5
كم حاولت أن أقنعه عبر موظفيَّ طوال الفترة الماضية.
لكن أن يأتي بعد موت لورا ليعرض عليَّ التفاوض، فهذا أمر يثير امتعاضي… ومع ذلك أردت أن أسمع المزيد من حديثه.
“يبدو أن لديّ وقتًا لأحتسي كوب شاي آخر قبل أن أغادر.”
احذري من ميخائيل. فإنه ليس برجلٍ صالحٍ.
بمجرد أن جلست على الأريكة، خُيِّل إليّ أني سمعت همس لورا في أذني.
كأن صديقتي الراحلة تتشبث بثيابي، ترجوني ألا أنساق.
سامحيني يا لورا.
لكن يجب أن أبحث في أمر هذا الرجل.
الشرطة أنهت القضية باعتبارها انتحارًا، لكني ما زلت أشكّ في أن موت صديقتي يخفي شيئًا آخر.
أردت أن أعرف أيضًا إن كانت معاملتها في هذا القصر تشبه ما كانت تهمس به الشائعات.
“اجلس. إن كان لديك ما تقوله، سأستمع.”
أشرق وجه ميخائيل من ردة فعلي.
“كما رأيتِ للتو، أختي مضطربة نفسيًا. لورا كانت تساعدنا على تهدئة نوبات جنونها بمحادثتها.”
“وماذا تريد منّي بالضبط؟”
“أريدك أن تحلّي محل لورا.”
هل يطلب مني أن أكون مستشارة نفسية؟ لكنني لست لورا، ولا طبيبة.
“أرفض. حتى لو جلستُ معها، فلا ضمان أن لا تعود نوباتها.”
“يكفي أن تكوني صديقةً لها. أختي تكره التغيير، ورأيتِ كيف التبست عليها الأمور وظنّت أنك لورا. فقط تعالي بين الحين والآخر لتؤنسيها.”
“هناك فتيات كثيرات يشبهن لورا في الشكل. لستُ فارغة لهذه المهمة.”
“لقد جرّبتُ بالفعل. ألبسنا بعض الخادمات ثياب لورا، حتى منهن من لهن شعر بني وعينان خضراوان، لكن غابرييل طردتهن جميعًا. الوحيدة التي نادتها لورا… كانت أنتِ، شارلوت.”
رمقته بنظرة حادة.
هذا الرجل لا يبدو حزينًا على خطيبته الميتة.
كل ما يهمه هو شقيقته المريضة.
“أتقول هذا بعد ساعات قليلة فقط من موتها؟! حتى لو كانت علاقتكما سيئة، ألا يهمك أن صديقتي ماتت بهذه الطريقة؟!”
“آه… إن بدا الأمر هكذا فأنا آسف. موت خطيبتي… أمر مؤسف فعلًا.”
لكن هذا ليس وجه الحزن.
هذا وجه إنسان مرتاح.
من يفقد شخصًا يحبه لا ينهض بهذه السرعة، بل ينهار أيامًا وأسابيع. هذا أضعف الإيمان احترامًا للميت.
أتذكر عندما وصل خبر مقتل أبي في الحرب، وأمي انهارت أمام عيني… حينها عانيت من ألم يكاد يقطع أعصابي.
هذا هو الحزن الحقيقي.
“أنت لست بعقلك! لا أريد أن أسمع منك المزيد.”
فقال وهو يحاول أن يغويني:
“سأبيعك الأرض خلف متجر ريف، مع الشارع والبنية التحتية، والإنارة… بسعر أقل من السوق. فقط تعالي بضع مرات في الأسبوع، اجلسي مع أختي، قولي لها كلمات بسيطة مثل: طاب مساؤكِ، نامي بخير… ثم ارحلي.”
كان كمن يسكب ماءً باردًا فوق ناري المشتعلة.
إذن… بكم أقل من السوق؟
رغم أني أفكر في ما عانته لورا، غرقتُ في حسابات دنيوية.
كلامه شدّني رغمًا عني.
لكن كبريائي منعني أن أُظهر له ضعفي.
فنظرت في عينيه بحدة:
“هل تعرف كم أربح سنويًا من متجر ريف؟”
فابتسم ميخائيل:
“أعلم أنك ستحتاجين إلى استثمارات إضافية لشراء أملاكي. سأمنحك ما تريدين من تمويل. ولك الحرية في تحديد حجم حصتي من المشروع.”
