3
الموظفة في مكتب البريد، التي كانت غارقة في العمل، تعاملت معنا ببرود مبالغ فيه.
“أفهَم.”
حين تدلت كتفاَي خيبةً، أخرج سيدريك من جيبه عشر فلورًا ومدّها نحو الموظفة.
“لقد تعبتِ كثيرًا. خذي هذه، واشتري بها بعض الوجبات الخفيفة.”
“لا حاجة لي بها، أنا في حمية.”
“لماذا؟ شكلك الآن مثالي تمامًا. إن خسرتِ وزنا أكثر ستضرّين بجمالكِ.”
يبدو أن كونها امرأة جعلها ترفع رأسها أخيرًا وتنظر إلى وجه سيدريك.
ملامحه لم تكن سيئة البتة.
أنا اعتدتُ عليه بما أني أراه كل يوم، لكن النساء الأخريات يرينه مختلفًا.
فبمجرد أن غمز لها، احمرّت وجنتاها على الفور.
“شاب يعرف كيف يُشعر المرأة بالرضا، ما أروعك.”
انتهز سيدريك اللحظة وأخرج بطاقة عمله من محفظته.
“هل أخبرتكِ أني أعمل في متجر ريف؟ هذه بطاقتي. تعالي للتسوق متى شئتِ، وسأمنحكِ كل المنتجات بسعرٍ مخفض، يا آنستي الجميلة.”
“يا إلهي! متجر ريف؟ ذاك البراق في وسط المدينة؟”
توقفت الموظفة عن ختم الرسائل، وانحنت قليلًا نحونا وقد بدا الاهتمام في عينيها.
“أأنت حقًا موظف هناك؟”
“بالطبع. قريبًا سنقيم مهرجان تخفيضات ضخم، وإن جئتِ ومعكِ بطاقتي فستحصلين على أسعار أقل حتى من الآخرين.”
“أهذا حقًا جائز لي؟”
ابتسمت الموظفة ابتسامة عريضة وهي تلتقط البطاقة بسرعة البرق، أسرع من أي شخص آخر.
“حسنًا، أليس هناك شيء آخر أستطيع مساعدتكما فيه؟”
“ابتداءً من الآن، سيصل يوميًا إلى متجر ريف خطاب واحد على شكل هذا الظرف وموجّه إلى شارلوت ريف. إن صادف أن رأيتِ شخصًا يرسله أثناء عملكِ، أرجو أن تخبرينا بوقت قدومه، وشكله كذلك.”
“همم… مفهوم. سأُخبر زملائي أيضًا. اتركوا لي الظرف هذا لأتذكره.”
“شكرًا جزيلًا.”
“لكن متى تحديدًا سيكون تخفيض المتجر؟”
اقترب منها سيدريك وهمس ببضع كلمات.
عندها تلألأت في عيني الموظفة شرارة جشع.
“خاصة وأن صوف ألدفون سيُباع في هذه التخفيضات بسعرٍ أقل وبكمية محدودة. فعليكِ الإسراع!”
‘حقًا، سيدريك يعرف كيف يبيع أي شيء في أي مكان. لعل وسامته وطريقته في سحر الناس موهبة بالفطرة.’
بعد أن خرجنا من مكتب البريد، التفتُّ إلى سكرتيري وقلت:
“سيدريك، أريدك أن تمرّ على كل مكاتب البريد في العاصمة. وكرر لهم نفس الطلب الذي قلتَه لتلك الموظفة.”
“فكرة ممتازة. فقد يغيّر الوكيل مكتب البريد الذي يستخدمه من حين لآخر.”
“فلنفترق هنا إذن. سأعود أنا إلى المتجر.”
“نعم، مفهوم.”
كنتُ قد عقدت العزم على حضور جنازة لورا غدًا.
عليَّ أن أرى بعيني كيف كانت تُعامل في قصر عائلة الماركيز فاين.
***
أقيمت جنازة لورا في الملحق التابع لقصر ماركيز فاين، وكان المكان يعجّ بالناس.
ما أن وقعت عيني على التابوت حيث ترقد لورا حتى انهار قلبي من جديد.
