“ولكن ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟”
أخذ نفساً عميقاً ثم طرح السؤال بصعوبة. كانت ملامحه التي استعادت هدوئها أكثر نضجاً مما تتذكّر. والأهم من ذلك، كانت مشبعةً بالعدائية.
‘صحيح. لقد كان يكرهني.’
“لا داعي لأن تنظر إليّ بتلك النظرة الكارهة.”
“مـ متى نظرتُ إليكِ بهذه النظرة؟”
أصيب نيلاشون بالذعر عندما وضعتُ الإصبع على الجرح. ربما كانت تعرف كيف تستفزّ شخصاً عندما تراه في حيرة.
“أنتَ مدينٌ لي بالامتنان. لو لم أمنع جلالته، لكنتَ تزوّجتَني الآن.”
“…مـ ماذا؟”
“ماذا؟! ما هذا الكلام؟”
ظهر فجأةً الابن الثاني الذي كان قد أُخرِج محمولاً على أتباع نيلاشون. قفز مرتعباً وأمسك بقميص نيلاشون بعنف.
“أنت…! لماذا لم تخبرني؟”
“أنا أيضاً أسمع هذا لأوّل مرّة…!”
“كيف تجرؤ!”
ثم بدأ الاثنان بالعراك فجأة.
‘لماذا يفعلان ذلك…’
“اجلس… كانت مجرّد مزحة.”
ساد صمتٌ محرجٌ بعد كلمة ‘مزحة’. كان من الأفضل إنهاء الأمر الذي أتيتُ من أجله والرحيل.
“آه، سمعتُ أن شركة آرتوريتو تنتج أعمالاً دقيقةً جداً، لذا جئتُ إلى هنا. إليكَ طلبي.”
وضعتُ ورقةً مرسوماً عليها تصميم. كان لوحاً خشبياً ومطرقةً لعمل كعك الأرز.
“ما … هذا؟”
“يجب أن يكون ارتفاعه حتى ركبة الشخص، كبير الحجم ومتيناً قدر الإمكان.”
“هل تخططين لإلقاء أحدهم هنا وضربه؟”
نظرتُ إلى الرسمة. لوحٌ حجريٌّ عريضٌ مع عصاتين طويلتين تشبهان المطرقة. لو رآها شخصٌ غريبٌ لأساء فهمه بالتأكيد.
“سأضرب مَن؟ شيءٌ أبيضٌ وناعم، بلا رحمة.”
ابتسمتُ بحماس، وأنا أتطلع إلى ذلك اليوم. بدأ تعبير وجه نيلاشون يتغيّر سريعاً إلى الأسوأ.
‘من الممتع استفزاز هذا الشاب. أما الآخر…’
تظاهرتُ بعدم الملاحظة. كان هناك شعورٌ غريب.
حاولتُ أن أشيح نظري عن الابن الثاني الذي بدا مشتت الذهن.
“وسمعتُ أن إقطاعية الماركيز تزرع الأرز المستورد من الشرق، هل يمكن شراؤه من شركتكم؟”
“نعم.”
“أودّ رؤية ذلك الأرز.”
بعد استدعاء رئيس الشركة، وُضِع الأرز المزروع في الإقطاعية أمامنا.
“أرز القارة الشرقية يختلف عن أرز الإمبراطورية، فهو قصيرٌ ولزجٌ عند طبخه.”
“الجودة ممتازة.”
“نعم. ولكن كما تعلمين، الأرز ليس محبوباً لدى شعب الإمبراطورية …”
“ما سعره؟”
“40 قطعة نقدية للكيس.”
“أغلى مما توقعت.”
“نعم. زراعة الأرز تتطلّب عَمَالةً أكثر مما تتخيّلين.”
عَمَالةٌ كثيرة، وطلبٌ قليل، ومخزونٌ متراكم.
ابتسمتُ أمام وجه نيلاشون القلق.
“أريد شراء حقوق الاحتكار لهذا الأرز.”
“ماذا؟ حقوق احتكار الأرز؟”
بدا نيلاشون مندهشاً أن الأمر يتعلق بالأرز وليس القمح. علت وجهه علامات استفهامٍ كبيرة.
“لماذا؟”
في الإمبراطورية، لم تكن هناك قوانينٌ تحمي احتكار الوصفات. لم تكن حقوق الملكية الفكرية موجودةٌ بعد. لذا لم يبقَ سوى احتكار المكوّنات المشتراة بالمال.
لحسن الحظ، كانت إقطاعية آرتوريتو هي الوحيدة القادرة على زراعة الأرز في الإمبراطورية، مما جعل الأمر سهلاً جداً.
