6
Jojo:
الفصل السادس
كيلِيان دروش.
ربّ أسرة دروش الدوقية، ذلك الاسم الذي لم يخفت بريقه يومًا في تاريخ المملكة. رجلٌ شاب في زمنه، أسّس وأدار شركةً سحرية ضخمة، حتى صار أحد أركان النفوذ الحقيقي في البلاد.
تأمل الرجل ما حوله بعينين زرقاوين صافيتين كالجواهر، ثم تنفّس ببطء، ملامحه تنضح بأسفٍ عميقٍ لا يمكن إخفاؤه، وقال بنبرةٍ وادعةٍ منخفضة:
“يا للأسف… هل طُردتَ مجددًا؟”
ثم ألقى نظرة جانبية على كبير الخدم الذي كان يتبعه، وأردف:
“يبدو أننا بحاجة إلى شخصٍ جديد. أحسنت العمل، يا خادمي.”
وما إن اختفى الدوق عن الأنظار، حتى أطلق الخدم أنفاسهم التي كانوا يحبسونها منذ لحظات.
“…من الطبيعي أن يقع فيه المرء، بمظهره هذا.”
قال أحدهم تلك الجملة، ولم ينبس الآخرون ببنت شفة اعتراضًا.
***
بعد غياب يومين، عادت القطة إلى الاستوديو، فشهقت مدهوشة لما رأت.
“…مـا… ما كل هذا؟”
حين كانت قد رأت ريانا آخر مرة، كانت الأخيرة منشغلة بإعداد منشوراتٍ دعائية، ولم يكن المكان على هذا الحال. أما الآن…
“آه، هذه الأشياء؟ إنها هدايا من الزبائن! هذا المكتب المصنوع من الماهوغني أرسلته الكونتيسة ميلو رجاءَ أن أعتني بأمرها، أما تلك اللوحة المعلّقة على الجدار فقد بعث بها المركيز باربون هذا الصباح، مهنئًا بدخولي إلى المملكة.”
كانت ريانا تتكئ على كرسي فخمٍ بلا مسند عرش، مائلةً برأسها في استرخاء، ووجهها يشع بالحماسة وهي تتحدث.
“الأشياء التي لم أجد لها مكانًا بعـتُها. وهكذا سدّدت إيجار الاستوديو بالكامل!”
لقد جمعت حقًّا ثروةً لا بأس بها. والنتيجة أن المكتب لم يعد يبدو متواضعًا كما كان، بل صار يضاهي، بل وربما يفوق، مكاتب أولئك الذين تتصدر أسماؤهم قوائم “فورسب” لأفضل الشركات.
على عكس ريانا التي غمرها الرضا، بدت القطة منزعجة من التغيّر الغريب الذي طرأ على المكان. أخذت تتمشى بين نباتاتٍ استوائية نادرة وفخارياتٍ عتيقة، ثم سألتهـا أخيرًا:
“…ريانا، ما الذي كتبتِه في ردّك ليبعثوا لكِ كل هذه الهدايا؟”
كان في صوته شيءٌ من الخوف. لكن ريانا أجابت فورًا، وهي تبتسم بثقةٍ متباهية:
“هاه؟ لا شيء! لم أرسل أي ردٍّ على الإطلاق، لا على رسالةٍ واحدة. ولهذا تحديدًا أرسلوا الهدايا!”
فالنبلاء، بقدر ما يحبّون أن يُعامَلوا باحترام، يعشقون إثبات أنهم أهلٌ لذلك الاحترام. وكان أغلى وسيلةٍ لذلك هي، لحسن حظها، الهدايا الفاخرة.
“على أي حال، سأضطر لإرسال الردود قريبًا.”
فقد بدأت وتيرة وصول الهدايا تخفّ. وحتى لو لم يكن ذلك السبب، فقد حان الوقت للردّ. إذ إن تجاهل الرسائل طويلًا لا يبدو ترفّعًا نبيلاً، بل وقاحة فظّة.
