كلّما تحرّكت اليد الصغيرة باجتهاد، رفرفت الريشة الموجودة فوق رأس القلم.
نظرتُ نظرةً خاطفةً إلى الرأس الصغير المنهمك في قراءة الكتاب وكتابة الحروف، ثم سحبتُ الورقة بخفّة.
ظهر خطٌّ مزعجٌ مرسومٌ فوق الحروف المكتوبة بدقّة.
“……”
نظر إليّ مارون للحظةٍ ورمش بعينيه قبل أن يعود إلى الكتاب ويكتب الحروف في الفراغات الفارغة.
كانت هذه مزحةً كرّرتُها عدّة مرّات، لكنه لم يطلب مني التوقّف أو يعبّر عن انزعاجه.
‘الطفل ناضجٌ جدًا بالنسبة لعمره.’
منذ زيارتي لقصر سيفجي والدوق، أصبح هذا الطفل يزور القصر بين الحين والآخر، وكان ناضجًا بشكلٍ غير معتادٍ بالنسبة لأقرانه.
ولهذا كنتُ أتعمّد مضايقته، لكنني لم أشاهده قط وهو يغضب.
مللت، فنهضتُ لتحديد هدفي التالي.
توجّهت نحو كارون الذي كان ينظّف الأرض بمنشفة، رغم تحذيرات الجميع له بأن يتوقّف، مدّعيًا أنه يستمتع بالتنظيف.
وقف الصبي على عتبة النافذة العريضة يمسح الزجاج بمنشفةٍ جافة.
تأمّلتُ صوت الصرير الذي يصدره الزجاج، ثم وضعتُ إصبعي فجأةً على الجزء النظيف بعد مرور المنشفة.
ظهرت بقعةٌ مستديرةٌ بيضاء على الزجاج الذي نظّفه للتوّ.
ألقى كارون نظرةً عليه ثم مد يده ليمسح البقعة.
ثم تركتُ علامتي مرّةً أخرى، ومسحها مرّةً أخرى.
فعلتُ ذلك مجددًا، ويمسحه كارون مجددًا.
“آنستي! توقّفي عن مضايقة الأطفال! إذا كنتِ تشعرين بالملل، فاذهبي وساعدي الدوق في عمله بدلًا من مضايقة الأطفال الأبرياء!”
في النهاية، وبينما كنتُ منهمكةً في ذلك، مرّت كيرين من الممرّ ووبّختني.
زممتُ شفتي.
في الواقع، كان من المفترض أن يكون هذا وقت تدريب المبارزة. لكن إيشيد قد تعافى، وغادر القصر منذ أيامٍ للعودة إلى عمله.
لقد جرّبتُ قراءة الكتب، والتدرّب على المبارزة بمفردي، وحتى مساعدة الأطفال في دراستهم، لكن لم أجد أيّ متعةٍ في ذلك.
الشيء الوحيد الذي ازداد منذ غياب إيشيد عن القصر هو كمية الحلويات الغريبة التي تظهر فجأة.
‘هل يشترونها لإطعام الأطفال؟’
لا بد أن هذا هو السبب.
على أيّ حال، كان من الجيد أن الأطفال يستمتعون بها.
أما الحلويات التي كانت غير قابلةٍ للاستهلاك، فقد انتهى بها المطاف مع فيل أو روث، أو أصبحت من نصيب الأطفال.
هاه. سأل كارون وهو يقطع قطعة كعكةٍ بشوكةٍ ويضعها في فمه.
“لكن، سموّكِ.”
“نعم؟”
“هل أنتِ عاطلةٌ عن العمل؟”
“…ماذا؟ مَن قال لكَ ذلك؟”
“العم فيل! قال إن الشخص الذي يتسكّع في المنزل كلّ يومٍ دون عمل هو عاطل.”
“أوه، لا. الأميرة في إجازة بسبب المرض.”
‘يا له من كذب صريح.’
مسحتُ الكريمة العالقة بفم كارون بينما استفسرتُ بفضول.
