“لماذا كل هذا الضجة؟”
تمتمتُ بينما أعود للجلوس.
هل استشارات ماسيتيكي بهذا التميّز حقًا؟ شعرتُ بأنه بارعٌ في الكلام، لكن لم أشعر أنه مميّزٌ لهذه الدرجة.
“كيف أقول ذلك… يبدو أنه يفهم تمامًا موقف الشخص الذي يفرغ همومه قبل أن يقدّم الاستشارة؟ هناك شيءٌ لا يمكن إدراكه إلّا لمن يقدّم الاستشارة.”
حاولتُ تذكّر الحوار الذي دار بيني وبين ماسيتيكي قبل دخول غرفة الاستشارة، لكنه كان حديثًا عاديًا لا يعتبر استشارة، فلم يكن ذا فائدة.
“إذا كنتِ فضوليةً لهذه الدرجة، هل تريدين أن تجرّبي استشارةً يا رئيسة؟”
سأل ماسيتيكي وهو يقف عند الباب الفاصل بين غرفتي الاستشارة، ممسكًا بحاجز الباب.
“استشارة؟ حسنًا… ليس لدي ما يستحق الاستشارة.”
حتى المتجر الذي كنتُ قلقةً بشأنه يعمل بازدهار… همّي الوحيد هو أنني لم أحصل بعد على أيّ دليلٍ عن الساحر الأسود، لكن هذا ليس شيئًا يمكن استشارته.
“80% من استشاراتي تتعلّق بمشاكل العلاقات بين الرجال والنساء.”
ألقى ماسيتيكي بتلميحٍ كما لو كان يقدّم فكرة. نظرتُ إليه نظرة استفهام.
“أقصد… الزواج بشكل عام هو أن يعيش شخصان كانا منفصلين طوال حياتهما معًا، أليس كذلك؟ لكن مهما كان الحب كبيرًا، لا يمكن أن يكون كلّ شيءٍ مثاليًا. إذا كانت لديكِ مخاوفٌ حول هذه الجوانب، يمكنني تقديم الاستشارة.”
آه، هذه الجوانب؟
“حسنًا… يبدو أنه أكثر إسرافًا ممّا كنتُ أعتقد.”
“قائد الفرسان مسرف؟”
“نعم. يشتري لي ثيابًا ومجوهراتٍ لا أحتاجها. عندما أخبرتُه أن خزانة الملابس ممتلئة ولا يوجد مكانٌ لوضع المزيد، قال إنه سيبني خزانة ملابس إضافية.”
هزّ رأسه قائلاً إنه لن يفلس، لكنني كنتُ قلقة.
“أوه، وأيضًا يجعلني أنام مبكّرًا جدًا في الليل.”
“…ماذا؟”
سأل فيل وكأنه لم يصدّق ما سمعه، بنبرة تشكيك.
“أريد قراءة المزيد من الكتب، لكنه يلحّ عليّ باستمرار للذهاب إلى الفراش مبكّرًا. ما المشكلة لو ذهبتُ للفراش متأخرةً قليلًا؟!”
“آه…”
على أيّ حال، لم أقرأ بعد نصف الكتب التي أعطتني إياها السيدات من تأليف رون. جزءٌ من السبب هو أنني كنتُ أقرأها ببطء، لكن السبب الرئيسي هو عدم وجود وقتٍ للقراءة.
“على أيّ حال، رئيسة … فيما يخص موضوع الإسراف، نحن نعرف شخصيتكِ جيدًا ونفهم أنكِ تقولين ذلك بقلقٍ حقيقي، لكن من فضلكِ لا تقولي مثل هذه الأشياء أمام الآخرين. يبدو الأمر كتفاخر.”
كانت كلمات فيل تحمل معنى ‘هذا مزعج’.
نسيتُ أن التبذير يعتبر تفاخرًا بين النبلاء.
“وأيضًا، كما قلتُ من قبل، يجب أن تعدّلي أسلوبكِ في تقديم المعلومات المهمّة أولًا.”
أومأ فيل موافقًا على كلام ماسيتيكي. هززتُ كتفيّ لأنني لم أفهم ما يعنيه.
“ما المشكلة في أسلوبي؟”
“أنتِ دائمًا تتحدثين بطريقةٍ تجعل الآخرين يسيئون الفهم.”
“أيّ جزءٍ بالتحديد؟”
“الجزء الذي تقولين فيه إنك تريدين السهر لكنه يجعلكِ تذهبين للفراش مبكرًا.”
“وما المشكلة في ذلك؟”
“إنه بالتأكيد…”
لم يستطع ماسيتيكي إكمال كلامه. نظر إليّ وكأنه يسأل إن كان عليه أن يقولها بنفسه.
“معذرةً يا سيد، أنا فضوليةٌ فقط لمعرفة ما يدور في رأسكَ حتى تفهم الأمر بهذه الطريقة. ماذا تفكّر فيه عادةً في حياتكَ حتى …”
عندما نظرتُ إليه بنظرةٍ غريبة، رفع ماسيتيكي يده كعلامةٍ لوقف الحديث.
