سرعان ما توقّفت أنيلا عن البحث عن أورغون وأعادت نظرها إليّ.
اصطبغت عيناها الصافيتان بلون الأرض بلون التراب بعد المطر.
تظاهرتُ بعدم ملاحظة نظرة أنيلا الخائبة الواضحة، وأشحتُ بنظري.
كان تعبير وجهها يثير الضمير حقًا، لكن لم يكن هناك شيءٌ يمكنني فعله.
حتى لو كنتُ أنا سبب كلّ ما حدث.
شخص يتظاهر بعدم المبالاة، وآخر يضحك بضحكةٍ لا تشبه الضحكة.
أفضّل أن أقرأ النصوص المقدٌسة في أذن إيشيد من هذا، سيكون ذلك أكثر متعة.
بينما كنتُ أتظاهر بعدم المبالاة، التفتُّ فرأيتُ إيشيد يتحدّث مع امرأةٍ ما.
في العادة، كان إيشيد سيتجاهلها أو يجيب بإجابةٍ قصيرةٍ جافةٍ ثم يغادر، لكنه اليوم كان يتحدّث بتركيز.
ظننتُ أنه قد يكون ثملًا، لكن ملامحه كانت كالمعتاد.
في النهاية، كان قلقي على إيشيد بلا داعي، لكن إن لم يكن ثملًا، فما سبب استمراره في الحديث مع تلك المرأة؟
عندما دوت أصوات الأبواق، بدأت موسيقى الفالس تملأ قاعة الحفل.
تجمّع الناس للرقص، ووجدت المرأة التي كانت تتحدّث مع إيشيد نفسها محاصرةً بين الحشود، فتمايلت.
“آه…”
لم أُصدر صوتًا لأن المرأة سقطت في حضن إيشيد، بل لأن إيشيد أمسك بذراعها لمنعها من السقوط.
فوجئت برؤيته، هو الذي ما لا يهتم لو سقط أحدٌ أمامه عادةً، يتصرّف بلطف.
‘هل هذا إيشيد حقًا؟’
كان المشهد غريبًا لدرجة أنني شككتُ في أنه قد تم استبداله بشخصٍ آخر.
ابتسمت المرأة بخجلٍ واعتذرت، بينما ترك إيشيد ذراعها بلا اكتراثٍ واتّجه نحوي.
لاحظتُ وجود بقعةٍ حمراء خفيفةٍ على صدر إيشيد. من الواضح أنها كانت أحمر شفاه تلك المرأة.
“….”
أدارت أنيلا، التي رأت البقعة أيضًا، عينيها بارتباك. بينما بدا إيشيد، الجاهل بما حدث، مبتهجًا بطريقةٍ غريبة.
بالطبع كنتُ أعرف أنه لم يتعمّد ذلك. كان حادثًا تافهًا حقًا …
لكن مع ذلك، لم أستطع منع نفسي من الشعور بالانزعاج.
كان الأكثر إزعاجًا أن رائحة النبيذ الحلوة كانت تفوح من إيشيد.
كان ذلك الجدار الحديدي الصلب يُهدَم بشيءٍ كالكحول.
“شاتيريان؟”
عندما ناداني إيشيد، اضطررتُ لرفع عيني بعيدًا عن بقعة أحمر الشفاه تلك.
نظرتُ إليه في صمت، فأرسل لي نظرة استفهام.
ثم فجأةً اقترب مني. كان سريعًا جدًا لدرجة أنني لم أتمكّن من تجنّبه.
توقّف على بُعد مسافةٍ ضئيلة، لدرجة أن شفتينا كادتا أن تلتقيا. شعرتُ بأن أنفاسي تتقطّع.
انجذبت عيناي إلى عينيه الفضيتين اللتين كانتا أمامي مباشرة.
دقّ قلبي بقوّة. كان الأمر كما لو كان لديّ قلبٌ ثانٍ داخل أذني.
“أوه يا إلهي…!”
سمعتُ أصوات النبلاء من حولنا مندهشين، لكنها بدت بعيدة.
” د-دوق…؟”
بدا صوت أنيلا، التي كانت بجانبي مباشرةً، مضطربةً وتنادي إيشيد، بعيدًا أيضًا.