“هل تقصدين الأرز حقاً؟”
ألححتُ عليه وهو ينظر إليّ بشك.
“إذاً، ألا تريد بيع الأرز الآن؟”
“لا، ليس ذلك!”
أحضر نيلاشون على عجلٍ عقد الاحتكار.
بعد تقييم المخزون الحالي وإنتاج الأرز، وقّعنا العقد مع تحديد الكميات الدورية للتوريد.
‘الآن حقوق احتكار الأرز أصبحت مِلكي. حان الوقت للكشف عن خطتي؟’
“هل تريد تجربة هذا؟”
أخرجتُ ورقتي الرابحة بابتسامة واثقةٍ. وضعتُ سلةً كنتُ أحملها بحرصٍ على الطاولة.
بمساعدة الموظفين، وُضعتُ الحلوى على الطاولة.
أشكالٌ دائريّةٌ ومربّعةٌ وهلالية، بألوانٍ متعددة.
ولم يكن ذلك فقط. أثرت رائحتها اللذيذة التي شمّها الحاضرون شهيّتهم.
ارتبك الرجلان أمام الحلوى غير المألوفة.
“ما هذا؟”
“منتجات المتجر الذي أخطّط لافتتاحه. أبحثُ عن مستثمرين. يمكنكما تذوّقها.”
ما أحضرتُه كان جزءاً بسيطاً. كان جيف منهمكاً في صنع الباقي الآن.
وكما توقّعت. لم يخيّب رد فعلهم عند تذوق كعك الأرز الظن. اتسعت عيون الرجلين من الدهشة.
خاصةً قطع إنجولمي المطاطية التي تشبه جبن الموزاريلا.
“كيف تكون مطاطيةً هكذا وهي لا طعم للجبن فيها؟”
“هذه أسرارٌ تجارية.”
“أيمكنني تناول قطعةٍ أخرى؟”
“آه، أعتذر، كان هذه كلّ ما أحضرتُه معي.”
بدا عليهما خيبة أملٍ واضحة. سرعان ما ظهر قاع السلة فارغًا.
نفضوا بقايا الطعام على شفاههم وشربوا الشاي.
“لا تخبريني، هل هذا… مصنوعٌ من الأرز؟”
كانت ابتسامتي كافيةً كإجابة.
“لهذا عقدتِ الاحتكار أولاً …”
بعد إدراك الأمر، همس الابن الثاني بكلماتٍ مُحبَطة.
“سأستثمر دون تردد.”
“أخي … يجب أن تكون أكثر حذراً في الاستثمار …”
“لا تشارك إذا لم ترغب.”
“سأفعل.”
بلهجةٍ لا تترك مجالاً للتراجع، غيّر نيلاشون موقفه كمَن يقلب كفّه.
“يمكنكَما توقع استرداد استثماركما. بل عشرين ضعفاً.”
قُلتُ لهما بثقة. لأن ‘كعك الأرز’ كان طعاماً جديداً لم تعرفه الإمبراطورية من قبل.
“كما أنني أبحث عن وكيلٍ يتولّى أموري نيابةً عني. هل لديكم شخصٌ في الشركة يمكنه إدارة الأمور المالية والعمل؟”
“وكيلٌ للأميرة؟”
تغيّرت تعابير نيلاشون. كانت أفكاره واضحةً على وجهه، مما يجعلني أشكّ في مهاراته التجارية.
“لا تكن هكذا. هل تخشى أن أؤذي موظفيك؟ لا تقلق، لن أفعل ذلك.”
“سجلّ الأميرة الحافل بالفعل يثير القلق.”
“سأفعل ذلك!”
“نيلاشون، أنا مَن اقترح إنشاء وزارة الرعاية للعامة مؤخراً.”
“كان ذلك مفاجِئاً … لكن الشخصية لا يمكن أن تتغيّر بهذه السهولة.”
“أستطيع القيام بذلك!”
“هذا صحيح. لكنني تغيّرت.”
“لا أصدق هذا…”
“أنا…!”
نظرتُ بإزعاجٍ إلى الابن الثاني الذي قاطع الحديث مراراً.
“إجمالي المبيعات 4050 قطعةً ذهبيةً ناقص إجماليّ التكاليف 1060 قطعةٍ ذهبيةٍ و15 فضة، كم ستكون نسبة الـ 30%؟”
“896 قطعةٍ ذهبيةٍ و15 فضةٍ و25 سنتاً.”
جاءت الإجابة دون تردّد. وكانت صحيحة.
‘ما هذا؟ ألم يكن مريضاً؟’
نظرتُ إليه بدهشة. كانت عيناه المتلألئتان مزعجتين، لكن سرعته في الحساب كانت مثيرةً للإعجاب.