“على أيّ حال، هذا مفاجئٌ بعض الشيء. كنتُ أعتقد أنكِ وقائد الفرسان ستكونان من النوع الذي يتشاجر بعنفٍ في بداية الزواج بسبب عدم التوافق، وربما تندمين قليلًا الآن. هل لأنكِ من النبلاء؟ أم لأنكما تشاجرتم كثيرًا لدرجة أنكما تعرفان شخصية بعضكما بالفعل؟”
“هل يمكنكَ التوقف عن التحليل العشوائي؟”
“على أيّ حال، إذا واجهتكِ مشكلةٌ لاحقًا، يمكنكِ الحصول على استشارة. استشارة الرىيسة مُرحَّبٌ بها في أيّ وقت.”
هزّ رأسه ببراءةٍ وعاد إلى مكانه.
لكن سرعان ما أدركتُ سبب تدفّق العملاء إليه دون الحاجة لتجربة استشارته بنفسي.
أولًا وقبل كلّ شيء، وهو شيءٌ أساسيٌّ لكل مستشار، كان ينصت بصدقٍ لكلام العميل.
عندما اعترف أحد الموظفين بخجلٍ بأنه وجد تفاهمًا مع شخصٍ يحبّه، احمرّ وجه ماسيتيكي كما لو كان هو مَن تلقّى الاعتراف، وبدا متحمّسًا بصدق.
لقد أُعجِبتُ حقًا بقدرته على التعاطف…
“لابد أن يكون هذا مؤلمًا جدًا…”
سمعتُ صوت نحيب. نظرتُ أنا وفيل إلى غرفة الاستشارة بحيرة، لكن الستارة كانت مغلقة فلا يمكننا رؤية شيء.
بعد فترة، خرج ماسيتيكي بعد انتهاء الجلسة، وكانت عيناه محمرّتين ومنتفختين. نظرتُ إلى وجهه بدهشة.
“هل بكيتَ حقًا؟”
بدا ماسيتيكي محرجًا، فغطّى وجهه وأخذ الأوراق الخاصة بالعميل التالي من فيل، ثم عاد إلى مكانه.
كان ذلك حدثًا صادمًا جدًا. يمكن للمرء أن يتعاطف مع مشاعر العميل، لكن من الصعب جدًا أن يبكي بصدقٍ بهذه الطريقة.
لكن بعدما تكرّر هذا الأمر عدّة مرّات، أصبح يبدو أن ماسيتيكي لن يكون ماسيتيكي إذا لم تدمع عيناه حتى في أصغر المواقف.
مثل الآن تمامًا.
“فقدتُ عائلتي كلّها في حادث عربة … ومنذ ذلك الحين، أنا … ”
عندما سمعتُ هذه القصة، فكّرتُ “يبدو أننا في حفلة دموعٍ أخرى اليوم”، بينما كنتُ أشرب الشاي وألقي نظرةً خاطفةً نحو الأريكة.
من خلال الفجوة في الحاجز بجانب الأريكة، رأيتُ وجه ماسيتيكي. لكن على عكس ما توقعت، كان تعبيره باردًا جدًا وهو ينظر إلى العميل المقابل له.
ثم، كما لو كان ذلك مجرّد وهمٍ مني، انزلقت دمعةٌ على خده.
في لمح البصر، اختفى التعبير البارد، ولم يبقَ سوى مستشارٍ يتشارك الحزن مع عميله.
في تلك اللحظة، لم أكن متأكدة إذا ما كنتُ قد رأيتُ ذلك حقًا.
ربما كان تعبيره قد تجمّد للحظةٍ بسبب الصدمة من كلام العميل عن فقدان عائلته بأكملها في حادث.
مهما كان السبب، في ذلك اليوم أيضًا، كما هو معتاد، أقيمت حفلة دموعٍ في غرفة الاستشارة.
***
كان ذلك بعد ظهر حيث تجمّعت الغيوم البيضاء في السماء الزرقاء.
استراحةٌ قصيرةٌ للاستمتاع بها بعد الغداء. توجّهتُ إلى الحديقة لأستمتع بضوء الشمس.
بينما كنتُ جالسةً على الكرسي تحت أشعة الشمس، شعرتُ بالاسترخاء لدرجة أنني لم أرغب حتى في تحريك إصبعي، بينما كان ماسيتيكي يستمع إلى هموم شخصٍ ما.
“لا أعرف كيف أعبّر عن مشاعري. أهتمّ به بأشياء مختلفة، لكني لا أعرف إذا كان هذا صحيحًا …”
بالرغم من أنه كان قد تم القبض عليه للحديث بمجرّد خروجه بعد الغداء، إلّا أنه تعامل مع للأمر بجديةٍ بالغة، رغم أنها لم تكن استشارةً مجدولة.