كان غطاء التابوت المصنوع من خشب الماهوغاني مُغلقًا بإحكام.
عادةً ما تقوم العائلات بوضع مساحيق التجميل على الجثمان بعد معالجته بالمواد الكيمياوية حتى يبدو بملامحه كما كان في حياته، ليتمكن الحاضرون من إلقاء النظرة الأخيرة.
لكن كون الغطاء مغلقًا، على عكس الجنازات الأخرى، لا بد أن هذا يعني أن موتها كان فظيعًا للغاية.
‘لقد جئت إلى هنا، ومع ذلك لا أستطيع حتى رؤية صديقتي لآخر مرة’.
في الماضي، كنا أنا ولورا متعلقتين ببعضنا إلى حد أننا لم نكن نطيق الحياة دون الأخرى.
لكن ما الذي جعل علاقتنا تتباعد وتبتعد إلى هذا الحد؟
تنهدت بمرارة، وإذا بأحاديث الناس تصل إلى مسامعي:
“يقولون أن رأسها ووجهها تحطما بشدة عندما سقطت.”
“الأطباء التجميليون رفضوا جثتها مرارًا لأن ترميمها يفوق قدراتهم.”
“آه… ما الذي كان ينقصها لتفعل بنفسها هذا؟”
“ماركيز فاين مسكين حقًا.”
كلما سمعت كلماتهم كانت دموعي تنهمر من جديد، فمسحت عيني بمنديل مرارًا.
‘لو كنت أعلم أنك سترحلين بهذه السرعة، لكنت تمسكت بك رغم محاولتك إبعادي، وبقيت إلى جانبك.’
لكن وقتها، كنت مشغوله بعملي، ولورا كانت غارقة في دروس إعدادها كعروس.
وبينما كنت أبكي وأنا ألمس التابوت، شعرت بيدٍ تربت على كتفي.
“شارلوت، كفى بكاءً. سيظن الناس أنك فقدت أحد أفراد عائلتك.”
التفتّ ورائي، فإذا بها مجموعة النساء اللواتي طالما اغتبن لورا أمامي.
وقد كنت أدافع عنها بشدة، مما جعلهن يكرهنني.
قالت إحداهن ساخرة:
“ربما كنتما عائلة بالفعل. أليست لورا كما يُشاع الابنة غير الشرعية للبارون ريف جون، والد شارلوت؟”
“آه، لهذا السبب كنتما دائمًا معًا.”
ضحكن فيما بينهن بسخرية.
“لكن قربكما كان لفترة فقط. ما أن أصبحت لورا خطيبة الماركيز حتى تخلّت عنك.”
“حقًا؟”
رفعت إحداهن شعرها الأشقر المموج مندهشة وكأنها تسمع ذلك لأول مرة، مع أن الجميع يعرف.
‘مهما كرهتُنَّنِي، فليس لكنّ الحق في الزج باسم والدي الراحل… لقد تجاوزتن الحدود’.
توقف بكائي فجأة، وغلى دمي غضبًا من حديثهن.
ثم قالت الشقراء بعينين متصنعة القلق:
“شارلوت، بقاؤك هنا لن يجلب لك سوى الكلام السيئ. الآن بات واضحًا لك، أليس كذلك؟ لورا كانت امرأة قاسية بالفعل.”
“صحيح، حتى الماركيز كان يتعامل معها كأنها حجر.”
“لذا، من الأفضل أن تغادري الآن قبل أن تلتقي به.”
‘وكأنكِ أنتِ سيدة هذا البيت’.
كانت عيناها تتلألأ بالطمع، فابتسمتُ بسخرية.
‘إذن، كل ما في الأمر أنكِ ترينني منافسة’.
من الواضح أنهن أردن إخراجي سريعًا، خشية أن أصادف الماركيز ميخائيل، خاصة وأنني أشبه لورا قليلًا:
شعري بنيّ وعيناي خضراوان وهيئتي مقاربة لها.
قلت ببرود:
“يبدو أنكنّ تردن إحتكار المقعد بجوار الماركيز فاين لأنفسكن.”
فتغيرت ملامح معظمهن وكأن كلامي أصابهن في الصميم.
