“حتى النساء لن يجدنه جذّابًا.”
كانت تلك وجهة نظر سيدريك الشخصية، لذا لم أستطع الوثوق بها تمامًا.
بدا لي أن في كلامه شيئًا من الحقد الشخصي، ربما بسبب ما حدث قبل قليل من مشادّة بينه وبين مايكل.
“بمعنى آخر، لم يَرُق لك كثيرًا، أليس كذلك؟”
هزّ الأوراق الصلبة في يده، وسألني بنبرة متفحّصة:
“ولكن، ما الذي يدعوها إلى إرسال الرسائل على دفعات هكذا، بدل أن تجمعها وتبعثها كلها دفعةً واحدة؟”
“لورا تعرف طبيعتي جيدًا. تعرف أنني لا أثق بالناس بسهولة، ولهذا أرسلت رسائل متكررة تحمل المعنى ذاته، لعلّها تقنعني في النهاية. من الواضح أنها كانت تعاني حقًا مع مايكل، وإلا لما كتبت إليّ حتى قبيل موتها. يا لها من حمقاء… لو أنها جاءت إليّ مباشرة وطلبت المساعدة، لكنت فعلت كل ما بوسعي لأساعدها.”
لو أنّها طلبت العون بدلًا من تلك الرسائل، لكنت نفّذت رغبتها دون كلمة واحدة.
استحضار ذكرى صديقتي جعل الدموع تترقرق في عينيّ من جديد.
ناولني سيدريك منديلًا وقال بصوت هادئ:
“ربما كان يراقب خروجها من المنزل أيضًا. لقد رأيت مثل هذه الحالات من قبل. في القرية التي كنت أعيش فيها سابقًا، كانت هناك امرأة تتعرض للضرب من زوجها. ورغم أن الجميع حاولوا مساعدتها وطلبوا منها الانفصال، فإنها كانت دائمًا تدافع عنه. لقد اعتادت على العنف حتى صار جزءًا من حياتها.”
“وماذا كان مصيرها؟”
“غالبًا ما تكون نهاية من يتعرضون للعنف متشابهة… إما أن يقتلوا، أو يُقتَلوا. أما هي، فقد فعلت كلا الأمرين.”
تحوّل وجه سيدريك وهو يتحدث إلى ملامح حزينة موجعة، كأنه يسترجع ذكرى مؤلمة تخصّه هو نفسه.
*أحس أنه قاعد يحكي عن أمه أو يمكن أخته*
لذلك لم أستطرد في سؤاله.
بدا واضحًا أن هناك شيئًا يخفيه عني، أمرًا لا أفقه تفاصيله بعد.
وفجأة، تذكّرت يوم لقائنا الأول.
“غادرت قريتك وجئت إلى العاصمة، لماذا؟”
“بحثًا عن العمل. لم يعد لي أحد هناك، فقد توفي والدَاي كلاهما.”
“وأين تقيم الآن؟”
“في منزل أحد الأقارب، إلى أن أستطيع الاستقلال بنفسي.”
“حسنًا. ستبدأ العمل غدًا. رافقني إلى موقع البناء فترة من الوقت، وحين يُنجز المشروع، سأوظفك كبائع.”
كان ذلك الحوار بداية علاقتنا.
ولطالما راودني الظنّ أن المرأة التي تحدّث عنها آنفًا ربما كانت أمّه.
أتذكر بوضوح آثار الجروح القديمة على خده وعنقه ويده آنذاك.
كانت تلك الندوب باقية رغم مرور الزمن، وإذا ما نظرت إليه عن كثب، أمكنني تمييزها حتى اليوم.
كان مظهره البائس حينها هو ما دفعني إلى توظيفه سريعًا، إذ ظننته ضحية ضرب أو سوء معاملة.
آه يا سيدريك… لقد جعلتني أتعاطف معك دون قصد.
يا لهذا الرجل الذي يستحيل كرهه.
“ألستِ تطالعين المذكرات؟”
“سأفعل، فلا تستعجلني.”
من منا الرئيس حقًا؟ أنا أم هو؟
“بالمناسبة، إن ثبت فعلًا أن مايكل قد أساء إلى صديقتي، فهل يجوز لي قبول ماله؟”
رفع سيدريك ذقنه قليلًا وعدّل ياقة معطفه قائلاً:
“المال لا يخطئ يا سيدتي. البشر هم من يرتكبون الآثام. ثم إننا أضفنا إلى العقد بندًا واضحًا يمنعه من التدخل في إدارة المشروع. أظن أنك لم تضعيه هناك عبثًا.”
صحيح. ذلك البند أضفناه مؤخرًا بسبب بعض المتطفلين الذين حاولوا التدخل في عملي.