اعتدلت ريانا في جلستها، وأمسكت قلمًا، وبدأت تكتب شيئًا على الورق. فقفزت القطة بخفة فوق الطاولة، واستقرت قرب يدها اليمنى، ثم سألتها:
“إذن، ما نوع الطلبات التي وصلتك؟”
“هناك من يريد مني أن أوظّف له بستانيًّا درس في الخارج، وآخر يطلب طبيبًا جديدًا لأن طبيبه العجوز يترنّح على حافة الموت… بل هناك من يريدني أن أعمل مهرّبًا له! الطلبات متنوعة جدًا.”
“والأجر؟”
“لم يصل أي عرض إلى خمسمائة بعد، لكنه في ارتفاع مستمر.”
كان عليها أن تعوّض المبلغ الذي أنفقته على مشروع ترميم الآثار، لتضمن امتلاك جزيرة سْپِس بأمان. لذا كان هدفها أن تصل إلى راتب شهري لا يقل عن خمسمائة غولد، أي ألف غولد خلال شهرين.
“أظن أنه بمزيدٍ من الصبر سأبلغ الهدف قريبًا.”
تجنّبت القطة بحذر محبرة القلم، ووقفت على حافة الطاولة قرب يد ريانا، رافعة عينيها الصافيتين بلون العسل نحوها بنظرةٍ استجوابية.
“لكن، حتى لو قبلتِ، ألن يكون من المستحيل تنفيذ هذه الأعمال؟ فالمكتب لا يضمّ أحدًا سواكِ، وأنتِ لا بستانية ولا طبيبة.”
توقّفت يد ريانا التي كانت ترسم أحرفًا أرستقراطية أنيقة.
“أعلم ذلك. الأعمال المتخصّصة لا أستطيعها… لكن طالما أنها معقولة الحدّ…”
يمكنها التمثيل.
حبست ريانا بقيّة الجملة في صدرها.
فالحق أن نجاحها في أعمال السعاة حتى الآن لم يكن بفضل كونها “المتجسدة”، فحسب، بل أيضًا بفضل تدريبها الطويل في التمثيل في حياتها السابقة.
كانت من أبرز الطالبات في قسم المسرح والأداء في مدرستها، ولم يمنعها من شقّ طريقها كممثلة سوى أن عمرها في تلك الحياة لم يطل، لا أن موهبتها كانت ناقصة.
ولأنها عاشت في زمن الإنترنت ووسائل التواصل، فقد تراكمت لديها معرفة واسعة، وإن كانت سطحية، بشتى الأمور.
وليس في نيتها أن تتطاول على أهل المهن الحقيقيين، لكنها كانت واثقة بأنها قادرة، خلال شهرين، على التظاهر بأنها تمارس أي مهنة تقريبًا.
وهكذا، بدل أن تهدر وقتها في تدريباتٍ مهنية لا طائل منها، قررت ريانا أن تكرّس جهدها كله لرفع قيمة العروض الواردة إليها.
وسيلتها في ذلك كانت تلك الرسائل التي تكتبها الآن بيديها.
“يؤسفني أن أبلغكم أنني هذه المرة، للأسف، لا أستطيع التعاون معكم…”
توقف القط، وقد كان يقرأ بصوتٍ خافت ما كانت تكتبه، ثم اتسعت عيناه دهشة.
“أهذا يعني…”
“رسالة رفض؟”
“تمامًا. بالتحديد، سبعٌ وأربعون رسالة رفض.”
ارتسمت على شفتي ريانا ابتسامة ماكرة، كمن يدبّر مؤامرة صغيرة لذيذة.
انتشرت أخبار “مدام ميداس” التي رفضت جميع الطلبات، كالنار في الهشيم، حتى تجاوزت العاصمة وملأت أرجاء مملكة ديارِس بأسرها.
لو كانوا من أبناء هذا العصر الحديث، لقالوا إن ما تفعله محض عبثٍ متصنّع.
لكن النبلاء في هذه الحقبة كانوا مختلفين تمامًا.
