“كح.. كح..”
لم تتوقف نوبات العطاس.
حدقتُ بذهولٍ في الحائط الذي أضحى كومة أنقاضٍ متساقطة. التقت عينا إيشيد المرتعشتان بخفّة بخاصتي.
“هل فقدتَ عقلك…؟”
“……”
تقلصت شفتاه ثم ارتختا. أوحت نظراته المرتعشة أنه لم يتوقع انهيار الحائط تمامًا.
أطلقتُ تنهيدةً عميقةً واضعةً كفي على جبهتي. متسائلةً عن كيفية التعامل مع هذه الفوضى.
ركلتُ حجرًا صغيرًا فتدحرج بعيدًا مبعثرًا شظاياه.
“لم أفعل ذلك عمدًا…”
حاول إيشيد تبرير نفسه، بينما اتكأ على جانب الجدار الأيمن، لكن الأحجار المعلّقة بشكل هشّ انهارت.
فزع إيشيد وسحب جسده بسرعة، لكن الفتحة كانت قد اتسعت أكثر.
“أؤكد أنني لم أفعله متعمّدًا.”
ثم أضاف عذرًا.
“الجدار كان يهتز، وعندما ضربته انهار.”
“بالطبع سيهتز إذا ضربته. ألم تكن قوّتكَ مفرطة؟”
لو انهار من مجرّد ضربة خفيفة، فهذه مشكلة بحد ذاتها.
“الجدار حقًا كان …”
التفت إيشيد إلى فيل خلفه، وكأنه يطلب تأييدًا لرأيه.
أدرك فيل التلميح فأومأ موافقًا بأن الجدار كان يهتز بالفعل.
“بالطبع كان كذلك …”
استمعتُ لاعتذاره نصف مصغية، ثم جمعتُ الحجارة الصغيرة المتناثرة بأقدامي.
‘بما أن إيشيد هو السبب، فسأطلب منه دفع تكاليف الإصلاح.’
لكن ماذا عن التنظيف؟ وأين سنعمل أثناء الإصلاحات؟
مجرّد انهيار جدارٍ واحدٍ خلق الكثير من المشاكل.
“سيتعيّن عليّ أولًا استدعاء شخصٍ ما لتنظيف المكان والاتصال بمدير الملحق.”
“آه…”
ساد الصمت على إيشيد، بينما أطلق فيل تنهيدة.
كان مدير الملحق الحالي في الأصل خادمًا متقاعدًا أشرف على تعليمات آداب السلوك لأورغون في طفولته. مع موهبته الفطرية في إدارة المباني، كان مشهورًا أيضًا بدقته المفرطة وطبعه الصعب.
عندما كبر أورغون ولم يعد بحاجة لتعليم الآداب، قدّم المدير استقالته، لكنه بقي في القصر بطلبٍ من الإمبراطور وهو الآن يدير الملحق.
كلما كان فرسان المتدربين الصغار يقومون بإتلاف الجدران الخارجية، كانوا يتلقّون توبيخًا قاسيًا منه.
أنا وفيل، اللذان لم يتسبّبا بمشاكل من قبل، كنا دائمًا نشاهد من بعيدٍ فقط بينما يُوبِّخ الفرسان… ولكن الآن
“على هذا الجدار المثالي! ماذا فعلتم به؟!”
“……”
انهمر سيل التوبيخات من المدير العجوز الذي أسرع إلى المكان.
وقفنا نحن الثلاثة – إيشيد وفيل وأنا – في صفٍّ مستقبلين التوبيخ.
‘لكن لماذا أنا أيضًا…؟’
على أي حال، كنتُ أستمع بانصاتٍ للتوبيخ، لكني شعرتُ بظلمٍ ما.
لم أفعل أيّ شيءٍ خاطئ.
“في الواقع… أنا لستُ مَن تسبّب…”
“صمتًا! بما أن هذه غرفة الاستشارات، فالأميرة شاتيريان تتحمّل جزءًا من المسؤولية!”
