2
ارتخت يداي وسقط القلم من أصابعي.
الارتجاف الذي بدأ من أطراف يدي انتشر في جسدي كله.
“لماذا… لماذا. ما السبب بحق السماء؟ ألم يكن من المفترض أن تعيش سعيدة؟! أليست هذه قصة صعود اجتماعي؟ في الحكايات دائمًا، الأميرات يتزوجن رجالًا أثرياء ويعشن في سعادة أبدية… أليس هذا هو الختام الطبيعي؟ لماذا إذن! ما الذي كان ينقصها؟”
ربما كان ذلك من هول الصدمة، لكن وجه سيدريك بدا ضبابيًا أمامي.
أو لعل السبب هو الدموع التي غمرت عيني.
“سأقوم بإلغاء مواعيدك بعد الظهر.”
اتكأت على ظهر الكرسي، وأخفيت وجهي بكلتا يدي.
صحيح أن علاقتي بلورا فترت في السنوات الثلاث الأخيرة، لكنها مع ذلك كانت في يوم من الأيام أقرب صديقة لي.
بقيت جالسة أبكي بحرقة، غير قادرة على التصديق.
لا، هذا كذب.
أرادت فقط أن تصالحني… نعم، لورا كانت تمزح معي أحيانًا بمقالب ثقيلة…
إذن، لا بد أن الأمر ليس صحيحًا.
أو على الأقل… هكذا أردت أن أصدق.
كل من أحبهم يرحلون عني في النهاية.
ربما هي لعنة… لعنة وُضعت على عاتقي وحدي لأتحملها.
عاد سيدريك بعد أن خرج قليلًا، هذه المرة يحمل حوضًا صغيرًا فيه ماء دافئ.
“لمَ لا تتلقين جلسة تدليك للقدمين، سيدتي؟”
“…أبعده.”
“إن انهرتِ من الضغط، فسيكون ذلك كارثة. معيشة جميع موظفينا مرتبطة بك، سيدتي.”
خلع حذائي بلطف، وغمس قدمي في الماء.
كانت قبضته المعتدلة وهي تضغط على قدميّ تزيل شيئًا فشيئًا توتري.
لم أجد حتى الفرصة لأنفجر غاضبة في وجهه لغرابة الموقف.
لقد كان سيدريك دومًا يملك موهبة نادرة: معرفة ما أحتاجه بالضبط قبل أن أنطق به.
تدريجيًا بدأ جسدي المرتعش يسترخي، وذهني يعود إلى صفائه.
أن يتوقف بكائي بمجرد تدليك بسيط… أليس هذا غريبًا؟ يا لها من براعة يملكها هذا الموظف الوفي.
ربما، كان وجوده بجانبي أكثر مما أستحق.
لا أعلم إن كان يكره بقائي إلى جواره، لكني كنت أعلم أنني أحتاجه.
لم يكن أحدٌ غير سيدريك قادرًا على تهدئتي بهذا الشكل.
“يكفي. إن رآنا أحد الموظفين سينتشر كلام لا داعي له.”
“فليكن. ما المشكلة إن انتشرت بعض الشائعات؟ فنحن في النهاية عازبان، لم نقترف ذنبًا.”
تأملت وجهه وهو يركّز في تدليك قدمي.
ألا يشعر بالاشمئزاز؟ أن يلمس قدمي امرأة بلا تردد…
حتى لو كنتُ ربّة عمله، ليس سهلًا أن يُظهر أحدٌ كل هذه الطاعة بلا شكوى.
أنهى تدليكي بعناية، جفف قدمي بمنشفة ناعمة، ثم مسحها بزيت عطري.
حين تحوّل تركيزي إلى هذه التفاصيل، بدأت أهدأ قليلًا.
تفكيري استعاد شيئًا من وضوحه.
“لماذا يا ترى اختارت لورا هذا الطريق؟”
لم أكن أنتظر إجابة، لكن سيدريك أجاب على الفور:
“لست أدري. ربما كانت علاقتها بالماركيز فاين سيئة للغاية. ألم تقل لك البارحة شيئًا غريبًا قبل أن ترحل؟”
شيء غريب… تقصد تحذيرها من خطيبها.
نعم، حين قابلتها بعد زمن طويل قالت تلك الكلمات المريبة ومضت.
وقتها لم أفهم سببها.
ربما كانا في نزاع منذ البداية.
لذلك طوال السنوات الثلاث الماضية لم يظهرا معًا علنًا.
