1
“احذري من ميخائيل، فإنه ليس برجل صالحٍ.”
كانت تلك الكلمات التي همست بها لورا حين التقيت بها صدفة، قبل أن تصعد إلى العربة مسرعة كأنها تهرب من مطاردة أحدٍ ما.
ما الأمر يا ترى؟
وقتها ظننت أنّ صديقتي تغيّر شعورها فجأة تجاه خطيبها.
لم أستطع التفكير بغير ذلك.
فمنذ ثلاث سنوات حين خُطبت لورا إلى ميخائيل فاين، ماركيز فاين، كانت كل سيدات المجتمع يحسدنها.
حتى أنا… لم أستطع إنكار الغيرة التي ساورتني.
ما زالت أول مرة التقيت فيها ميخائيل منقوشة بوضوح في ذاكرتي، لا تُمحى.
بينما كنت أحدّق في العربة التي ابتعدت شيئًا فشيئًا، سألني مساعدي الخاص سيدريك بهدوء:
“آنستي، هل تعرفينها؟”
أجبت وأنا أبتسم بخفة:
“نعم، كانت صديقة لي.”
رفع حاجبه بدهشة:
“تستخدمون صيغة الماضي… يبدو أنكما لم تعودا صديقتين.”
“لعلّ الأمر كذلك. هي التي قطعت صلتها بي بعد خطوبتها.”
ترددت قليلًا ثم قلت:
“اسمها لورا سُويلتن.”
ارتفع حاجبا سيدريك أكثر، وعينيه الرماديتين اتسعتا بدهشة واضحة:
“أتقصدين… تلك الشريرة التي تدور حولها الشائعات؟”
“شريرة؟ ما الذي تعنيه؟”
“لا تتظاهري بالجهل يا سيدتي. يُقال أنَّ تلك المرأة دأبت على نشر الأحاديث السيئة عنكِ في كل مكان. ولا أفهم صراحةً كيف رضي ماركيز باين بخطبة امرأة مثلها.”
نعم، كنت قد سمعت مثل هذا من قبل.
بعد أن انقطعت علاقتنا تمامًا، وصلني الخبر متأخرًا: لورا التي ظننتها أوفى صديقة، كانت طوال الوقت تنشر الأكاذيب عني في أوساط المجتمع.
أرسلت إليها رسائل أطلب لقاءها، متوسلة أن توضّح، لكن لورا لم ترد حتى برسالة واحدة.
تجاهلتني كأني لم أكن موجودة.
ثم بدأت الشائعات تتكاثر.
الناس يواجهونني ويقولون بصدق:
“شارلوت، لا تثقي بلورا. إنها لا تكفّ عن تشويه سمعتك من وراء ظهرك. صدقًا، لقد خدعتني أنا أيضًا. طوال الوقت كنت أسيء الظن بكِ لأنني صدّقت كلامها.”
“أيّ كلام؟”
“ألم تعلمي؟ كانت تقول أنَكِ كسولة وقذرة، وأن من يتزوجك سيشقى. بل إنها أشاعت أنّ لكِ علاقات مع رجال كُثر!”
لكنني آنذاك كنت غافلة وساذجة، دافعت عنها بكل ما أملك من يقين:
“أعتذر، لكن لورا ليست من هذا النوع. لا بد أنكم خلطتم الأمر مع شخص آخر. سأتجاهل هذه الكلمات وكأنني لم أسمعها.”
كيف لا أثق بها؟! لقد أنقذت حياتي ذات مرة، وعشنا سنوات صديقتين مقربتين.
لم يخطر ببالي أنّها قد تختلق مثل تلك الأباطيل.
كنت أظن أن سيدات المجتمع حسدنها على خطبتها المفاجئة لماركيز فاين بعد أن كانت ابنة بارون صغير.
آه… كم كنت ساذجة.
أما الآن، فالحقيقة باتت غامضة.
لا أعلم ما إذا كانت صديقتي القديمة ضحية أم أنها فعلًا تلك “الشريرة” التي يصفونها بها.
لذلك غيرت الموضوع أمام سيدريك متعمدة:
“بالمناسبة، ذكرتني بحديثك عن ماركيز فاين… هل راسلته بالأمس؟ ماذا قال؟”
أجابني بفتور:
“بالطبع، رفض بيع الأرض رفضًا قاطعًا.”
تمتمت بضيق:
“تبا… عنيد بشكل مقيت.”
كنت بحاجة إلى قطعة الأرض تلك لأوسّع متجري الكبير.