“وماذا قال العم فيل أيضًا؟”
“قال إننا نحن الأطفال نساعد في التنظيف، لكن الأميرة لا تفعل ذلك، وأمرنا ألّا نقتدي بها ونتعلّم منها أشياء كهذه.”
‘فيل، فيل …!’
هذا الخائن يتحدّث عني وراء ظهري.
تخيّلتُ وجه فيل وهو يخرج لسانه بسخرية، وكأنه يطفو في السماء.
يبدو أنه أراد الانتقام لأن إجازتي طالت.
شعرتُ بالظلم.
صحيحٌ أنني كنتُ أقضي وقتي دون عمل (رآني فيل عدّة مرّات)، وكنتُ أعاني من هوسٍ بـرون (رون: مؤلف رواية «الأميرة رائعةٌ جدًا»، ورآني فيل أتظاهر بالمرض عدّة مرّات).
لكن أن أكون متطفلة؟! أن أكون عديمة الفائدة مقارنة بالأطفال؟! (لم يقل ذلك بالضبط.)
“يا رفاق، استمتعوا باللعب بقدر ما تستطيعون بينما أنتم قادرون على ذلك.”
ربتُّ على رؤوسهم وقلتُ إنه ليس عليهم الدراسة أو التنظيف الآن، لأنهم عندما يكبرون، سيتعيّن عليهم القيام بذلك حتى لو لم يرغبوا.
نظرتُ إلى خدود الأطفال الممتلئة بسبب الأكل الجيد هذه الأيام، لكن عيناي أصبحتا ضبابيتين فجأة.
‘نعم، كنتُ أعرف الحقيقة. عليّ العودة إلى العمل الآن.’
لكنني ببساطةٍ لم أرغب في العودة … ولهذا كنتُ أتجاهل الأمر.
رفعتُ نظري إلى السماء حيث كانت الشمس تغرب.
إجازتي الحلوة كانت تشارف على الانتهاء.
* * *
“إذا أردتَ اصطياد نمر، ادخُل إلى عرينه.”
أمسك جيف بطلب المشاركة في مسابقة الحلويات التي تقام كلّ خمس سنوات.
كانت المنافسة شرسة، حيث بلغت نسبة المنافسة 1000:1.
سترتفع المكانة الإجتماعية للفائز بالمسابقة، بالإضافة إلى أنه سيحصل على لقب بارون. وليس هذا فقط، بل سيصبح الحلواني الخاص بالقصر الإمبراطوري.
بالطبع، كان هدف جيف هو أن يصبح حلواني القصر الإمبراطوري، وليس تحسين مكانته الاجتماعية. كل ذلك ليصنع الحلويات للأميرة شاتيريان.
من أجل هذا اليوم، كرّس كلّ وقته لدراسة الوصفات، حتى أنه لم ينم.
أصبحت مكتبة المعبد، التي لم يزرها في حياته، مكانًا يتكرّر وجوده فيه، كما أصبح العيش في المطبخ أمرًا معتادًا.
وهكذا، أكمل الوصفة النهائية التي لو أكلتها الأميرة شاتيريان مرّتين، لماتت مرّتين من الفرحة!
“هاهاها!”
انفجر الرجل ذو العيون المنتفخة والشارب الأسود ضاحكًا في وسط الحشد. بدت مكونات الطعام الملونة تبرز من حقيبة القماش المعلّقة على كتفه.
كان هناك دائمًا مثل هؤلاء الأشخاص. أولئك الذين يفقدون عقولهم في التحضير للمسابقة التي تقام كلّ خمس سنوات.
“منافسٌ واحدٌ أقل.”
أسرع العباقرة والموهوبون من جميع أنحاء الإمبراطورية، بينما كانوا يقظين تجاه من حولهم. كانوا يفحصون الجميع بحدّة، لكن … لسببٍ ما، كانت أكتافهم تهتز.
احم. بعد أن سعل جيف جافًا، استجمع نفسه واستأنف سيره.
لكن جيف قد غفل عن شيءٍ واحد.
