزاجك فجأة ؟”
فظلت مايا صامتة تحدق في فايوليت بعينين راغبتين بالبوح و التفريغ ثم قالت بنبرة هادئة:
_” لا شيء…فقط هل أنت متأكدة من إرتباطك بضابط عسكري ؟ “
فإتسعت عينا فايوليت ثم قالت بنبرة متعجبة :
_” لماذا ؟ هل هناك خطء في ذلك ؟”
فردت عليها مايا موضحة قصدها :
_” لا ، لا إطلاقا …فقط لا أريدك أن تُعاني مثلي”
فإنحنت فايوليت صوبها ثم قالت بصوت مرتعش:
_” ماذا هنالك؟…هل تشكين من خطب مع زوجكِ؟”
و بعد ثوان معدودة أنطلق لسان مايا بالحديث قائلة بنبرة يشوبها التذمر:
_”زوجي ؟!…يا فاي …زوجي إلتحق بالجبهة منذ ثلاث سنوات و لكن المشكلة ليست في إلتحاقه بالحرب بل بمدى تحوله…لقد تغيرَّ كثيرا ، و أصبح أكثر جفاءا و برودا من ذي قبل ، في المنزل عندما كنا معا كان بالكاد يخاطبني بعزيزتي و لا يعود إلا بعد منتصف الليل بسبب إنشغاله بعمله ،و الآن لا شيء على الإطلاق …لم أسمع عنه شيئا منذ مغادرته …هل سئم مني …أم هذا حال الرجال الذين يلتحقون بالمهن العسكرية و الضبطية، يصبحون أكثر جفاءا و أقل عطفا … عندما كان يرجع إلى المنزل كنت على أقل أشعر بنفسه فيه و الآن نحن في الحرب و قساوتها سلبت مني زوجي و كل شيء … أنـ ا…آسفة لم أقصد أن أفسد فرحتك . فقط خوف على أن تمري بنفس تجربتي.
في تلك اللحظة أمسكت فايوليت بيد مايا تنظر إليها بدفء قائلة :
_” أفهمك ، عزيزتي و لكن إسمعي مني هذه الكلمات
الحب لا يُعّرف بكلمة واحدة و لكل واحد منا أسلوبه في التعبير و أنت يا مايا كاتبة …إذا أكتبي له رسالة و شاهدي التغيير “
رفعت مايا بصرها بسرعة تنظر إليها بتعجب ثم قالت :
_” أكتبُ لماكس؟! و لكن ماكس ليس لديه وقت للكتابة ،فهو مشغول للغاية و تريدين أن أزيد عليه ؟
فنهضت فجأة وإقتربت من النافذة تحدق إلى سرب القوات الجوية البريطاني يلحق من أجل الحرية بنبرة متأملة قالت :
_” و أنا أيضا… خطيبي إلتحق بالجبهة لكن قلبه لا يزال حاضرا معي …إذاً إنها المشاعر و صدقها هو ما يهم “
ثم إستدارت تنظر إليها ، فنهضت مايا ببطء و كأن كلمات فايوليت حرّكتْ شيئا بداخلها فقالت بنبرة يائسة:
” _ أه، يا فاي …أخبرني ماذا أفعل بشأن هذا ؟”
فأخفضت فايوليت بعينين تفكر و عينيها تتحركان في الأرجاء ،حتى إقتربت من مكتب مايا ثم قالت بنبرة ثقة :
_” هل تكتبين للجنود في الجبهة؟!”
فنظرت مايا إلى الظروف ثم قالت :
_” نعم …عمل تطوعي من أجل رفع معنويات الجنود
في هذه الحرب اللعينة!”
فردت فايوليت بحماسة:
_” هذا هو !…أكتبي لزوجك رسالة …ليس مجرد رسالة عادية بل رسالة إشتياق، تُفقد،حب ، دعيه يشعر أنك تفكرين فيه و تحبينه حتى هو غائب وبعيد عنكِ ، وهكذا تنقذين زواجك من الإنهيار تماما”
فظلت مايا تفكر ثم إلتفتت إلى الظروف المصطفة على مكتبها و همست في نفسها :
_” هل ستغير رسالة بسيطة قلب ماكس المتحجر ؟”
ثم إستندت فايوليت على ظهرها و أجلستها على كرسيها أمام مكتبها و قالت :
_” أكتبي …يا مايا ، أبدئي بكلمات بسيطة تلامس الوجدان و سترين “
فأمسكت بورقة فارغة و بقلم ثم أغمضت عينيها تفكر في آخر لقاء بينها و بين ماكس قبل مغادرته إلى الجبهة حين قّبل يدها قائلا بنبرة هادئة و بإبتسامة طفيفة لم تراها على وجه ماكس منذ زمن طويل:
_” أريدك قوية…سأعود سالما بعد نهاية الحرب “
ثم إمتطى العربة العسكرية و غادرت بهدوء تخترق الضباب…
فتحت عينيها و كتبت بحزم صميم:
_”اشتقتُ إليك…
أفكر فيك دائمًا…
كيف هي أحوالك؟
زوجتك المخلصة،
مايا
ثم طوت الورقة و أدخلتها داخل الظرف مع عنوان مُرسل للجبهة، و إستدارت تنظر إلى فايوليت التي أومأت برأسها و صفقت لها ببطء ثم خرجتا معا و
وقفتا أمام صندوق بريد الحرب الموجه للجبهة و لكنها ترددت لوهلة قبل أن تدعه ينزلق داخل الصندوق هامسة :
_” تراه سيرد؟ …أم سيتجاهلوني كعادته ؟”
ثم إلتفتت إلى فايوليت لوهلة فابتسمت لها ووضعت يدها فوق يد مايا مشجعة لها بترك الرسالة تدخل الصندوق ، و هكذا أدخلت مايا الظرف في الصندوق.
لكنها لم تكن تعرف أن هذه الرسالة و تبعاتها ستُغيّر كل شيء .
لأن القدر كان يجهز لمايا آن مفاجأة أقل ما يقال عنها صادمة…
يتبع
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 1 - الرسالة منذ 22 ساعة
التعليقات لهذا الفصل " 1"