يعني عمليًا… سيعطيني الأرض والمال شبه مجانًا!
عضضت شفتي من الغيظ، فأنا أعلم جيدًا أن مثله من المستثمرين لا يُعوَّض.
“سأعود غدًا. اكتب كل ما قلت في عقد، وجهّز قلمك للتوقيع.”
آل فاين أسرة غنية.
يملكون مناجم ألماس متوارثة، وفندقًا ضخمًا في قلب العاصمة.
والآن يريد أن يستثمر في مشروعي.
لو حصلت على تمويله، فلن أضطر بعد اليوم لاحتمال نزوات النبلاء العزاب الذين يحاولون استغلال حاجتي لرأس المال.
سامحيني يا لورا.
لكنني تغيّرت كثيرًا منذ بدأتُ هذا العمل…
لقد صرت امرأة مادية أكثر مما يجب.
لكنني، من خلال هذا الرجل، سأجد الفرصة لأكشف كل ما جرى لك.
كل ما جعلك حزينة ومقهورة، سأحاسبه عليه.
سأكشف حقيقة موتك مهما كلّف الأمر.
و حتى ذلك الحين، سأفعل كل ما بوسعي لكشف الحقيقة.
***
حين عدتُ إلى المتجر الكبير، وجدتُ سيدريك لم يغادر بعد عمله بل ينتظرني هناك.
رويتُ له بالتفصيل ما دار بيني وبين الماركيز ، ثم أمرتُه بأن يذهب سريعًا إلى محامٍ ليُحضِر عقدًا كاملًا لا يشوبه نقص.
قال مذهولًا:
“أحقًا قال ماركيز فاين مثل هذا الكلام؟”
فأجبته بجدية:
“نعم. ولهذا الأمر عاجل. أسرع بإحضار العقد أولًا. آه، ولا تنسَ أن تُسجِّل الأرض والمباني بأقل من سعر السوق.”
بدا سيدريك وكأنه شرد في التفكير واضعًا يده على ذقنه.
فتعجبتُ: في وقت كهذا، حيث لا يكفي الجري على عجل، يتلكأ وكأنه متكاسل! وفوق ذلك، أمام عيني أنا، مديرته!
قلتُ بحدة:
“ما بك؟ لِمَ لا تتحرك؟”
فتردد قليلًا ثم قال:
“هناك أمر يا سيدتي…”
“???”
“ألا يمكن أن يكون ماركيز فاين… يقصد أن يجعل من حضرتك خطيبته التالية؟”
يا للدهشة! ما هذا الكلام الفارغ؟ ما أن سمعت ذلك حتى انفجرتُ بضحكة ساخرة.
“هل جننتُ أنا؟ وهل انقرض الرجال حتى أُقدِم على انتزاع خطيب صديقتي الراحلة؟”
ابتسم بخبث وهو يقول:
“لكنّ ملامحه تعجبكِ.”
وبينما كنت أوقّع على بعض الأوراق، كدتُ من غير قصد أن أهز رأسي موافقة! فشعرت بالحرج.
“لا، ليس صحيحًا!”
غير أن صوتي خرج متكسّرًا، وسيدريك الذي يقرأ ما بين السطور زفر زفرة صغيرة.
“والحق أن جسد المركيز رشيق، وطوله مناسب… وفارق العمر بينكما مثالي.”
“قلتُ لك أنه ليس من ذوقي!”
لكنه تابع متجاهلًا قولي:
“أما تذكرين؟ لقد قلتِ بنفسك، مازحةً، في حفل كونتيسة رولاند:” حتى لو كان رجلًا في الثمانين، غنيًّا وذا عمر قصير، فلن أتردد في الارتباط به” . بل وزدتِ حينها قائلةً إن ذوقكِ هو الرجال الأثرياء الذين لا يعيشون طويلًا. أليس مركيز ميخائيل فاين رجلًا وسيمًا، ثريًا، ويملك فوق ذلك عمرًا مديدًا؟”
كان هذا الرجل الذي أمامي عادةً هادئًا، فإذا به اليوم ينقلب عليّ كأنما شخص آخر.