هدف حلواني القصر الإمبراطوري هو تحضير الحلويات للحفلات والضيوف المهمين، أو حتى الشخصيات الدولية.
بمعنًى آخر، يجب أن تكون الحلويات التي تُقدَّم في القصر الإمبراطوري لذيذةً وفاخرةً وحلوة، ومناسبةً للجميع دون استثناء.
أي أن الوصفة التي صممها لتتناسب مع ذوق شاتيريان، التي تكره الحلويات، لم تكن مناسبةً لقسم الحلويات في القصر الإمبراطوري.
علاوةً على ذلك، كان موضوع مسابقة الحلويات لهذا اليوم هو ‘صنع كعكةٍ فاخرةٍ باستخدام خمسة أنواعٍ من الكريمة’.
لم يفكّر جيف حتى في صنع كعكةٍ عادية، ناهيك عن استخدام الكريمة، فقد نسي هذا الأمر تمامًا في غمرة فرحه باختراع وصفةٍ جديدة.
في هذه الأثناء، بدا تعبير شاتيريان في العربة التي تمرّ عبر الحشد خاليًا من الطاقة.
“أكره أيام العمل … أكره الذهاب إلى العمل … أكره الناس …”
كانت تتذمّر من ازدحام الشوارع اليوم، عندما توقّفت العربة فجأة.
“سموّ الأميرة، تم منع دخول العربات إلى القصر الإمبراطوري اليوم بسبب مسابقة الحلويات التي يستضيفها القصر.”
“حقًا؟ لا بد من المشي إذن.”
‘لقد خرجتُ في الوقت المحدّد، لكن أمر الإمبراطور اعترض طريقي.’
أكّدت شاتيريان لنفسها أن تأخّرها قانوني، ثم شرعت في المشي ببطءٍ عبر الشوارع.
كان تأثير مسابقة الحلويات كبيرًا. حفّزت رائحة الحلويات اللذيذة والشهيّة سيلان لعابها على طوال الطريق.
تجمّع الرجال والنساء والأطفال عند بوابة القصر يثرثرون بضجيج. مرّت عبر الساحة المفعمة بالحيوية، وهو مشهدٌ نادرٌ خارج مواسم المهرجانات.
‘ربما أطلب لاحقًا أن أحصل على بعضٍ منها.’
بعد انتهاء التقييم، يتم توزيع الحلويات على عامة الناس. كان هذه من كرم الإمبراطور.
بينما كانت تفكّر في الأطفال الذين يحبّون الحلويات، وعندما كانت على وشك المرور بنافورة الحديقة …
“بووو هووو…”
سمعت صوت بكاءٍ عالٍ يتعارض مع صوت الماء المتدفّق من النافورة. كان صاخبًا لدرجة أنه لا يمكن تجاهله.
رغبت شاتيريان بشدّةٍ في تجاهله، لكنها مع ذلك حرّكت خطاها بخفّة …
“بووو هووو هووو…!”
ازداد البكاء حدّة.
عند النافورة، كان هناك رجلٌ ضخم الجثة جالسًا على الأرض.
كان يرتدي معطفًا أبيض، وبجانبه قبعة خباز، مما يشير إلى أنه شارك في المسابقة وخسر.
رغبت في تجنّب الاهتمام والمُضيّ في طريقها، لكن نظرها التقي بنظره بالصدفة.
يا له من حظٍّ سيء.
اتسعت عينا الرجل. كان يبكي لدرجة أن عينيه كانتا منتفختين بالكاد يمكنه فتحهما.
“ماذا؟”
بعد أن حدٌقت فيه لفترة، سألته شاتيريان بنبرةٍ غير سعيدة.
مرّت ببالها فكرة أن هذا قد يجعل شخصيتها تبدو أسوأ، لكنها قرّرت أنها لا تهتم.
“صـ صاحبة … السمّو الأميرة شاتيريان؟”
على الرغم من عينيه المنتفختين، تعرّف عليها الرجل.
