4
ما أن دخلتُ غرفة الاستقبال حتى تقدم الخادم وهو يحمل صينية فضية عليها أكواب شاي خزفية.
وضع الأكواب على الطاولة الصغيرة بيني وبين ميخائيل، ثم وضع طبقًا يحوي بعض المأكولات الخفيفة، وكان مملوءًا بأنواع مختلفة من المكسرات.
دفعتُ الطبق قليلًا إلى الجانب، فبادر ميخائيل بالسؤال:
“ألا تحبين مثل هذه الأشياء؟”
“لست من عشاقها. أفضل مع الشاي شيئًا حلواً، مثل الكعك أو الشوكولا.”
*لو الاهل العرب يسمعونك تقولين أنك تفضلين الحلوى على المكسرات بيعدموك*
عند سماع كلامي، انحنى الخادم قليلًا ثم أخذ طبق المكسرات وغادر الغرفة، ليبقى المكان محصورًا بيني وبين ميخائيل فقط.
“لقد مر وقت طويل.”
في الواقع، لم تتم دعوتي حتى إلى حفل خطوبته، لذا كانت آخر مرة تحدثت معه بجدية قبل ثلاث سنوات تقريبًا…
لا، ربما قبل ذلك بقليل.
آخر ما أتذكره كان حديثنا في حديقة السيدة رولاند.
بعد ذلك، لم أره إلا لمامًا في بعض حفلات الأعمال الخيرية، وكان يتجنبني عمدًا فلا أجد حتى فرصة لبدء حوار معه.
‘حينها لم أكن أعلم أن ذلك المتشرد الذي التقيته كان هو ميخائيل نفسه’.
في تلك الحفلة كان مظهره مختلفًا كليًا عن الآن، وتذكرت ذلك المشهد بطعمه المرير في فمي.
لقد صادفته هو ولورا أكثر من مرة في الطرقات أو المناسبات الاجتماعية، لكن لم أجرؤ على التحدث إليهما؛ فالمسافة بيننا كانت دائمًا بعيدة، وكانا يختفيان من المجلس فور ظهوري.
وبعدها لم يظهرا سويًا في أي مناسبة عامة.
قلت له ببرود:
“كنت أظن أنك تتعمد تجنبي طوال هذا الوقت، فغريب أن تدعوني اليوم للحديث معك. أشعر بالحرج لأنني لا أجد ما أقوله.”
“أعتذر عمّا مضى.”
ابتسمتُ بسخرية يائسة.
لقد كان يرفض اتصالاتي، ويختبئ في هذا القصر الكبير كمن يهرب من مطاردة.
شعرت حينها وكأني ارتكبت جريمة كبرى بحقهما.
ورغم ذلك، لم أذهب وراءه كثيرًا بدافع كبريائي.
جئت مرة واحدة فقط إلى هذا القصر وتم رفضي، فاكتفيت بعدها بإرسال بضع رسائل مع وسيط.
في هذه العاصمة الصغيرة، كان ميخائيل يتعمد تجاهلي وكأنني غير مرئية.
ولم يكن يعلم أن ابتعاده العلني عني جعل نساء المجتمع ينظرن إليّ بشبهة وكراهية.
فانطلقت من فمي كلمات حادة كردّ على اعتذاره:
“عن أي شيء تعتذر بالضبط؟ هل لأنك خطفت صديقتي مني وقطعت صلتي بها؟ أم لأنني ساعدتك ذات مرة عندما كنت في مأزق، فخشيت أن أنشر الأمر بين الناس فصرت تتجنبني؟ أم ربما لأنك تملِك الأراضي والعقارات التي أحتاجها لمشروعي ورفضت بيعها؟ أي هذه الثلاثة تعتذر عنها الآن؟”
“عن… كل ذلك.”
كان ميخائيل، ذاك الرجل المعتاد على الكبرياء، قد خفض رأسه أمامي.
‘والآن فقط، بعد موت لورا، يجد الجرأة ليعتذر؟’
أحسست بشك عميق في صدقه.