كيف لي أن أرد؟ إن نظراته الضاغطة التي تلحّ على جواب جعلتني أنفجر غاضبة.
شعرت للحظة كأنني رجل خائن عائد لبيته، يتعذّر على زوجته بغير وجه حق.
وبدأت أقدّم تبريرات لا حاجة لها:
“كانت مزحة لا أكثر! وهل يُعقل أن يُنفّذ المرء كل ما يتفوه به؟”
ابتسم ساخرًا وقال:
“لكنكِ فعلتِ. هذا المتجر الكبير، من وسّعه وبناه إن لم تكن أنتِ؟ أنتِ من يُحوِّل كل كلمة يتفوه بها إلى واقع.”
أدركت حينها أنني دلّلتُ سيدريك أكثر مما يجب، فأصبح يجرؤ على التمادي هكذا.
نعم، من الطبيعي أن يكون للإنسان ذراع يمنى وأخرى يسرى، لكن ذراعي اليمنى أخذت تتجاوز حدودها.
ابتسمتُ له بلطف قائلة:
“فلنستقدم موظفًا آخر. يبدو أن صديقنا سيدريك قد أثقلته الأعمال حتى صار يتدخل في أمور لا تعنيه.”
فتجمد وجهه، وعضّ على شفته متمتمًا:
“إن كان لي أن أحظى بمساعد آخر، فسأكون شاكرًا بالطبع.”
قلتُ على الفور:
“جيّد. اختر لي بعض الموظفين المجتهدين وضع أسماءهم في قائمة لأراجعها.”
“حسنًا. مفهوم.”
لكنّه لم يذهب إلى المحامي، بل ظل واقفًا أمامي، وكأنه ما يزال يخفي في جعبته كلامًا.
قلتُ متضايقة:
“وماذا أيضًا؟ أأنتَ اليوم بالذات قررت أن تلازمني؟ عادةً تتركني منهمكة وتغادر من فورك.”
أخرج من جيبه ظرفًا ووضعه على مكتبي.
“وصلت رسالة أخرى اليوم. الظرف بنفس اللون والنقش. وقد لاحظت أن هذا اللون والزخرفة يستعملهما آل فاين وحدهم تقريبًا. من الصعب أن تجدهما في مكان آخر.”
كان ظرفًا أزرق غامقًا، مصنوعًا من ورق مستورد نفيس.
ومن المعروف أن أسرة فاين تكاد تحتكر استيراده، فلا يكاد أحد سواهم يحصل عليه.
إنها عادة غريبة لدى النبلاء العظام؛ حبّ التميز.
حتى في ورق الرسائل البسيط، يحرصون على تمييز أنفسهم بلون أو نقش، ليُظهروا تفوقهم على الآخرين.
تساءلت في نفسي:
“أترى هذه رسالة أخرى كتبتها لورا قبل وفاتها؟”
فالخط على الظرف كان بالفعل خطها.
سألني سيدريك:
“هل ذكرتِ أمر الرسائل للماركيز اليوم في الجنازة؟”
“وهل أنا غبية؟ بالطبع أخفيت الأمر.”
“أحسنتِ.”
لكنه ظلّ واقفًا في مكانه، وكأنه يترقب شيئًا آخر.
“آه، ما الأمر الآن؟”
كان يُشير بنظراته إلى الرسالة، يطالبني صراحةً أن أفتحها أمامه.
ما أجرأه من موظف!
فقلتُ له ساخرة:
“أكان يصعب عليك أن تفتحها سرًا وتقرأها قبل أن أعود؟”
فأجاب بثبات:
“لا. ذلك سيجعل بيننا سرًّا خفيًا، وسيجعلني أخون ثقتك. وأنا أريد أن أكون دومًا رجلاً صريحًا أمينًا أمامك.”
هززت رأسي:
“كلماتك المعسولة لا تُغني شيئًا. لا تظن أنني سأرقّيَك أكثر من هذا. فأنت في وقت قصير أصبحت أنجح موظف في هذا المتجر، يا سيدريك.”
فزمّ شفتيه صامتًا.
وبدا أن في نفسه شيئًا لم يرضه، إذ ارتعشت وجنتاه تحت عينَيه الرماديتَين بغيظٍ مكتوم.
♤♧♤♧♤♧♤
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"