“ما الخطب؟”
عندما تحرّكت شفتاه، شعرتُ بوخزٍ ناعمٍ من شعره الناعم.
لا أعرف لماذا أصبح إيشيد يقترب مني هكذا مؤخرًا، لكنني أعرف شيئًا واحدًا.
في أعين الآخرين، نحن الآن مثل زوجٍ من الصراصير نعبّر عن مشاعرنا في مكانٍ عام.
كان إيشيد يسمع كلّ الهمسات من حوله، لكنه لم يُبدِ أيّ رد فعل.
كان فقط ينتظر إجابتي بنظرةٍ ملحّة.
“شاتيريان.”
نطق اسمي بشفتيه اللامعتين باللون الأحمر. صوته العميق بدا حلوًا مثل النبيذ الذي شربه.
هل قلبي ينبض بسبب هذا الوجه؟ أم لأنني أحبّه؟
‘أم بسبب نظراته؟’
كان إيشيد ينظر إليّ بعينين دافئتين منذ فترة.
تتبّعتُ ببصري خطّ فكه الناعم تحت خديه الأملسين، ثم مددتُ يدي وحجبتُ عينيه.
ارتفعت حاجباه المتفاجئتين فوق ظهر يدي، بدا وكأنه يسألني عمّا أفعله.
كان وجهه الذي ظهر من فوق وتحت يدي جزءًا من إيشيد.
لذا، مجرّد حجب جزءٍ من وجهه لن يهدِّئ قلبي المضطرب.
على الرغم من أن وجه إيشيد يناسب ذوقي تمامًا وأنا معجبةٌ به، إلّا أن هذه المشاعر ليست كلها بسبب مظهره.
لم أكن أتوقّع أن أكتشف بهذه الطريقة أنني لستُ من أولئك الذين يهتمّون بالمظهر فقط.
“شاتيريان؟”
هذه المرّة، كان سؤاله مليئًا بالاستفهام. بين دقّات قلبي وصوته، كانت أذناي تعانيان من التعذيب اليوم.
“أ-أولاً … ابتعد.”
أنزلتُ يدي ببطءٍ وقلتُ.
“سنتحدّث لاحقًا.”
وجدتُ نفسي متكئةً على الحائط، لذا لم يكن لديّ مكانٌ لأتراجع إليه.
لكن إيشيد، بدلًا من الابتعاد، استمر في السؤال.
“ولماذا أفعل ذلك؟”
لماذا؟ هذا الرجل عديم الحياء …
كنتُ على وشك أن أسأله إذا كان لا يشعر بتلك النظرات والهمسات، لكنني توقّفت.
لا جدوى من الحديث مع شخصٍ يعرف كلّ هذا ويتجاهله عمدًا.
شعرتُ بالإحباط، فدفعتُ كتفه بقوّة. ولدهشتي، تراجع دون مقاومة.
‘لماذا تتصرّف بعنادٍ بينما ستتراجع هكذا …’
حدّقتُ به باستياء ثم لاحظتُ الإمبراطور ينظر إلينا بطرف عينه.
كان الإمبراطور يبتسم، وكأنه معجبٌ جدًا بإيشيد.
مع أنه طان يرفض إيشيد من قبل.
تحوّل موضوع الأحاديث في القاعة من القديسة إلى أنا وإيشيد.
مع أن هذا الحفل كان للاحتفال بتتويجها، فكيف أصبحنا نحن محوره؟
“سأغادر للحظة.”
“حسنًا…”
اعتذرتُ لأنيلا وسحبت إيشيد نحو الشرفة.
طوال الطريق، شعرتُ بنظرات الناس تخترق ظهري. فقط عندما أسدلتُ ستائر الشرفة توقّفت تلك النظرات.
***
بعد أن اختفت دوقة ودوق أستريا عن الأنظار، أطلق النبلاء تنهّداتٍ صغيرة.
بدا أن الفتيات الشابات تنفّسن الصعداء بعد اختفائهما، ثم تبادلن نظراتٍ كما لو كنّ متّفقاتٍ مسبقًا.
كانت وجوههن متورّدة قليلًا، وكانت عيونهن متلألئة.
في مجتمع النبلاء، كانت الزيجات المرتبطة بالمصالح شائعة. الزواج من شخصٍ لم تره من قبل لمصلحة العائلة كان أمرًا طبيعيًا.