وربما لتخفي ضعفها عن الجميع قطعت علاقتها بي فجأة.
قد تكون مجرد فرضيات، لكنّها بدت منطقية.
يا لغبائها.
لو كانت تواجه صعوبة، كان يكفي أن تطلب مني المساعدة بكلمة واحدة.
لكنت غفرت لها كل ما مضى، ومددت لها يدي.
أنهى سيدريك مهمته وأعاد إليّ حذائي، ثم أخرج من جيبه ظرفًا متجعّدًا ومده إليّ.
“وصل اليوم خطاب لكِ، سيدتي. كان اسم المرسل غريبًا، فكدت أرميه، لكن خامة الورق كانت فاخرة، فاحتفظت به.”
على الظرف كُتب عنوان المتجر الكبير، وتحت ذلك: إلى صديقتي العزيزة شارلوت ليف.
أما اسم المرسل فقد وُقِّع: من رابطتك السحرية.
رابطتي السحرية…
تلك العبارة اعتادت لورا أن تستعملها كلما تحدثت عن صداقتنا.
منذ الأيام الأولى للقاءنا كانت تقول أن لقائي بها هدية من السماء.
“هذا يبدو وكأنه من لورا.”
مزّقت الظرف بسرعة، فوجدت ورقتين.
إحداهما قديمة، تبدو عليها آثار الاستعمال والأصابع، والأخرى ورقة جديدة ناصعة.
“يبدو أنها صفحة ممزقة من مذكّرات أحدهم.”
كان كلام سيدريك صحيحًا.
الورقة القديمة مهترئة، حوافها غير متساوية كأنها نُزعت بالقوة.
6 مارس 1851
“يا له من يوم صاخب في العاصمة. بينما كنت أبحث عن مكان للإقامة، أنقذت فتاة كادت تُدهس بعربة. كان اسمها شارلوت ليف. فتاة جميلة وذكية، شعرها بني اللون مثل شعري. منذ اللحظة الأولى، عرفت أنها ستكون صديقتي مدى الحياة. غدًا، سترافقني لتعرّفني على شوارع العاصمة شكرًا لإنقاذ حياتها. أريد أن أقترب منها أكثر. أيمكنني أن أنجح؟”
“هل يمكنك أن تخمّني لمن تعود هذه المذكرات؟”
“نعم. هذا كان يوم لقائي الأول بلورا.”
لكن لماذا أرسلت إليّ صفحة من مذكّراتها الآن؟ ولماذا دون أن تذكر اسمها بوضوح؟
وقفتُ صامتة أحدّق بالكلمات، بينما قال سيدريك بجفاء:
“ربما أرادت الاعتذار لتقصيرها، أو لعلها تغار من نجاحك، فأرادت أن تستعيد علاقتك بحيلة.”
لكن… حتى من دون هذه الورقة، كنت أعلم أن لورا في ذلك الوقت كانت صادقة معي.
لو لم تكن كذلك، لكنت اليوم غارقة في بؤسي.
ثم إن تفسير سيدريك لا يبدو منطقيًا.
“لورا… هل كانت لتُقدم على ذلك حقًا؟”
“أعتذر، كنت متهوّرًا.”
أشرت له أن الأمر انتهى، ثم تناولت الورقة الثانية وبدأت أقرأها.
-إن كنتِ تقرئين هذه الرسالة، فهذا يعني على الأرجح أنكِ قد سمعتِ بخبر موتي. كنتُ دائمًا أشعر بالذنب تجاهك. طوال السنوات الثلاث الماضية عشتُ مثقلة بإحساس أنني سرقتُ مكانك. لكن على الأقل أشعر ببعض الراحة الآن، لأني وحدي غصتُ في هذا الجحيم. ابتداءً من الآن ستصلك رسالة مني كل يوم. ستعرفين قريبًا لماذا لم يكن أمامي خيار سوى أن أتخذ هذا القرار. وستعرفين أيضًا أن الرجل الذي بدا لكِ كاملًا في الحقيقة لم يكن سوى شيطان ناقصا ومشوها.
أرجوكِ يا شارلوت.
حين أختفي سيقترب منك ميخائيل. لا تدعي نفسك تقع في براثنه كما وقعتُ أنا.
سأتمنى لك النجاح دائما. حتى لو لم نلتقِ لاحقًا.
ــ صديقتكِ، تلك العلاقة السحرية.
***
ناولني سيدريك منديلًا، فمسحتُ دموعي التي انسابت من جديد.