وبما أن الحديث قد جرى إلى هنا، فقد آن الأوان لأتخلص من أحدهم.
“سيدريك، أرسل أحدهم إلى آل دانفرز. أريد لقاء جيفري.”
ما أن نطقت باسمه حتى تغيّر وجهه على الفور.
“رجاءً، لا تشربي معه أبدًا. سأرافقك شخصيًا للحديث معه.”
“طبعًا. كيف لي أن أثق بمخلوق مثله؟ إنني أنوي هذه المرة شراء حصته وقطع كل صلة به نهائيًا.”
كان جيفري دانفرز رجلًا سيئ الطباع، خشن اللسان، لا يضبط نفسه حين يسكر.
عبث بعدد لا يُحصى من النساء، ومع ذلك كان يطمع في الجلوس إلى جواري.
“نعم، إنه مستثمر مزعج بحق. سمعت أنه يتباهى في الخارج بأن المتجر هذا ملكٌ له. والأسوأ من ذلك، أنه يتحرش بالفتيات العاملات لدينا. لقد حان الوقت فعلًا لإنهاء هذا العبث.”
“لكنه على الأرجح لن يبيع. لا أحب أن أملأ جيوب هذا الوغد، لكنه من أوائل المستثمرين في المتجر. على أي حال، تواصل أيضًا مع صغار المساهمين، وقل لهم أنني مستعدة لدفع أربعة أضعاف رأس مالهم إن أرادوا بيع حصصهم.”
كان جيفري الابن الوحيد للبارون دانفرز، الذي يمتلك عدة مصانع نسيج.
كانت أسرته فيما مضى من أغنى العائلات في العاصمة، لكن مصانعهم تراجعت بعد أن غزت الأقمشة الأجنبية الأسواق، وتدهورت منشآتهم القديمة.
وأهم ما فعله جيفري في حياته أنه استثمر في متجرنا في بداياته.
ومع ذلك، لست متأكدة من أنه سيتخلى عن حصته بسهولة.
“حسنًا، سأعدّ العقود وأرسل رجالنا فورًا.”
“يمكنك الانصراف.”
“……نعم.”
لكن نظراته قبل أن يغادر كانت تنضح بالأسى، كأنه لا يريد تركي وحدي.
ما بال هذا الرجل؟
لم يُسمع صوت إغلاق الباب إلا بعد لحظات طويلة.
وبينما كنت أراجع تقارير مبيعات الأمس، وقعت عيني على الرسالة الموضوعة عند طرف المكتب.
“آه، إذًا هذا ما كان يشغله…”
لو أراد، لكان فتحها في غيابي.
فهو يعلم أنني أثق به أكثر من أي شخص آخر.
مددت يدي نحو دفتر المذكرات القديم، لكنني ترددت في منتصف الطريق.
لا تزال مشاعري تجاه صديقتي الراحلة معلّقة بين الحنين والشك.
‘لكن، يا لورا… هل يمكنني أن أصدق كلماتك كما هي؟’
ما زلت أغمض عينيّ، فترتسم أمامي صورتك المبتسمة وهي تقولين:
“أنت تحبينني أكثر من أي شخص آخر، أليس كذلك؟”
نعم، كنتِ أعزّ أصدقائي.
حين اختارت والدتي نهاية مأساوية أمام عينيّ، وحين كان والدي غارقًا في الحروب البعيدة، كنتِ الوحيدة التي فهمت وحدتي واحتضنتني.
كنتِ أول من شعر بألمي، وأول من مدّ لي يد الدفء وسط فوضى العالم.
لكن، يا لورا… كنتِ تغارين كلما حاولت التقرب من أحدٍ غيرك.
أحببت فيك صدق مشاعرك، لكنني كنت أضيق بذلك أحيانًا.
وها أنا الآن أعترف بشيء لم أقله قط: كنتِ تُقلقينني في بعض الأحيان، وكنت ألوم نفسي على هذا الإحساس، كأنني أخون من أنقذت حياتي.
والآن، وأنا أهمّ بفتح مذكّراتك، أشعر وكأنني أرتكب إثمًا.
تغمرني مشاعر الذنب مرة أخرى.
بعد أن التقطت أنفاسي، فتحتُ المذكرات وبدأت القراءة.
٢ مارس ١٨٥٣
منذ أن تمت خطبتي، لم يعد يراني.
أجل، كانت علاقتنا قائمة على التهديد، لذا فربما كنت أثير اشمئزازه.
لكن لا بأس. فـغابي تحبني كثيرًا، وهي جوهرتي الوحيدة في هذا المنزل.
تسمع كلامي في كل شيء، وتعاملني كأمٍّ لها.