‘هل كان سيدريك محقًا؟ هل لم يعتذر إلا الآن بعدما بدأ مشروعي ينجح ويريد أن يستثمر معي ليجني المال؟ لو كان اعتذر من قبل، لربما تصالحتُ مع لورا قبل موتها وعدنا صديقتين كما كنا’.
انقبض قلبي.
مع أن ميخائيل لم يكن القاتل، شعرت نحوه بالكراهية وكأنه المسؤول عن موتها.
‘مهلاً… ماذا لو لم يكن انتحارًا أصلًا، بل جريمة قتل؟’
ارتعشت ذراعاي.
هذا الرجل أمامي، لا يبدو عليه الحزن على خطيبته إطلاقًا.
لا أثر للدموع، ولا حتى عينان منتفختان.
وشرطة العاصمة معروفة بضعفها، فلا يمكن الاعتماد عليهم كثيرًا.
— ذلك الرجل الذي ظننته كاملًا، قد يكون في الحقيقة شيطانًا ناقصًا مدمَّرًا.
لقد كتبت لي لورا في رسالتها البارحة كلمات غريبة… ربما كانت تريد أن تبوح لي بظلم وقع عليها؟
كم من شخص يملك وجهًا كوجه الملاك، بينما يخفي أفعال الشياطين؟
ألم تحذرني هي نفسها من خطيبها، وتطلب مني أن أحذر منه؟
بمجرد أن تسللت إليّ هذه الشكوك، بدا لي كل تصرف منه مزيفًا ومليئًا بالتصنّع.
تشابكت ذراعاي أمام صدري، وانكمش وجهي بامتعاض، حين بادر ميخائيل بالكلام:
“لدي سؤال أريد أن أطرحه.”
“؟؟؟”
“سمعتُ أنك التقيتِ بلورا صدفة في الطريق قبل وفاتها. هل لك أن تخبريني بما دار بينكما؟”
كانت نظرته حادة كالخنجر.
لدرجة أنني كدت أتوهم أنه محقق يستجوبني في مركز الشرطة.
لم يكن سؤالًا بل استجوابًا حقيقيًا، وكأن لديه ما يريد التأكد منه.
ابتلعت ريقي بصعوبة وأخذت نفسًا عميقًا لأجمع أفكاري.
‘لا، لا يمكنني قول الحقيقة كاملة. لا أعرف ما يقصد من وراء سؤاله’.
بدأ العرق يتساقط على ظهري من شدة التوتر.
“ولماذا تسألني عن ذلك؟”
“لأني لا أفهم سبب موتها. لقد منحتها كل ما أستطيع. لا أصدق أنها اختارت إنهاء حياتها هكذا.”
انزلقت دمعة واحدة على خده، لكنه قبض يده بعنف وكشر عن أسنانه.
لم أشعر أنها دمعة حزن، بل دمعة غضب ومرارة.
‘هل أخبره بما قالت لي؟ بأنها حذرتني منه؟’
لكن لساني انعقد.
لم أستطع النطق.
ارتبكت ولم أعرف ما أفعل.
وفجأة دوى صراخ الخدم من خارج الغرفة، تلاه وقع أقدام سريعة.
فُتِحَ الباب بعنف، واندفعت منه فتاة صغيرة شقراء ترتدي منامة ساتان بلون البيج، حافية القدمين.
“لورا! أين أنتِ؟ اشتقت لكِ!”
قفزت عليّ مباشرة وعانقتني بشدة.
“لورا! لقد وعدتِني أن تلعبي معي اليوم!”
قبضت على ذراعي بقوة غير متناسبة مع جسدها الصغير، وحاولت جري من الأريكة.
“ماذا… ماذا تفعلين؟”
“لقد فعلتُ كل ما طلبتِه مني. أعطني جائزتي الآن، هاه؟”
“ما الذي تقصدينه؟”
شعرت بذراعي تكاد تتحطم من قبضتها.
كيف لفتاة أقصر مني أن تكون بهذه القوة؟ حاولت مقاومة قبضتها لكن بلا جدوى، فوجدت نفسي أُجرّ بالقوة نحو الباب.
التفتُ إلى ميخائيل الذي كان يراقب بصمت، فالتقت أعيننا.