أغلقتُ فمي فورًا أمام نظرات المدير الغاضبة.
تذكرتُ فجأة ذكريات تعلّم آداب السلوك مع أورغون في الطفولة وكيف كنا نُوبَّخ.
‘كم مرّةً جادلنا فقط لتزداد الأمور سوءًا…’
“هل أنتم تستمعون؟!”
“نعم، سيدي …”
التفت المدير فجأةً نحو إيشيد الواقف بجانبي. هو أيضًا لم يسلم من التوبيخ.
“كيف يمكنكَ أن تهدم جدارًا بهذه السهولة؟!”
“…لم قمتُ بالنقر عليه بخفة فقط.”
“كيف سيؤدي نقرٌ خفيفٌ إلى انهيار الجدار؟”
“أنا حقًا …”
تمتم إيشيد بخفوت بشعورٍ بالظلم. بدا حقًا كجروٍ حزين.
توقف التوبيخ عندما وصل عمّال الإصلاح لفحص الجدار.
بعد فحص الجدار لحظة، خدش عامل الإصلاح خده باحراج.
“سيستغرق الإصلاح وقتًا طويلًا. المواد المستخدمة في الجدار مستوردة من إمبراطورية أستريا، لذا يجب التفاوض مع التجار أولًا.”
“هل كان الجدار ضعيفًا هكذا بالأصل؟”
“يبدو أنه الجدار قد شُيِّد على عجلٍ لملء مساحة فارغة مسبقًا. هناك فراغاتٌ كثيرةٌ بين الأحجار مما جعله سريع الانهيار.”
حككتُ رأسي متسائلة.
“ألم يكن هناك جدارٌ هنا بالأصل؟”
“نعم. من هنا إلى هنا. حسب الشكل العلوي، كان هناك جدارٌ مقوّسٌ مفتوح.”
“لذا، الخلاصة، أنه كان سينهار في أيّ لحظة؟”
“أجل. يبدو الأمر كذلك. لابد أنه كان يهتزّ حتى في الأيام العادية.”
بالطبع لم أكن أعلم. لم أقترب من هذا الجدار إلّا اليوم.
نظرتُ إلى المدير بنظرة لوم. شعرتُ بمزيدٍ من الظلم لأني تلقّيتُ توبيخًا دون سبب.
“أسمعت؟ هذا ما يقولونه.”
“احم… سأذهب لإبلاغ صاحب السمو ولي العهد.”
“لا داعي.”
بطريقةٍ ما، ظهر أورغون فجأةً خلفنا.
“تحياتي لصاحب السمو ولي عهد الإمبراطورية.”
تجاوز أورغون الأشخاص الذين حيّوه واتجه نحو الفتحة الواضحة. تفحص الأحجار المتناثرة والجدار المنهار وهو يهمهم.
“كيف عرفتَ بهذا؟”
“سمعتُ أن جدار الملحق انهار، فأرسلتُ شخصًا للتحقق. ثم جئتُ لأرى بنفسي.”
يبدو أن المدير قد أرسل شخصًا إلى أورغون قبل الوصول إلى هنا.
وقع نظر أورغون على المدير، ثم تحول نحو عامل الإصلاح.
“كم سيستغرق إصلاح الجدار؟”
“إذا كانت المواد متوفرة في الإمبراطورية، فمن خمسة إلى عشرة أيام. وإلّا سنضطر لاستيرادها، وسيستغرق شهرًا أو اثنين على الأقل.”
“هذا وقتٌ طويل. تيري، سنحتاح إلى إعداد غرفة استشاراتٍ مؤقتةٍ في مكانٍ آخر أثناء الإصلاحات.”
“يبدو ذلك. يا للهول، متى سننقل كل هذه الأشياء؟”
لم أستطع إلّا أن أتنهد عند رؤية غرفة الاستشارات المغطاة بالغبار.