وفعلاً، النساء في هذه الجنازة كن أكثر عددًا من الرجال.
بل إن بعض السيدات الأكبر سنًا جئن ومعهن بناتهن الجميلات، مزينات بترف، عسى أن يظفرن باهتمام الماركيز.
“شارلوت! كيف تقولين هذا في جنازة؟”
“ما أوقحك!”
فصرخت في وجوههن:
“الوقاحة منكن أنتن! هذا مكان جنازة لورا. بدلاً من ارتداء ملابس الحداد البسيطة، جئتُن متباهيات بالمجوهرات! كم مضى على موت صديقتي؟ بضع ساعات منذ أُغلق التابوت، وأنتن تتصرفن بهذه السفاهة؟!”
لقد تزينّ بأحجار الياقوت والزمرد والياقوت الأزرق، بل وحتى الجاد الصيني النفيس، بينما فساتينهن السوداء المطرزة بالخرز تلمع وكأنهن في حفلة.
‘أين حياؤكن؟’
لورا كانت أعزّ صديقة لي، أطيب الناس وأكثرهن حنانًا.
والآن بعدما رحلت، انقلبت وجوه من كانوا يتملقونها سابقًا.
لم أستطع أن أتحمل أن يهان اسمها أمامي.
“وأما والدي فقد رحل بشرف وهو يخدم كضابط بحري في ساحة الحرب. بفضله وأمثاله تعِشن أنتن بأمان. فلا تسمحن لأنفسكن بإهانة بطل من أبطال الإمبراطورية!”
كنت أرتجف غضبًا، وفجأة خيّم الصمت على المكان.
التفتّ، فإذا بالماركيز ميخائيل فاين يقترب نحوي.
“لم أظن أنك ستأتين.”
“…”
“كنتِ قريبة من لورا فيما مضى، أليس كذلك؟”
كان واضحًا أن موت خطيبته قد أثّر فيه كثيرًا.
فقدت وسامته السابقة الكثير من بريقها خلال السنوات الثلاث الماضية.
أما النساء اللواتي خاصمنني، فأسرعن بالانسحاب مطأطئات الرؤوس.
وبدا وكأنني أنا الشريرة الآن.
ففكرت: ‘بما أنني أزعجت الجميع بالفعل، فلمَ لا أتمادى أكثر؟ على الأقل لستُ هنا لأتملق ميخائيل كما يفعلن’.
فقلت:
“سيدي الماركيز، هل حدث شيء بينك وبين لورا قبل وفاتها؟ هل تشاجرتما مثلًا؟ أنا لا أفهم سبب موتها، أريد أن أقتنع بما حدث.”
وما أن قابلت عينيه حتى شعرت بالندم.’ يا إلهي… هل تجاوزت حدودي؟ كيف أتفوه بهذا لرجل فقد خطيبته؟’.
فتنحنح بوجه متجهم وقال:
“هذا ليس مكانًا مناسبًا لمثل هذا الحديث. إن لم يكن في ذلك إزعاج، فهلا صعدتِ معي للأعلى لنتحدث على فنجان شاي؟”
أومأت بصمت وسرت خلفه.
ومن خلفي سمعت همسات النساء الممتلئة بالغيظ والسخرية:
“ما هذا؟ تحاول التقرب منه مباشرة بعد موت خطيبته؟”
“يا للخيبة… لو أنني بادرت بالحديث معه قبلها!”
“ما زال هناك وقت. هل تعتقدن أنه سيبحث عن فتاة تشبه لورا مرة أخرى؟”
“قلت لكن أن نطردها بسرعة!”
كلهن رمقنني بنظرات نارية.
‘من الأفضل أن أجعل الحديث قصيرًا وأرحل… وإلا سأُحرق بنظرات الغيرة’.
تقدمت خلف ميخائيل صاعدة الدرج.
لا يزال شعره الذهبي يلمع كالعسل، وعيناه الزرقاوان الصافيتان تسحران النساء من حوله.
ومن داخلي شعرت بمرارة شديدة، وكأنني أغضب بدلًا عن صديقتي الراحلة.
*طلع أشقر؟ مش ذوقي ابدا! *
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"