في الظهيرة. تلألأ الزجاج الملون تحت أشعة الشمس، مشكّلاً منظراً بديعاً.
في أسفل تلك الهالة المتلألئة، كان المعبد. أمام تمثال الإلهة الشامخة حاملة ميزان العدل، كانت القديسة ترتدي حجاباً أبيض وتؤدّي صلواتها.
هدوءٌ وسلامٌ يبعث على الراحة. كأنها لوحةٌ مرسومة، رفعت القديسة زاوية شفتيها بابتسامةٍ خفيفة.
“أأتيتَ اليوم أيضاً؟”
لم يكن هناك رد. بل لم يكن هناك أحدٌ حولها أصلاً. لكن القديسة كانت متأكدةً من وجود شخصٍ ما بجانبها.
“إن كنتَ ستكتفي بالنظر إليّ كلّ يوم… فسيذوب وجهي ويختفي.”
[…لم أكن أنظر إليكِ لهذه الدرجة.]
نفى صوتٌ مُحمَّلٌ بتنهدةٍ كلامها بهدوء.
“حقاً؟”
بينما كانت القديسة تبتسم، هبّت رياحٌ غير مرئيةٍ وأطلقت تنهّداً صامتاً.
حفيف.
تحرّكت خصلات شعرها الوردية. شعرت بلمسةٍ خفيفةٍ تمرّ على خدها.
حتى لو لم يكن مرئيّا، فإن هذا الإحساس جعل من المستحيل إنكار وجوده.
في شرق دوقية أستريا، كانت هذه السنة الثانية التي تزور فيها القديسة هذا المعبد المهجور في أعماق جبال سورون الشمالية.
منذ اللحظة التي اكتشفت فيه هذا المعبد، لم تنسَ القديسة أن تزوره مرّةً كلّ نصف شهرٍ لتؤدي صلواتها.
“جئتُ اليوم لأخبركَ أنني لن أتمكّن من المجيء لفترة.”
[….]
توقّفت الرياح التي كانت تلاعب شعرها بلطفٍ فجأة.
“سأذهب إلى الأحياء الفقيرة في الشمال، لذا قد أستغرق شهرين على الأقل.”
[… لماذا تختارين المشقة؟ حتى زيارتكِ لهذا المكان كلّ مرّة لا داعي له. كان بإمكانكِ الجلوس في المعبد وأداء الصلوات فحسب.]
نبرة صوتٍ غير راضية. كان المعبد الذي قصده هو معبد إلهة الرحمة التي تتبعها القديسة.
صلوات المؤمنين هي ما يُبهِج الآلهة. وجدت القديسة أنه من المضحك بعض الشيء أن ‘الوحش الإلهي’ يطلب منها عدم زيارة معبده.
بلهجةٍ مُمازحة، طلبت منه ألّا يحزن لأنها ستعود لاحقاً، لكن الرياح لم تردّ مرّةً أخرى.
بعد أن أنهت صلواتها الأخيرة، نهضت القديسة متكئةً على عصاها التي كانت بجانبها.
“إذن، أراكَ لاحقاً.”
[….]
غادرت القديسة المعبد ببطءٍ معتمدةً على عصاها. قديسةٌ غريبة الأطوار، لا ترى بعينيها ومع ذلك تزور هذا المعبد النائي كلّ مرّةٍ لتُلقي التحية.
تحرّكت الرياح. بقيت في مكانها لفترةٍ وكأنها تودّع ظهرها المبتعد بأسًى.
كما انتظرت اليوم الذي ستلتقي فيه بالقديسة مرّةً أخرى، اختفت الرياح ببطء.
***
تلاشت هالةٌ من الضوء أغشت بصري. عندما استعدتُ وعيي، كان المساء قد حلّ بظلامه.
اخترق ضوء القمر من خلال النافذة الصغيرة في الجدار.
هل فقدتُ وعيي؟ لم أعد أشعر بذلك الألم الذي كان يجتاحني. ذلك الألم الرهيب الذي كان يكسر مفاصلي ويوسّع مسام جسدي …
من الغريب أنني الآن في حالةٍ جيدةٍ دون أيّ ألم. كأن أمنيتي بالموت على الفور كانت كاذبة.
“هاا …”
نهضتُ ببطءٍ وتفحّصتُ المكان الغريب من حولي.
الغرفة كانت صغيرةً وبسيطة. قديمةٌ بعض الشيء، لكنها تحمل لمسة ترحيبٍ من صاحبها.
‘لا يبدو أنها قصر دوق أستريا.’
غادرتُ الغرفة وسِرتُ عبر الممر. مررتُ بممرٍّ مفتوحٍ يطلّ على الخارج ووصلتُ إلى الحديقة.
بركةٌ تحيط بشجرة كرزٍ طويلة الأغصان تتلألأ تحت ضوء القمر. بدا تمثال إلهة الرحمة المُشيّد كحارسٍ للمكان مقدّساً.
وقف إيتشيد ينظر إلى التمثال بعينين غارقتين في التفكير.