وبما أنني أنا التي أحسنت إلى شقيقته بهذا القدر، فلا بدّ أن مايكل سيبادلنِي الودّ يومًا ما.
أتمنى فقط أن ينظر إليّ بنصف المحبة التي أكنّها له.
إن استمر هذا الحال أكثر، أخشى أن يتحطم قلبي.
تبيّن من التاريخ أنها كتبت هذه السطور في اليوم التالي مباشرةً لخطبتها من مايكل.
“هل أسأله كيف تمّت خطوبتهما أصلًا؟”
لكن، هل سيجيبني بصدق؟ لقد كان يبدو متضايقًا لمجرد ذكر اسمها آخر مرة.
يا للضيق! لو أنها أوضحت الحقيقة كاملة قبل أن تموت، بدل هذه الرسائل المبهمة!
ربما كانت لا تزال تحبه رغم كل شيء، ولهذا لم تجرؤ على فضح ما فعله بها.
ربما خافت أن أبلغ الشرطة عنه بعد رحيلها.
منذ الصباح والسماء ملبّدة بالغيوم، ثم ما لبث المطر أن انهمر بغزارة، يقرع قطراته على النوافذ بلا توقف.
“سيؤثر الطقس في المبيعات غدًا بلا شك…”
لكن، مهما يكن، فالموتى لا يكذبون.
وفي النهاية، لم أجد بُدًّا من تصديق كلمات لورا كما هي.
***
كان مايكل يحدّق في قطرات المطر المنهمرة خلف النافذة، بينما انكمشت ملامحه بعبوس خفيف.
“هاوارد،” قال بنبرة حازمة،
“ضاعف عدد الحراس أمام غرفة غابرييل اليوم. لا أدري ما الذي قد تفعله، لذا أريد مراقبة دقيقة.”
“نعم، سيدي.”
ثم أضاف بعد لحظة، كأنه تذكّر أمرًا آخر:
“آه، كان عليّ أن أبلغ شارلوت بألا تأتي في يوم ممطر كهذا. أرسل أحدهم إلى مكتب مديرة متجرليڤ وأخبرها ألا تتعب نفسها غدًا، فقد يكون مجيئها بلا جدوى.”
انحنى الخادم الهادئ هاوارد احترامًا، وغادر لينفذ أوامر سيده دون نقاش.
كان مايكل يعرف أن نوبات غابي تشتدّ في الأيام الممطرة.
وكيف لا، والمطر دائمًا ما يذكّرها بحادثة أمّها الأليمة؟
تنهّد قليلاً، ثم خطرت له صورة شارلوت في ذهنه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة.
انعكس في عينيه الزرقاوين بريق لم يظهر منذ زمن، بريق اهتمامٍ حقيقي بإنسان آخر.
“ما زالت جميلة كما كانت… وواثقة كما عهدتها.”
لقد كانت كما رآها أول مرة في حفلة عمّته؛ بنفس الحضور الساحر، ونفس الكبرياء الهادئ.
التغيير الوحيد كان فيه هو، لا فيها.
وما أن مرّت هذه الفكرة بخاطره حتى اعتراه طعم مرارة خفي.
شدّ على فكه وأعاد وجهه إلى صلابته المعتادة، كأنه لم يتأثر لحظة.
إظهار المشاعر ضعف، وتكرار الخطأ السابق ليس خيارًا متاحًا.
ربما حتى شارلوت، رغم قربها من لورا، لم تعرف حقيقتها الكاملة.
لذلك بكت في جنازتها بتلك المرارة.
ففي اليوم الذي تزاحمت فيه النساء نحوه بنظرات الإعجاب، كانت شارلوت الوحيدة التي حزنت حقًا على موت لورا.
في الصباح، زارت منزل آل فاين، وبعد الظهر غاصت في أعمال المتجر المتراكمة.
وحين أقبل المساء، وجدت نفسها في مطعم فاخر، تجلس إلى مائدة العشاء مع جيفري دانفرز.
“يا لي من امرأة تعمل بجد!”
تمنت لو أن لها جسدين؛ جسدًا يحمل عنها أعباء المواعيد المملة والمقابلات العقيمة.
لكن لحسن الحظ، توقّف المطر عند حلول المساء، بعد أن انهمر طوال النهار بلا توقف.
قال سيدريك وهو يتفقد المكان بنظرة حذرة:
“اخترت هذا المطعم خصيصًا لأنه صاخب ومزدحم. بوجود هذا العدد من الناس، لن يجرؤ جيفري… أعني، ذلك الرجل، على القيام بتصرفٍ أحمق.”
♤♧♤♧♤♧♤
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"