أثناء مناقشتنا، بدأ المدير وموظّفوه بتنظيف المكان.
“ثبّتوا بابًا هنا أثناء الإصلاحات.”
“حسنًا.”
غادر عامل الإصلاح ليتفقد المواد، بينما طردنا المدير بحجة أننا نعيق العمل.
وقفنا أنا وإيشيد وفيل وأورغون في الممر كي لا نعيق العمال الذين ينقلون الأنقاض.
يبدو أن نقل الأثاث لن يكون ممكنًا إلّا بعد انتهاء التنظيف.
“أين سنقيم غرفة الاستشارات المؤقتة؟”
“كنتُ أفكّر. بما أن الأمر وصل إلى هذا الحد، ما رأيكِ بمكتب قائد الفرسان؟”
“ماذا؟”
نظرتُ لأورغون وكأنه قال شيئًا سخيفًا.
لكن يبدو أن إيشيد كان له رأيٌ آخر.
مع تعبيرٍ مشرقٍ على وجهه، أومأ بسرعة.
“فكرة ممتازة.”
“حسنًا، بما أن قائد الفرسان موافق …”
“إيشيد هو مَن تسبّب بالضرر، فلماذا يجب أن أتحمّل العواقب؟”
“طلب مشاركة مكتب قائد الفرسان مؤقتًا ليس ضررًا كبيرًا.”
ضحك أورغون ساخرًا.
“مكتب قائد الفرسان واسع، لن تشعروا بالازدحام.”
بالطبع أعلم، لكن لم تكن هذه هي المشكلة.
“كما تعلمين، سواء في العمل أو غير ذلك، أنتِ لستِ في وضعٍ يسمح لكِ بالتجوّل وحدكِ. بما أن الأمور أصبحت هكذا، فلنغيّر المرافِق من نائب القائد يوريل إلى القائد إيشيد.”
“لا!”
“مستحيل!”
صرخنا أنا وفيل في وقتٍ واحد.
نظر إلينا أورغون وإيشيد بنظراتٍ حائرة.
“لماذا؟”
“ما المشكلة؟”
“لأن…”
“لأن؟”
ارتعتُ عند الصوت المفاجئ. استدرت فرأيتُ يوريل، الذي كان قد عاد بعد إيصال لوسي، واقفًا خلفنا.
“لأن…”
‘لأنه العامل الثمين في غرفة الاستشارات!’
… لكن قول ذلك سيبدو لئيمًا للغاية، والكذب سيثير ضميري.
وجدتُ نفسي أتلفّت بين إيشيد الذي أصبحت عيناه متوهّجتين، ويوريل الذي يحدّق بي بفضول.
لا أعرف لماذا أتجنّب ردود أفعالهما.
“حسنًا، سأتولى أنا الأمور هنا.”
قلتُ وأنا أتسلّل؟ من تحت أنظارهما.
“يقولون إنهم سيهدمون الجدار ويعيدون بنائه بالكامل. بالطبع، اذهبي واعملي في مكانٍ مليءٍ بالغبار المتطاير. يوريل، من الأفضل أن تعود إلى فرقة الفرسان الثانية.”
“أجل، سأفعل ذلك.”
“انتظر. يوريل؟”
ناديتُ عليه بيأس، لكن ظهره المتراجع لم يُبدِ أيّ تردّد.
ودّعتُه وفيل بقلبين حزينين.
في النهاية، لم يكن أمامنا خيارٌ سوى إنشاء مكتب استشاراتٍ مؤقتٍ في مكتب قائد الفرسان.
***
ألغى إيشيد جميع أنشطته الخارجية مؤقتًا، بحجة حمايتي.
وُضِع مكتبي بجانب مكتب إيشيد، ومكتب فيل عموديًا بجانب مكتبي.
كنتُ منزعجةً جدًا حقًا لاضطراري بالبقاء بالقرب من إيشيد حتى في المكتب.