فهم قومٌ يستمدون المتعة من البذخ، ويجدون في الندرة سحرًا لا يقاوَم.
“سمعتم عن ذلك المكتب، أليس كذلك؟”
في العاصمة التي لم تعرف الهدوء منذ دخول مدام ميداس إليها، كانت موائد الشاي التي تجتمع حولها سيدات الطبقة الراقية تضجّ بالحديث نفسه مرارًا.
“يُقال إن الكونت بورجو نفسه رُفض طلبه! خادمتنا سمعت ذلك من خادمتهم مباشرة!”
“يا للعجب… يبدو أن معاييرها صارمة بحق.”
“أما نحن، فلم يصلنا أي رد بعد. أردتُ فقط أن أستأجر معلّمًا منزليًا جديرًا بالثقة… لكن أظن أننا خارج الحساب من البداية. ماذا عنكِ، مدام باربون؟”
ابتسمت مركيزة باربون بفخر وهي تلوّح بمروحتها المزخرفة، ثم قالت بنبرةٍ متأنية:
“قالوا لي إن الانتظار سيطول… لعامٍ كامل.”
شهقت السيدات الجالسات حول المائدة، وقد أخفين أفواههن بمنديلاتهن المخرّمة.
“يا إلهي، عامٌ واحد فقط؟!”
“يبدو أن من هم في منزلة عائلة باربون فقط هم من يُقبلون حتى على لائحة الانتظار.”
“عامٌ واحد! لم أسمع من قبل بمثل هذه المدة القصيرة! البارون مونوبولي، قطب العقارات، حاول أن يطلب سكرتيرة جديدة، فقيل له إن عليه الانتظار ثلاث سنوات، فاستسلم!”
ارتشفت مدام باربون جرعة من شايها بهدوء، ثم علّقت كمن يقدّم نصيحة ثمينة:
“أظن أن معايير القبول لا تتعلق بالمال أو النسب وحدهما. المكانة الاجتماعية، والسمعة الرفيعة… تلك أيضًا لابدّ أنها عوامل أساسية.”
أومأت السيدات بحماس، عيونهن تلمع كما لو كنّ دون أوراقٍ وكنّ سيسجّلن الملاحظات لو استطعن.
وهكذا، ارتفعت شهرة مكتب التوظيف الذي تديره “مدام ميداس” بسرعةٍ مذهلة، كالنار التي تتصاعد في هواءٍ خالٍ من الريح.
ارتفعت… وارتفعت، حتى بلغت أسوار دوقية دروش نفسها.
—
“الطابق الثاني، رقم 18B، شارع رقم 11 — مكتب مدام ميداس لتوظيف العاملين.”
حرّك بَسْتيان، كبير خدم دوقية دروش، رأس القلم مترددًا قبل أن يكمل كتابة العنوان.
“هاه…”
تنهد كِيم، سكرتير الدوق، وهو يراقبه بوجهٍ متجهم، ثم سأل بنبرةٍ حذرة:
“هل هذا حقًا أفضل ما يمكننا فعله؟ أعني… تسليم مهمةٍ بهذه الأهمية لشخصٍ لا نعرفه إطلاقًا؟”
ردّ كبير الخدم ببرودٍ يائس:
“لم يعد أمامنا خيار آخر. فالدوق طرد مجددًا الخادمة من برج العزلة… ولم يعد في القصر أحد يصلح للعمل.”
“وكيف طُردت هذه المرة؟ هل أغوته؟ أم ضايقته؟”
“كانت تنوي مضايقته، لكن النتيجة أنها وقعت في شَركِه هي نفسها. يمكن القول إن النهاية كانت… أقل سوءًا.”
“صحيح، فعادةً ما يصمدنَ ثلاثة أشهر في حالات الإغواء، وشهرًا واحدًا فقط في حالات المضايقة.”
“لذا على الأقل ضمِنّا ثلاثة أشهر دون حاجة لتوظيفٍ جديد. نرجو فقط أن تصمد التالية المدة نفسها، لا أكثر.”