“إذا كنتَ تقدّم الاهتمام بهذه الصورة المباشرة، قد يشعر الطرف الآخر بالضغط. ماذا لو اهتممتَ به بشكلٍ غير ملحوظ؟ تذكّر أن الكلمات الصغيرة أيضًا قد تكون فعّالة.”
“لكن إذا كانت صغيرةً جدًا، لن تلاحظها، أليس كذلك؟”
طمأنه ماسيتيكي بأن ذلك لا يستدعي القلق، وربّت على كتفه.
بعد انتهاء تلك الاستشارة، وحصولي على قسطٍ من الراحة، كنتُ في طريقي للعودة إلى المكتب عندما التقيتُ بأطفالٍ يجلسون القرفصاء تحت شجرةٍ ضخمةٍ مصنّفةٍ ككنزٍ وطني، ينظرون إلى شيءٍ ما.
من ملابسهم، بدا أنهم من عامة الشعب يعملون في الأعمال اليدوية بالقصر الإمبراطوري.
في إمبراطورية كنتري، يبدأ الأطفال العمل عادةً من سن التاسعة. يبدو أن هؤلاء الأطفال موظفون جدد.
في عمرٍ كان من المفترض أن يلعبوا فيه، فهم مضطرون للعمل … لا يزال أمام قسم الرعاية طريقٌ طويل.
“سـ سير ..!”
جَذَب طرف لملابسي بصوتٍ مُلِح. أشار الطفل بأصابعه إلى أسفل الشجرة الضخمة.
“سقط العصفور ….”
في الاتجاه الذي أشار إليه، كان هناك فرخ عصفورٍ لا يستطيع حتى فتح عينيه، يزحف على الأرض. من العش على الفرع غير المرتفع جدًا، سمعتُ أصوات فراخٍ أخرى.
ربّتُّ على رأس الطفل الذي أمسك بملابسي، ثم بحثتُ حولي عن شيءٍ لأصعد عليه.
لكن أول ما لفت نظري كان فيل، الذي لا يختلف طوله كثيرًا عني.
“لماذا … لماذا تنظرين إليّ هكذا؟”
أصبح وجه فيل قلقًا تحت نظراتي الضيقة. وضعتُ يدي على كتفه وأومأت.
“احملني على كتفيك. أعتقد أن يدي ستصل.”
“ظهري ضعيف، لا يمكنني فعل ذلك.”
“لديكَ بالفعل طفلان، هل تحتاج إلى سببٍ أكثر للاستخدام؟”
“زوجتي تريد حتى الرابع.”
“…علاقتكما جيدة جدًا، أليس كذلك؟”
“تعرفين ذلك.”
شخر فيل ساخرًا كما لو أن هذا لم يعد مضحكًا.
في الماضي، كان سيقفز من المكان ويُحدث ضجة… هل هذا لأنه كبر، أم لأنه اعتاد عليّ؟
“إذًا، ماذا لو صعدتَ أنتَ فوقي؟”
“رئيسة، هل تحملين ضغينةً ضدّي؟”
لماذا تحاولين قتل أحدهم؟
إذًا لم يبق سوى ماسيتيكي. بعد أن خاب أملي، نظرتُ إليه.
رغم أن ماسيتيكي أطول مني، إلّا أنه بدا قصيرًا جدًا مقارنةً بالوصول إلى العش.
“دعني أستعير كتفيك.”
نظر إلى الشجرة، ثم إلى عيون الأطفال المتلألئة، فانحنى دون تردّد.
وضعتُ فرخ العصفور على كفي وصعدتُ فوقه، فارتفعتُ رؤيتي فجأة. عندها شعرتُ بالذعر.
“انتظر! لا تتحرّك!”
عندما أزلتُ يدي من رأسه الذي كنتُ أتمسّك به كدعامة، اهتزّ جسمي فصرختُ بقلق.
“لم أتحرّك.”
“كدت… كدتُ أنتهي، انتظر قليلًا …”
مددتُ ذراعي ووضعتُ فرخ العصفور بحذرٍ في العش على الشجرة. راقبتُه بدهشةٍ وهو يصيح ويبدأ بالقفز بقوٍّة بين إخوته.
“انتهيتِ؟”
“ماذا؟ انتظر!”
تمايل جسدي عندما تحرّك ماسيتيكي، الذي كان يحملني على ظهره، فجأة.
‘انتظر! انتظر!’
في تلك اللحظة الحاسمة، وجدتُ نفسي أمام خيارين. الشجرة الضخمة أمامي، أو الرأس الأحمر بين ساقي. لكن الخيار كان واضحًا.
الشجرة الضخمة أمامي كنزٌ وطني. أي أن إتلافها جريمةٌ ضد التراث
الوطني.
بالطبع، يمكنني التغاضي عن جريمةٍ ضد التراث الوطني…
لكن لا داعي لتعريض نفسي للمُساءلة.
لم يكن أمامي خيارٌ سوى الإمساك بالشعر الأحمر بقوّة.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 65"