‘لورا… هل لم يكن خيار فسخ الخطوبة مطروحًا أمامكِ؟’
ما المشكلة في فسخ الخطوبة؟ بالطبع، سيثرثر الناس في المجتمع المحافظ، وسيجعلون الأمر فضيحة كبيرة.
فالفسخ أو الطلاق يُعدّ لطخة عار على المرأة فقط.
لكن إن كانت صديقتي تريد التحرر من ميخائيل وبناء استقلاليتها، لكنتُ منحتها منصبًا في المتجر دون تردد.
“لو كانت ستُرسل رسائل، لِمَ لم تُرسل دفتر يوميات كامل بدلًا من هذه الطريقة المزعجة؟ إنها تثير فضولي بلا داع. ولا يمكنني إيقاظ ميتةٍ من قبرها لأسألها.”
تذمّر سكرتيري دون أن يقرأ الجو.
“سيدريك.”
نظرتُ إليه نظرةً تعني أن يُغلق فمه.
فمد يده إلى شعره الأسود يمسحه للخلف، ثم التقط الوعاء على الأرض وخرج، ليعود بعد قليل.
‘لورا… لماذا أرسلتِ إليّ هذه الرسالة؟’
هذا يعني أنكِ كنتِ قد حسمتِ قرار الموت منذ لحظة الإرسال.
فما الذي أردتِ قوله؟ وكيف رتبتِ أن تصل رسائلكِ إليّ واحدة تلو الأخرى؟
على الأقل، قررتُ ألا أسيء الظن بصديقتي الميتة.
“سيدريك، أنتَ تعرف الشائعات أكثر مني.”
“إلى حدّ ما، نعم.”
“هل سمعتَ عن الماركيز ميخائيل فاين أي إشاعات سيئة؟”
ذكرت لورا في رسالتها أنه شيطان.
لا بد أن لديها ما لا يعرفه غيرها.
“سيدتي، هل تشكّين أن موت صديقتكِ لم يكن انتحارًا بل جريمة قتل؟”
أومأتُ برأسي.
التفاصيل ستظهر غدًا في الجنازة.
“للأسف، ذاك الرجل دقيق جدًا، حتى أن أي شائعات حوله لم تُعرف. فقط، هناك أحاديث كثيرة عن سبب تأجيل زواجه ثلاث سنوات. كما ذكرتُ سابقًا، انتشر أكثر من مرة أن العلاقة بينه وبين صديقتك لم تكن على ما يرام.”
“قلتَ أن الجنازة غدًا، أليس كذلك؟ إذن، كيف يمكن لميتة أن تُرسل رسائل؟”
“ربما أعطت المال لوكيل وطلبت منه ذلك مسبقًا.
إن أردتِ، يمكننا أن نذهب إلى مكتب البريد.
التحقق من المرسِل هو الأولوية الآن.”
“وإن كانت لورا هي التي أرسلتها بالفعل؟”
“عندها يجب أن نعثر على الوكيل. ونُجبره على تسليم كل الرسائل دفعة واحدة.”
‘حقًا، سيدريك يستحق الأجر الذي أدفعه له.’
هزّ أنفه متفاخرًا وأضاف:
“أليس من حسن حظكِ أن يكون مساعدكِ هو أنا؟ أين ستجدين موظفًا أذكى مني؟”
‘هذا صحيح، لكنه يُزعجني أحيانًا حين يسبقني في الكلام.’
باختصار، فشلنا في أول محاولة للعثور على الوكيل.
بدأنا بمكتب البريد الأقرب للمتجر، يبعد حوالي عشرين دقيقة بالـمركبة.
لكن الموظفة هناك كانت شديدة الفظاظة.
“لدينا عمل كثير، ولا أذكر من سلّم الرسائل.”
كانت مشغولة بختم الرسائل وتصنيفها، من دون أن ترفع نظرها إلينا.
“إذن، سؤال آخر فقط. هل مرت السيدة لورا سويلتن من هنا؟”
“ومن هذه؟”
“إنها خطيبة الماركيز فاين. تشبهني قليلًا. بشعر بني وعينين خضراوين. لكن شعرها أملس، وهي أطول مني بشِبر تقريبًا.”
“وكيف لي أن أتعرف على وجوه النبلاء جميعًا؟ لم أرها من قبل. أمثالهم لا يأتون إلى هنا بأنفسهم. بل يرسلون خدمهم دائمًا.”
♤♧♤♧♤♧♤
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"