فجأة، تذكّرتُ ما رأيتُه قبل أن أستيقظ. المعبد، القديسة، والرياح. ربما كان ذلك مشهداً من ماضي إيشيد.
عندما حرّكت قدمي، سمعتُ حفيف العشب. التقت عيناي بعيني إيشيد الذي التفت نحوي.
“ماذا تفعل في هذا الوقت المتأخر من الليل؟”
“هل أنتِ بخير؟”
ربما لأنه المساء، كان صوته منخفضاً بشكلٍ ملحوظ. هززتُ كتفي.
“هل استغرقتُ وقتاً طويلاً هذه المرّة أيضاً؟”
“لا. إنه نفس يوم الحادثة.”
“هذا مريح. ماذا عن دار المزادات؟”
“تمّت تسويتها كلّها، بما في ذلك غوستو أڤيديتا.”
لم تكن كلمة ‘تسوية’ لطيفة عندما تُطبَّق على البشر.
عبستُ بوجهي بسبب الشعور بعدم الارتياح، عندها أضاف إيشيد.
“لا تقلقي. لم أتعامل معهم بقسوة.”
“… شكراً لكَ على التفكير في مشاعري.”
نظرتُ إليه من زاوية عيني بوجهٍ متحفّظ.
شعرتُ وكأنني أرى ابناً نضج فجأة. كبر في غمضة عينٍ وأصبح يعزّي والديه.
‘متى أصبح يهتمّ بهذه التفاصيل الدقيقة؟’
هل يجب عليّ أن أتذمّر كي لا يفقد هويّته …؟
‘ربما أنا مَن يحتاج إلى الخروج من قيود الرواية.’
واجهتُ مشكلةً كنتُ أتجنّبها دون وعي.
كان عليّ أن أعترف الآن. تدفُّق هذا العالم قد خرج بالفعل عن مساره الطبيعي ويتّجه نحو مكانٍ بعيد.
الحياة لا تسير كما نريد على أيّ حال، والغوص في التفكير أكثر لن يؤذي سوى صحتي العقلية.
‘بما أن كلّ شيءٍ قد انهار بالفعل، فالأفضل أن أركّز على حماية نفسي.’
بينما كنتُ أهزّ رأسي بهذا القرار الصغير، أدركتُ أنه عليّ أن أصبح أقوى أولاً. فلا يوجد ضمانٌ أنه لن يتكرّر مثل هذا الأمر مرّةً أخرى.
‘تعلُّم المبارزة، فنون الدفاع عن النفس، تنمية القوّة المقدسة…’
بينما كنتُ أفكّر من أين أبدأ، نبس إيشيد.
“شاتيريان. لديّ شيءٌ لأخبركِ به.”
“ما هذا الجو الرسمي؟”
“أريدكِ أن تنقلي مكان إقامتكِ إلى قصر دوق أستريا لفترة.”
“أمرٌ يتعلّق بأماني مرّةً أخرى؟”
“لا. هذه المرّة، الأمر يتعلّق ببقائي على قيد الحياة. يبدو أنني … أصبحتُ جسداً لا يستطيع العيش دونكِ.”
“….”
أغلقت فمي الذي كان على وشك أن يسأل ‘ما هذا الهراء غير المبرر؟’ عندما كشف إيشيد عن جنبه الأيسر الملفوف بقطعة قماشٍ بيضاء تحت سترته.
“أُصِبتُ بسيفٍ ملعون. الجرح ليس عميقاً وسيُشفى قريباً، لكن المشكلة هي قوّتي المقدسة.”
“….”
“القوّة المقدسة التي أتلقّاها لا تثبُت بسهولة. وأشعر أنها لا تمتلئ كما كانت في السابق.”
“إذن، أصبحتَ جسداً غير فعّال وذا كفاءةٍ منخفضة، أليس كذلك؟”
أومأ برأسه. لم يكن الأمر بسيطاً لأقول ‘هذا محزن’ وأتجاهله. لا يمكنني تجاهله بعد أن أصبح هكذا بينما كان ينقذني.
“هل تعرف طريقةً لإزالة اللعنة؟”
“نقتُل مَن ألقى اللعنة.”
“ألم يكن غوستو؟ لقد مات غوستو.”
“ليس غوستو. يجب أن نقتل ساحر الظلام الذي كان يتحكّم به.”
“إذن، سأبقى في قصر دوق أستريا حتى نقتل ذلك الساحر، صحيح؟”
“أجل.”
بما أن الأمر قد وصل إلى هذا، فليكن.
“ما يذهب يجب أن يعود. إذاً، علّمني المبارزة في المقابل.”
نظر إليّ إيشيد بنظرةٍ مستغربة. هل كانت المبارزة طلباً غريباً؟
أدرت عينيّ محرجةً وأضفت:
“أو ربما فنون الدفاع عن النفس…؟”
‘تبّاً.’
“لا تنظر إليّ هكذا، أعرف أن هذا الطلب غريب.”