استحوذت تقريبًا على كل الأراضي المحيطة، لكن الأرض الأهم كانت بيد أحد أغنى رجال الإمبراطورية، ميخائيل باين.
أضاف سيدريك:
“لكن الكونت دوغلاس أبدى اهتمامًا بالاستثمار، وطلب أن نتواصل معه.”
ابتسمت:
” إذن راسله لترتيب عشاءٍ معنا الليلة.”
عقد سيدريك حاجبيه كأنه لم يرضَ عن الفكرة:
“ذلك الرجل ماكر وخبيث. الأفضل أن أحضر معك، لن أتركك وحدك معه.”
“ألا تبالغ؟”
“لا سيدتي. يُقال أن الخمر تُذهِب رشده، وقد طلق زوجته حديثًا. سيحاول بلا شك استغلال الاستثمار ليطلب منك لقاءات خاصة.”
ضحكت مازحة:
“إذن عليّ استخدام سلاح فتنتي، أُغويه بجمالي وأحصل على أمواله!”
لكن وجه سيدريك تصلّب، وصار جادًا فجأة.
ارتبكت أمام نظراته الباردة فبادرت بالضحك:
“كنت أمزح فقط! صدقني، ذلك الرجل لا يعجبني إطلاقًا. وهل تظن أنني في وقت يسمح لي بملاحقة الرجال؟ لا يا سيدريك، طموحي أهم بكثير. ما زال أمامي طريق طويل قبل أن يكبر متجري بالحجم الذي أحلم به.”
ابتسم أخيرًا وقال بارتياح:
” يا للراحة.”
نجاحي في السوق بات حديث الناس.
كبار النبلاء أنفسهم صاروا يتسابقون لعرض الاستثمار.
متجري ريف كان يكبر يومًا بعد يوم.
سألني سيدريك:
“هل رأيتِ أحلامًا مبشرة مؤخرًا؟”
“لا. لكن لو ظهر مركيز فاين في حلمي وقال إنه سيبيع أرضه لي، فسيكون أجمل حلم!”
ضحكنا معًا.
لطالما كانت أحلامي تتحقق بدرجة مدهشة.
حتى سيدريك بات يدرك ذلك.
ربما يسمونه أحلامًا تنبؤية.
منذ سنوات كنت أملك مجرد متجر أقمشة صغير ورثته عن والدي، لكن حلمًا واحدًا قادني لبناء متجر ريف الكبير الذي ملأ الإمبراطورية صدى.
ما زلت أتذكر الحلم بوضوح: قصر بديع، سقفه يتدلى منه ثريا ضخمة مطعمة بالذهب والكريستال.
في أرجائه فسيحة، يتجول الناس بين أقسام شتى يشترون، يتذوقون الطعام، ويشربون القهوة في مقاهٍ أنيقة.
مكان يجمع كل ما تتمنى المرأة أن تقتنيه أو تعيشه.
منذ ذلك اليوم، صار الحلم واقعيا.
صحيح أنني لم أصرّح لأحد أن مصدر فكرتي كان حلمًا، بل كنت أقول: “أردت فقط أسر قلوب النساء.”
والحقيقة أن استثماري الأول جاء من الكونتيسة رولاند التي آمنت بي ومنحتني رأس المال.
ومع توسّع البناء وفرض نظام الأسعار الثابتة، بدأت الزبونات يتهافتن.
ففي حين كان باقي التجار يرهقون النساء بالمساومة، فيما وجدن عندي الراحة والثقة.
و بينما نتحدث، أشار سيدريك إلى الزجاج الشفاف وقال مبتسمًا:
“انظري، زبونة جديدة استسلمت لسحر واجهتنا.”
امرأة شابة كانت تحدّق بشغف في المعروض خلف الواجهة، ثم دخلت المتجر بخطوات مسحورة.
ابتسمتُ، فقد كان تصميم تلك الواجهات جزءًا آخر من أحلامي.
اقتربت وأشرت إلى حقيبة معروضة:
“لا يعجبني الترتيب. غيّروه. تلك الحقيبة تحديدًا يجب أن تكون بارزة أكثر، استبدلوها بأخرى حمراء جلدية لافتة للنظر.”
“أمرٌ مفهوم، سيدتي.”
دوّن سيدريك ملاحظتي بدقة في دفتره كعادته.
تنهدت فجأة وقلت:
“لا بد أن أزور ماركيز فاين شخصيًا، بلا موعد هذه المرة.”