ولكن ما هو الجانب الإيجابي؟ أصبح سير العمل أسرع بكثير.
مرّت الوثائق التي سلّمها فيل لي مباشرةً إلى إيشيد أمامي. مقارنةً بالسابق، عندما كنتُ أحمل الوثائق إلى إيشيد بنفسي، كان ذلك أكثر فعالية.
‘ليس أنني أستمتع بعمل منظمة الفرسان على أيّ حال.’
“فيل. بالمناسبة، ماذا حدث للشخص الذي كان من المفترض أن يحضر للاستشارات، والذي عرّفه بروك؟”
“آه… قال السير ميش إن المشكلة التي كان قلقًا بشأنها قد حُلّت فجأة، لذا لن يحضر للاستشارات.”
“حقًا؟ هذا جيد، لكنه مُخيّبٌ للآمال بعض الشيء.”
ظننتُ أنني حصلتُ على عميلٍ أخيرًا، لكن ها هي ذا فرصةٌ أخرى قد ضاعت.
بعد يومين، جاء زائرٌ إلى المكتب المُدمج.
“همم … هل هذا مكتب الاستشارات؟”
تردّد الرجل وهو يفتح الباب، وارتجف عندما رأى إيشيد وأنا نجلس أمامه مباشرةً.
اقترب منه فيل وسأله.
“هل أنتَ هنا للاستشارة؟”
“نعم…”
استشارة!
نهضتُ فورًا وسرتُ نحو الرجل.
“تفضّل. من فضلك، اجلس هنا.”
بينما كنتُ أرشده إلى الأريكة، أحضر فيل بعض الشاي بلباقة.
“كما تعلم، مكتب الاستشارة هذا قيد الإنشاء، لذا فالوضع ليس مثاليًا. إذا كنتَ ترغب في عدم سماع الآخرين، يُمكنني ترتيب غرفة استقبالٍ خاصة.”
بعد كلماتي، ألقى الرجل نظرةً سريعةً حول المكتب.
كانت الأريكة التي جلسوا عليها في زاويةٍ بجوار الباب مباشرةً، لكن الغرفة كانت هادئةً جدًا لدرجة أنه كان يُمكن سماع الهمس بوضوح.
هزّ الرجل رأسه سريعًا.
“في الواقع، أودّ أن يسمع قائد الفرسان هذا أيضًا.”
“قائد الفرسان؟”
“نعم.”
وضع إيشيد الوثيقة التي كان يقرأها وانضمّ إلى الجلسة طوعًا.
“و… أودّ أن تصدّقا ما أنا على وشك قوله.”
“إعتذاري، لكن لا يمكنني ضمان تصديق كلّ ما تقونه. هذا يعتمد على ما نسمعه. مع ذلك، أعدكَ ألّا أستمع بتشكّكٍ مفرط.”
بعد اتفاقٍ وجيزٍ وتدوين بعض التفاصيل، بدأ الرجل يتحدّث ببطء.
“أنا… أنا خائفٌ من زميلي في السكن.”
ارتجف صوت الرجل وهو يعترف فجأةً بخوفه من زميله.
ضمّ يديه كما لو كان يحاول تهدئة نفسه، لكن الارتعاش لم يهدأ بسهولة.
ما لفت انتباهي هو قطعة القماش الملفوفة حول رقبته. كانت واضحةً بشكلٍ صارخ.
“هذا؟ أوه…”
لاحظ الرجل
نظرتي، فانفجر في ضحكةٍ مريرة. ثم، بحركةٍ سريعة، فكّها.
تحت آثار يدٍ واضحة. كانت العلامات شديدة لدرجة أنها تحوّلت إلى اللون الأرجواني الداكن، تكاد تكون سوداء.
شهقتُ لرؤية الإصابة الخطيرة.
“زميلي في السكن حاول قتلي. هو … إنه بالتأكيد ممسوسٌ بشيطان!”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "26"