“حـ… حقًا… سـ… سموّ الأميرة …؟”
“نعم، أنا. هل تريد أن تقول لي شيئًا؟”
“هيك!”
كان لدى جيف الكثير ليقوله لسموّ الأميرة.
في الواقع، كانت كلماته أقرب إلى الشكوى، مثل لماذا يجب أن تكون الحلويات حلوة، وكيف أصبحت تكره الحلويات.
لكن النظرة الباردة التي تلقّاها جعلته يشعر بالخوف، فلم يتمكن حتى من قول جزءٍ بسيطٍ مما كان يدور في ذهنه.
بدلًا من ذلك، مدّ يده المرتعشة بحلوى صنعها في المسابقة وجلبها معه.
ارتفع حاجب شاتيريان في استغراب.
“ما هذا؟”
“إنه… حلوى مصنوعة من مسحوق الأرز المطحون، ثم صنعتُها على شكل كعكة…”
كلّما تكلم، أصبح تعبير الأميرة أكثر غرابة. بينما كان جيف يتلعثم، طلبت منه شاتيريان أن يشرح بتفصيلٍ أكثر.
في حيرة، شرح جيف الوصفة بأكبر قدرٍ ممكنٍ من التفاصيل، وهو يتلعثم.
“اللون الوردي من البنجر، والأرجواني من التوت الأزرق، والبرتقالي من الجزر، والأخضر من السبانخ.”
“ثم رصصتُها في طبقاتٍ وطهوتُها في قدر…”
‘هذه مجرّد كعكة أرز.’
بالنسبة لشاتيريان التي عاشت حياةً ثانية، كان هذا مألوفًا، لكنه كان غريبًا على سكان الإمبراطورية. إنه ‘التوك’ – كعكة الأرز.
كانت فكرة صنع كعكةٍ من الأرز جديدة، لكن الأرز في إمبراطورية كينتري كان من الأنواع غير الشائعة، مما جعل الفوز بمسابقة الحلويات صعبًا للغاية.
السبب بسيط: الحلويات كانت من نصيب الأغنياء، وكانت حبيبات الأرز أكثر خشونةً من دقيق القمح، مما أعطاها ملمسًا غير جيد.
والأهم من ذلك، أن أنواع الأرز مختلفة. الأرز المناسب لصنع التوك يجب أن يكون من نوعية الأرز اللزج أو الدبق.
ما صنعه جيف كان يفتقر إلى اللزوجة، وكان على وشك الانهيار.
“لماذا تُريني هذا؟”
“أريد أن أصنع حلوى تُرضي ذوق الأميرة!”
‘ولكن لماذا …؟’
كانت شاتيريان في حيرةٍ من أمرها لأن رجلًا لم تره من قبل يريد صنع حلوى لها.
بعد بعض التفكير، قرّرت أن تشاركه بعض المعرفة التي لديها.
“إذا كنتَ تريد صنع هذا، يجب أن تستخدم الأرز المنتج في القارة الشرقية، وليس الأرز المنتج في الإمبراطورية.”
“الأرز المنتج في القارة الشرقية؟”
“نعم. الأرز هناك أقصر وأكثر لزوجة، لذا لن يتحوّل إلى فتاتٍ هكذا.”
“كيف تعرفين ذلك، سموّ الأميرة ..؟”
“لدي… بعض الاهتمام بالزراعة… كحم، على أيّ حال. إذا نجحت، أريد أن أتذوّقه أولًا. يجب أن تدفع ثمن المعلومات التي قدّمتُها لك، أليس كذلك؟”
“نعم! بالطبع! لن أنسى هذا الجميل أبدًا! شكرًا جزيلًا لك،
سموّ الاميرة شاتيريان!”
غادر جيف بوجهٍ مشرقٍ بعد أن وجد خيط الأمل.
‘ربما كان عليّ أن أطلب منه تعويضًا ماديًا.’
لكن هذه الفكرة مرّت سريعًا، فقد كان جيف قد غادر بالفعل وهو في غاية السعادة.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "41"