ساد الصمت بينهما لحظة. تبادلا نظرة حزينة، فيها نوعٌ من التفاهم المرهق بين اثنين اعتادا الكارثة ذاتها مرارًا.
قال السكرتير أولًا، بنبرةٍ حاسمة:
“لنطلب خادمة جديدة.”
“يفضل أن تكون في عمر الدوق… أو أصغر قليلًا، في أوائل العشرينات.”
“ولنجعل الأجر الأعلى في السوق. يجب أن نحافظ عليها أطول فترة ممكنة، مهما كان الثمن.”
توقف بَسْتيان عن الكتابة، ثم تمتم وهو يرفع رأسه:
“لماذا نكتفي بأعلى أجر في السوق؟ يمكننا دفع أعلى أجر في المملكة بأسرها.”
“أضف أيضًا عبارة (قابلٌ للتفاوض) بجانب الأجر.”
“ونصّ على أننا نبحث عن عاملةٍ قوية الإرادة، صلبة العزيمة، قادرة على التحمل.”
وخُتمت رسالتهما أخيرًا بالشمع الأزرق الغامق، الذي يحمل ختم دوقية دروش المهيب، كأنها دعاءٌ بيأسٍ مخلص.
صوت التمزيق – شقق!
مزّقت ريانا الورقة التي أُلصق بها الشمع بلا اهتمام، وسحبت المضمون الداخلي بسرعة.
فمنذ تجاوز عدد الطلبات الثلاث خانات، لم تعد تجد وقتًا لتقرأ كل رسالة بتأنٍّ كما كانت تفعل في البداية.
***
“الآن صرتُ أنا نفسي من يحتاج موظفين!”
تمتمت ريانا متذمرة وهي تلقي طلبًا جديدًا من أحد نبلاء الأقاليم في سلة “الرفض”.
فالعروض لم تعد تأتي من العاصمة وحدها؛ لقد بدأت تتدفق حتى من المقاطعات البعيدة، بل ومن خارج حدود مملكة ديارِس نفسها.
بينما كان القط يفرز الرسائل، مصنفًا إياها حسب نوع الختم الملكي ونقش الأختام، زمّ شفتيه بتبرّم وقال:
“يبدو أن التقديم للمكتب صار موضةً رائجة. بعضهم لا يبحث حتى عن موظفين… بل عن مادةٍ يتباهون بها في حفلاتهم.”
كان محقًا، فالعاصمة في تلك الأيام كانت تضج بأحاديث لا تنتهي عن مكتب مدام ميداس.
حتى صار من لا يعرفه يُستبعد من أي محادثة اجتماعية، وكأنه أحد الذين لم يسمعوا بعد بأحدث نزعات البلاط.
بل إن مجرد تلقّي “رسالة رفض” من المكتب بات يُعدّ قصةً بطولية يتفاخر بها أصحابها في المجالس!
تنهد القط وهو يقلّب الرسائل بقدمه الأمامية، ثم توقف فجأة.
التقط ريانا التغيّر في تعبيره فورًا، فمالت بجسدها نحوه بفضولٍ حاد:
“ما الأمر؟ ماذا وجدت؟”
دفع القطّ برسالةٍ إلى أمامها ببطء، وقال بصوتٍ منخفض:
“هذه… صفقة كبيرة.”
رفعت حاجبيها وقد بدأ الفضول يلمع في عينيها.
“حقًا؟”
“ختمها يحمل شعار عائلة دوقية.”
تجمّد وجه ريانا في الحال.
في مملكة ديارِس لم يكن هناك سوى دوقين اثنين.
أحدهما هو دوق دروش المقيم في العاصمة،
أما الآخر…
فكان دوق بيلّوسي، حاكم مقاطعتها القديمة.
ذلك الرجل تحديدًا الذي كان بطل الرواية المصوّرة التي جُسّدت فيها سابقًا باسم “ريانا إفندور”.
بكلماتٍ أخرى — الرجل الذي قتل “ريانا إفندور”،
الشريرة في الحكاية التي تكون هي الان .
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 6"