ضحك ساخرًا:
“وإذا طردك مجددًا؟”
آه، صحيح.
قبل عامين تقريبًا طردني بالفعل شر طردة.
وسيدريك كان شاهدًا على ذلك المشهد المحرج.
شعرت بالخجل فغيّرت الحديث بحدة:
“كل شيء مرفوض… أشعر بالضيق حقًا!”
ابتسم ساخرًا:
” أظن الجوع بدأ يسيطر عليك. ما رأيك أن نتناول الغداء مع الموظفين في المطعم السفلي؟”
“ما القائمة اليوم؟”
“دجاج مطهو على البخار مع سمك.”
*هو في حد بياكل دجاج مع سمك؟ بروتين مع بروتين؟*
تأففت:
“طعام بلا طعم!”
ابتسم ساخرًا:
“لو سمعك الموظفون لانتقدوك.”
تأملت قليلًا ثم قلت:
“صحيح… ربما حان الوقت لأرفع ميزانية وجباتهم. كم سنحتاج تقريبًا؟”
أجاب بابتسامة هادئة، كأنه يقول: “لا يُمكن لأحد إيقافك.”
***
هل كان السبب لقائي بلورا بعد زمن طويل؟
تلك الليلة رأيت حلمًا غريبًا. حلما واضحا جدا، حتى أنه أعطاني شعورًا مشؤومًا.
“شكرًا لحضورك جنازة لورا.”
كان ميخائيل، وقد هزل جسده بشدّة، واقفًا في حلمي ليعرض عليّ صفقة.
تفاصيل العقد بدت ضبابية، فلم أستطع قراءتها بوضوح.
“إن أوفيتَ بهذا الوعد، فسأعطيك الأرض.”
ما هو ذلك الوعد؟
وربما لأن الحلم كان حلمًا، فقد تغيّر المشهد أمام عيني فجأة. ظهرت لورا التي قابلتها بالأمس، تنزف دمًا يتساقط قطرات غزيرة، أمسكت بتلابيبي وصرخت بي في غيظٍ حارق:
“احذري من خطيبي! إنه ليس رجلًا صالحًا!”
كانت عيناها محمرّتين بحق وقد انفرج شعرها في فوضى، نظرتها ملتهبة بالدموع والجنون.
جنازة؟ ما الذي تتحدثين عنه؟ ولماذا تظهرين أمامي بهذا الشكل؟
“مـ.. ما هذا بحق!”
حين أفقت مذعورة، كان جسدي مبللًا بالعرق، وذهني ضبابيًا، حتى أنني لم أعد أستطيع التمييز بين الحلم والواقع.
للحظة، لم أعد أعرف أين أنا.
هل هو مجرد حلم فارغ لا معنى له؟
لكن… أيمكن أن تكون لورا قد ماتت بالفعل؟
ظللت مشغولة التفكير حتى طلوع النهار.
هل أذهب إلى قصر آل فاين دون اتصال مسبق؟ لكنهم رفضوا مقابلتي قبل عامين، فهل سيفتحون لي أبوابهم الآن؟
دخلت إلى عملي في المتجر الكبير بقلق يثقل صدري.
وحين جاء وقت الظهيرة تقريبًا، فُتح باب مكتبي فجأة، وإذا بسيدريك يقتحم الغرفة بلا استئذان.
“سيدتي! لقد وصل خبر من قصر فاين—غدًا سيُقام العزاء. وقد طلبوا حضورك شخصيًا.”
مستحيل… أليس كذلك؟
حاولت أن أتماسك رغم ارتجاف صوتي وأنا أسأله:
“من الذي توفي؟”
فكرتُ أن تكون شقيقة الماركيز الوحيدة، فقد كان شائعًا أن صحتها واهنة. أكان اسمها غابرييل؟ ربما انتهى بها الأمر هكذا… بينما كنت أستغرق في هذا الظن، جاء صوت سيدريك يقطع أفكاري:
“إنها تلك الشريرة! آه… أعني، السيدة لورا، التي كنتِ تصرين على اعتبارها صديقتك… لقد توفيت.”
تجمّدت مكاني، وبدأ كلامه يتردد في أذني كأزيز بعيد وغائم.
“يقول رجال الشرطة إنها ألقت بنفسها من أعلى قصر آل فاين.”
لقد صدق حدسي مرة أخرى… كان حلمي رؤية للمستقبل.
♤♧♤♧♤♧♤
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"