عندها فقط تقدم وفصلني عن الفتاة.
“غابرييل، هذه ليست لورا. اهدئي.”
“هاه؟ لا، إنها لورا. إنها هي.”
أمالت رأسها مستغربة، وعيناها تشعان ببريق مجنون.
فقال ميخائيل معتذرًا:
“أرجوكِ سامحيها. إنها أختي الصغرى غابرييل… إنها مريضة، وهذا ما جعلها تتصرف هكذا. أرجو أن تتفهمي.”
‘مريضة؟ ليست في جسدها… بل في عقلها!’.
***
وهكذا مُنِعَت شقيقته من الخروج.
وربما كان ماركيز فاين قد منع نشاطات لورا الاجتماعية أيضًا حتى لا يُفتضح أمرها.
إن كان صديقتي، التي كانت تعشق الحفلات واللقاءات، قد أُجبِرت على العيش محبوسة داخل القصر، فطبيعي أن تُصاب بالاكتئاب.
لكن لا، لورا التي أعرفها لم تكن ضعيفة لتتخلى عن حياتها بتلك السهولة.
وبينما كان الخدم في ارتباك، أمر ميخائيل بصرامة:
“خذوا غابرييل! ولا تدعوها تخرج من غرفتها.”
ثم التفت إليّ وخفّض صوته متوسلًا:
“أتمنى أن تُبقي هذا الأمر سرًّا.”
أُخرِجت شقيقته بالقوة، وأُغلِق باب غرفة الاستقبال بإحكام من جديد.
قلت له ببرود:
“بعد خطوبتها على حضرتكم، قلّت مرات خروج لورا بشكل ملحوظ.”
“……”
“حتى لو كانت خطيبتك، أن تسلبها حريتها في الحركة أمرٌ قاسٍ. أي امرأة اليوم تقبل أن تعيش هكذا؟”
فأجاب ميخائيل، ونبرة الضيق بادية في صوته:
“لم أتدخل يومًا في أي مكان تذهب إليه لورا. أظن أنكِ أسأتِ الفهم.”
فسألته مباشرة:
“إذن، لماذا بعد خطوبتكما قلَّ حضوركما الحفلات؟”
صديقتي كانت عاشقة للحفلات بجنون، اجتماعية ومرحة.
“لأن لورا هي من أرادت ذلك. تلك المرأة كانت شديدة التعلق والوسواس. لم تكن تطيق أن أخرج، لا هي ولا حتى أنا. لقد كان أمرًا لا يُحتمل!”
شدّ على أسنانه، وظهرت عروق زرقاء على جبهته العريضة من شدّة غضبه.
وجهه احمرّ، ولم يستطع إخفاء انفعاله.
فعلّقتُ ساخرًا:
“إذن، الشائعات عن سوء علاقتكما كانت صحيحة.”
فردّ بصرامة:
“كفي عن هذه التراهات. ما جرى بيني وبين لورا لا يعلمه أحد سوانا.”
ازداد ضيقي، فأدرتُ جسدي نحو الباب.
“بما أنني حصلت على اعتذارك، فسأغادر الآن.”
“لحظة، لم أنه بعد من حديثي.”
“لا أرى ما يمكن إضافته في محادثتنا.”
فأمسك بكتفي بعصبية.
“ماذا تفعل؟!”
“أعتذر، لكن يبدو أنكِ علمتِ أكثر مما يجب عن شقيقتي. أرجوكِ، طلبي الوحيد—”
قاطعته بحدة:
“أرفض حتى قبل أن أسمعه. أنا مشغولة، ولا وقت لديّ.”
كنت أعلم سلفًا أن طلبه لن يكون سوى إخفاء ما شاهدت.
لم أكن أنوي نشر الأمر أصلًا، فلا وقت عندي للثرثرة ولا شهوة لفضح أسرار الآخرين.
مددت يدي إلى مقبض الباب لأغادر، لكنه صرخ فجأة:
“سأبيعكِ الأرض والمبنى القريبين من متجر ريف!”
كان عرضًا مغريًا يصعب رفضه.
♤♧♤♧♤♧♤
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"