تذمّرتُ بأن وجهي قد يصبح مثقوباً من نظراته، فسمعتُ ضحكةً خفيفة.
“هل ضحكتَ للتوّ؟ أهذا مضحك؟”
بينما كنتُ أتحرّك بتوتر متسائلةً إن كان طلبي مضحكاً، هزّ رأسه وقال لا.
“تعلُّم كليهما ليست فكرةً سيئة. لكنني لن أعلِّمك بشكلٍ سطحي، ولن أكون متساهلاً.”
“ها! لا حاجة لذلك. كما تعرف، أنا ممتازةٌ أصلاً. سأصبح أقوى بسرعة، فلا تنبهر!”
ربما أفوز عليه قريباً أيضًا؟ بالطبع، لم أهزمه من قبل.
أطلقتُ بعض الادعاءات الصغيرة.
شجّعني إيشيد بصدق، الأمر الذي جعله أكثر إزعاجاً.
نظرتُ إلى وجهه المبتسم باستياء، ثم مددتُ يدي.
“أوّلاً جدِّد قوّتكَ المقدسة ليومنا هذا.”
“يمكنني الانتظار حتى يتعافى جسدكِ تماماً.”
“حقاً؟ إذاً …”
“لكنني أريد أن أُمسكَ بيدكِ.”
“ما هذا …”
قبل أن أتمكّن من سحب يدي، أمسك بها. تخلّلت يده العارية، التي نزع عنها قفّازاته، بين أصابعي برقّة.
‘لماذا يبتسم هكذا؟’
لم يعجبني. وجه إيشيد المليء بالرضا وهو ينظر إلى أيدينا المتشابكة. نحن اللذان أصبحت وجوهنا قريبةٌ جداً.
“لم أسمح لكَ بذلك.”
“اعتبريه استثناءً لليوم. جُرحي الجانبي … مؤلمٌ جداً.”
“….”
لا أملك رداً عندما يستخدم جرحه كذريعة …
تذمّرتُ من كذبه، لكنني لم أُفلِت يدي.
سبّبت الفراغات بين أصابعه التي تلامس جلدي حكّةً غريبة. تلك الحكة كانت عنيدةً لدرجة أنها انتقلت إلى قلبي.
“الوقت متأخّر، يجب أن ننام.”
سِرنا جنباً إلى جنب وأيدينا متشابكة.
عندما وصلنا أمام الغرفة وانسحبت يده، شعرتُ ببرودةٍ غريبةٍ في يدي.
“ليلةٌ سعيدة.”
عندما استدار، لم يظهر أيّ تردّدٍ في ظهره المنسحب.
لمع الضوء الخافت للقمر في الظلام. ذكّرتني الليلة المظلمة بالسجن المُغلَق.
بينما كنتُ أحرّك أطراف أصابعي الباردة، دون أن أدري، أمسكتُ بظهره.
“…ابقَ بجانبي حتى أنام.”
“شاتيريان، في هذه المواقف يجب أن تطلبي بأدب.”
نبرة صوتٍ تعليمية. لكن صوته كان يحمل ضحكةً مكبوتة.
“….”
قطّبتُ وجهي على الفور. كبريائي المسحوق تضخّم فجأة.
“ألستَ مَن قال أنه سيجعلني أرغب في الزواج بك؟ يجب أن تُظهِر لطفكَ في هذه اللحظات كي يميل قلبي نحوك.”
أليس هذا صحيحًا، أيها الوحش الذي لا يعرف حتى حرف ‘الراء’ في كلمة ‘رومانسية’؟
تاب، تاب، ضربتُ بقدمي الأرض اعتراضًا، وهزّ إيشيد رأسه قائلاً.
“بعد الاستماع إليكِ، يبدو كلامكِ صحيحاً.”
“أجل. لذا أسرِع وطمئِنّي.”
“سأبذل جهدي.”
دخلنا الغرفة معاً بمشاعر كتاجرٍ خُدِع.
أخذتُ السرير، بينما جلس إيسيد على الكرسي بجانب السرير.
ساد الصمت. ربما لأنني استيقظتُ للتوّ، أو ربما بسبب وجود إيشيد بجانبي، لم يأتِ النوم بسهولة.
بينما كنتُ أرمش بعيناي المغمورتين خارج الغطاء، تنهّد إيشيد.
“نامي.”
“أنا أيضاً أريد النوم …”
تمتمتُ وأغلقتُ عينيّ بقوّة.
“إيشيد، أليس هناك قوّةٌ مقدّسةٌ تساعد على النوم؟”
“امم …”
بدا مرتبكاً، ثم
بدأ يغني أغنيةً هادئة.
“ما هذا …”
على الرغم من ضحكي المستهجن، واصل أغنيته بثبات.
‘حسناً … إنها جميلة.’
كانت ليلةٌ غلبني فيها النوم العميق لدرجة أنني لن أُدرِك إذا حملني أحدٌ على ظهره وقذفني بالماء المتدفّق.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "34"