“هل أنتَ أخ مدير الشركة؟ ما اسمك؟”
“سِيد!”
“سِيد؟ هل يمكنكَ إنجاز المهمة؟”
“نعم!”
“حسناً، سأعطيكَ فرصة.”
لا يهمّني ما دام يؤدّي العمل جيداً. خاصةً إذا كان سريعاً في الحساب. لا شيء أدقّ من الأرقام.
***
“هل ستُعدّين بهذه الطريقة كميةً صغيرةً لتجلبينها؟”
لم يستطع جيف إخفاء صدمته وهو يقرأ الوصفة لأوّل مرّة.
أن تضرب دقيق الأرز بهذه المضارب … ثم أن تحرق الأرز عمداً بعد طبخه؟ هذا جنون.
لكن جيف كان قد وقّع العقد بالفعل، فلم يعد بوسعه إلّا صُنع الحلوى كما وصفتها الأميرة.
قام بدقّ الأرز اللزج حتى بدأ يشعر بالألم في عضلات ذراعيه. ثم بدأ العجين يتمدّد بشكلٍ مطاطي!
عندما غطّاه بمسحوق الفول الذي أعدّه مسبقاً… يا إلهي!
لم يذق طعماً هكذا من قبل. ناعم، لزج، ولذيذ.
وما صنعه بعد ذلك كان أكثر إدهاشاً.
نقع الأرز كما أوضحت الأميرة ثم طحنه وطهاه على البخار، فتحوّل من قاسٍ إلى طريٍّ بطعمٍ أصيل.
وحتى ذلك الجزء المحروق الذي كان قد انتقده –
“نورونجي”!
بني اللون، مقرمشٌ ولذيذٌ حتى دون إضافات.
عندما قلاه بقليلٍ من الزيت، تحوٌل إلى أبيض ناصع، وعندما غمسه في السكر كان ألذ.
أضافت الأميرة بهدوء.
“اغليه بالماء في صباح اليوم التالي للحلاوة.”
جرّب جيف ذلك على الفور. ثم …
“آه…”
شعر بانتعاشٍ يغسل التعب من جسده. ماء النورونجي كان ساخناً لكنه شعَر ببرودةٍ داخليةٍ غريبة.
كما أن النورونجي تحوّل مجدداً إلى أرزٍّ مطبوخٍ فشعَر بالشبع.
أرز الإقطاعية كان مختلفاً تماماً عن أرز الإمبراطورية الذي يصبح قاسياً عند الاحتراق.
“الأميرة عبقريّةٌ حقاً.”
كيف تجرَّأ على الشك فيها؟
أخذ جيف وقتاً للتأمل.
عاهد نفسه على عدم الشك في الأميرة شاتيريان مجدداً. وتعهّد بالولاء الكامل.
من دون أن يعرف أنها تندم بشدّةٍ على كلّ هذا.
عبقرية وصفات الأرز، الأميرة شاتيريان، كانت تمزّق شعرها.
‘أين إجازتي؟ أين وقت نقاهتي؟’
“رئيسة، هذه أيضاً.”
“…”
كانت الأوراق غير المنجزة متراكمةً كالجبل، ثم أضيفت المزيد.
لقد غرقت في مستنقع العمل.
‘أريد العودة!’
إلى ذلك الوقت حين كنتُ في نقاهتي!
لكن الصراخ لا يجدي نفعًا. لقد وقع الأمر بالفعل.
استلقت شاتيريان منهكة. غارقةً في العمل كطحلبٍ يطفو على الماء.
منذ متى وهي على هذه الحال؟
دخل إيشيد غرفة الاستشارة بعد الطرق.
“شاتيريان، حان وقت الخروج.”
أوه، هل مر كلّ هذا الوقت؟ نظرت إلى الساعة ثم نهضت مرغمة.
أصبح الخروج من العمل مع إيشيد أمراً معتاداً الآن.
كانت ساقاها مرتخيتين فسارت بخطواتٍ متثاقلة. أمسك إيشيد بكتفيها النحيلتين وهمس بلطف.
“ستسقطين.”
“شكراً…”
إن حدث هذا في الماضي، كانت شاتيريان ستصرخ غاضبةً ‘لماذا تفعل هذا؟’
لكن ال
آن، لقد اعتادت على لطفه.
في الحقيقة، لم تكن تملك الطاقة حتى للغضب.
والأهم، أن الاتكاء عليه أثناء المشي كان مريحاً جداً.
‘ألا يمكنه أن يحملني ببساطة؟’
كنتُ لأشعَر وكأنني ركب عربةً مريحة.
فكرت شاتيريان وهي في ساعاتها الأخيرة بتفكيرٍ مُرهَق.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 44"