لذا، فإن دوق أستريا وزوجته، اللذين تزوّجا حبًّا، كانا يثيران مشاعر النبلاء الذين تقبّلوا زيجاتهم كقدر.
“قلبي ينبض بشدّةٍ الآن.”
“وقلبي أيضًا.”
“ما زالا يناديان بعضهما بالأسماء الأولى، أليس كذلك؟”
“أليس هذا أكثر إثارة؟ خاصةً عندما ينادي الدوق زوجته … يبدو صوته …”
توقّفت إحداهن، مترددةً في وصف تصرّفات الدوق بهذه الجرأة.
لكنهن كن جميعًا متّفقات.
“بصراحة، عندما حجبت الدوقة عيني الدوق، ظننتُ أنهما سيقبّلان بعضهما!”
“وأنا أيضًا! كنتُ متوترة، لكن قلبي كان يخفق!”
“…كم هذا رائع.”
“حقًا…”
كيف يمكن أن يكونوا جميعًا متوافقين هكذا؟
لو سمعت شاتيريان هذا الحديث، لسقطت مغشيةً عليها من الصدمة.
وفي هذه القاعة العادية، أصبح سلوكهما سببًا لموجةٍ كبيرةٍ من ‘الزواج العاطفي’ في الإمبراطورية.
كان الوزراء غير راضين عن ارتفاع معدل الطلاق بين النبلاء، لكنهم اضطروا للصمت عندما تفاخر الإمبراطور بأن دوق أستريا وزوجته رفعا معدّلات الزواج.
كان الإمبراطور في مزاجٍ جيدٍ هذه الأيام. ابنة أخيه الأصغر، التي كانت دائمًا مصدر قلق، بدأت تستقر أخيرًا.
عندما تزوّجت ابنة أخيه، التي بدت وكأنها ستعيش وحيدةً طوال حياتها، ابتلّ وجه الإمبراطور بدموع الفرح.
والآن، وهو يرى مدى شغفهما لبعضهما … شعر وكأنه يمشي على السحاب.
لكن ابنه، ولي العهد أورغون فان نت، كان بمثابة رمادٍ في فرحه.
كإمبراطورٍ يعرف كلّ ما يحدث، كان قد سمع عن العلاقة غير العادية بين ابنه والقديسة المتدربة.
عندما زارت أنيلا القصر كجزءٍ من وفد المعبد، ظن الإمبراطور أنها قد تكون شريكةً مناسبةً لأورغون.
لكن الأمور تغيّرت. لم تعد أنيلا متدرّبة، بل أصبحت القديسة الحقيقية.
رغم أنه لا يستطيع منع علاقتهما، إلّا أن زواجهما كان مستحيلًا.
فولي العهد يجب أن يعيش في القصر، والقديسة في المعبد. هما ممثلان وحاميان لا يمكنهما الالتقاء بسهولة.
كإمبراطور، كان من الصواب معارضة هذه العلاقة. لذا، عندما رأى القديسة تنحني بأدبٍ في القاعة، شعر بمشاعر معقدة.
“أهنُّئكِ على تتويجكِ كقديسة.”
“شكرًا لجلالتك. لتحظى شمس الإمبراطورية ببركات الآلهة.”
على الرغم من أنها لاحظت نظرة الإمبراطور الغريبة، إلّا أنها ابتسمت ودعت له بالبركة.
عندما استدارت القديسة، جذب شعرها الأزرق الفاتح انتباهه.
كانت تتحدّث بلطفٍ مع النبلاء الذين يتوجّهون إليها. الجميع أحبّ شخصيتها المشرقة.
لا يزال الإمبراطور يشعر بالأسف. لو لم تصبح أنيلا القديسة، لكانت زوجةً مثاليةً لأورغون والإمبراطورة المستقبلية.
نظر إلى ولي العهد، الذي بدا عليه الاكتئاب، ثم تجاهله.
‘ما زال صغيرًا، سيتخطّى هذا.’
في الحقيقة، لم يكن الإمبراطور مهتمًّا كثيرًا بابنه.
ففي النهاية، كان الإمبراطور يهتّم دائمًا ببنات أخيه، اللتان كانتا مصدر إزعاج، أكثر من اهتمامه بأبنائه.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 75"