005
خرجتُ من حديقة غريزيل وسرتُ لما يقارب شارعين.
كان هناك متجر بقالة في شارع إندار حيث أعيش، لكن المتجر الذي كنتُ متجهةً إليه أرخص بكثير، وتشكيلته من السلع أكثر تنوعًا.
بسبب انشغالي في الآونة الأخيرة، لم أتمكن من تعبئة مخزون المؤن، لذا كان عليّ شراء أشياء أكثر من المعتاد.
وصلتُ تمامًا مع موعد افتتاح المتجر، فكان المكان شبه خالٍ من الداخل.
بدأتُ أملأ سلّة التسوق ببطء، شيئًا فشيئًا.
“المجموع: 1 غولد و47 سيلفرًا.”
“كل هذا؟”
صحيح أنني أخذت علبة بيض بسعر 2 سيلفر، وبعض البطاطس والطماطم لتحضير الحساء، بالإضافة إلى أشياء أخرى… لكني متأكدة أنني لم أشترِ شيئًا باهظ الثمن!
ومع ذلك، حين أجريتُ حسابًا ذهنيًا سريعًا لما اشتريته، تبيّن أن المبلغ الإجمالي—1 غولد و47 سيلفرًا—كان دقيقًا تمامًا.
“وما زلتُ أجد صعوبة في تقبّل أن شراء عشرة أشياء بسعر عشر عملات من فئة 10 سيلفر يساوي غولدًا واحدًا…”
وبما أن مهنتي تتعلّق بالأرقام، شعرتُ بالإحباط أكثر.
“هيا، لم يمضِ سوى بضع سنوات منذ أن كان سعر البيض 1 سيلفر فقط.”
دفعتُ الحساب وأنا أتنهد بحسرة؛ فأسعار المواد الغذائية تبدو وكأنها ترتفع في كل مرة أذهب فيها للتسوّق، ثم خرجتُ من المتجر.
“الآن بعد أن انتهت الحرب، لا بد أن أسعار المواد الغذائية ستنخفض… أليس كذلك؟”
وبينما كنتُ أجرجر قدميّ عائدة إلى البيت أحمل سلّة التسوّق الثقيلة، شعرتُ بوخزٍ مفاجئ في خديّ بلا سبب واضح.
“ما هذا؟”
كان شعورًا مزعجًا لا يمكن تجاهله.
أنزلتُ السلّة ووقفتُ في مكاني، أحكّ خديّ.
ثم، وبشكل اعتيادي، أخذت ألتفت حولي—فالتقت عيناي بعينين ذهبيتين بدتا وكأنهما صُبّتا من ذهبٍ نقي.
“واو…”
انفلتت شهقة إعجاب من فمي قبل أن أتمكن من تداركها.
“مرة أخرى؟”
هل العاصمة صغيرة إلى هذه الدرجة؟
“أم أن هذا يحدث لأنني دعوتُ أن أرى إيفريت روهاس كثيرًا حتى أُنعش بصري بجماله؟”
ربما السبب في أنني أراه كثيرًا هو أنه لا يوجد أحد آخر في العاصمة بمثل وسامته.
أنا وإيفريت روهاس توقفنا فجأة عندما تعرفنا على بعضنا.
إلى جانب متجر البقالة، في المبنى الثاني، كان هناك متجر قديم للكتب النادرة—ويبدو أن إيفريت خرج لتوّه منه.
لم نصبح على معرفة وثيقة تتيح لنا تبادل التحية، فقط صادف أن التقينا عدة مرات.
“ههه…”
ضحكتُ ضحكة خفيفة مرتبكة، ثم رفعت سلّة التسوق التي كنتُ قد وضعتها للحظة.
وبعدها، وكأنني لم أرَ إيفريت روهاس، مشيتُ بخطى واثقة نحو المنزل.
“لم تعجبني نظرته الغريبة إليّ في المرة السابقة.”
شعرت بنظراتٍ تلاحقني من الخلف—وربما كانت نظراته—لكنني لم ألتفت لأتأكد.
“هذه المرة… أنا من تجاهله أولًا!”
وكانت ابتسامتي المرتفعة إلى أقصى حد تعكس شعورًا صغيرًا بالانتصار.
أما التفكير في تلك المصادفات المتكررة، فقد تلاشى بينما كنتُ أفرغ المشتريات في الخزائن الفارغة.
ولم يتبقَّ في ذهني سوى فكرة واحدة: أن أنهي التنظيف المتراكم بسرعة… ثم أستلقي للراحة.
* * *
وقف إدوين وقتًا غير قصير، يراقب خيال لينا وهو يتضاءل شيئًا فشيئًا، حتى اختفى تمامًا عن ناظريه.
ظل واقفًا في مكانه، كأنّه بحّارٌ سُحر بأغنية حورية البحر، ولم يتحرك مجددًا إلا بعد مرور عدة دقائق.
كان قد قرر العودة إلى القصر الإمبراطوري، لكنه غيّر وجهته فجأة وتوجه إلى مقهى صغير يلفت الأنظار بنوافذه الزجاجية الممتدة من الأرض حتى السقف.
“أهلاً بقدومك.”
رنّ جرس صغير بنغمة ناعمة عند فتح الباب، وخرج رجل يرتدي مئزرًا بنيًا لاستقبال إدوين.
وكان شابًا ذا شعرٍ بنيٍّ بلون أشعة الشمس، وعينين خضراوين دافئتين، وابتسامة هادئة، تتناغم مع أجواء المقهى الأنيقة والهادئة.
“هممم.”
أجاب إدوين ببرود، وجلس بإهمال على أقرب طاولة وقعت عليها عيناه.
راح الرجل يدور قلقًا حول الإمبراطور الذي تمدّد بلا اكتراث على الكرسي.
“بالمناسبة، لم نكمل بعد جمع البيانات بشأن دوق كاميلوت.”
“لم آتِ بشأن دوق كاميلوت.”
حينها فقط، تنفّس كايل بارتياح — صديق إدوين المقرّب منذ زمن طويل، ورئيس وحدة الاستخبارات السرية التابعة للإمبراطور.
“لكنني، مع ذلك، أريد التقرير خلال بضعة أيام.”
أجرى كايل حسابًا سريعًا لما تبقّى من المهامّ، ثم قال:
“أحتاج إلى أربعة أيام. سأعود إلى القصر فور الانتهاء منه.”
أومأ إدوين برأسه إيماءة خفيفة.
وبعد أن خيّم الصمت عليهما لفترة وجيزة، تحدّث إدوين مجددًا.
“كايل.”
“نعم، جلالتك؟”
“هل تؤمن بالصدف؟”
“الصدف؟”
ردّ كايل متفاجئًا، غير قادر على استيعاب مغزى السؤال.
“نعم، كأن تلتقي بامرأة بعينها صدفةً، مرارًا وتكرارًا.”
حوّل إدوين نظره من الحائط إلى كايل.
“أتظنها ربما قاتلة مأجورة أو جاسوسة؟”
غلب التوتّر على صوت كايل، وهو يتساءل إن كان هناك من تسلل دون أن ينتبه إليه.
“لا أدري…”
تردد إدوين للحظة، ثم تابع حديثه:
“من تصرفاتها، لا يبدو عليها ذلك.”
كانت ذراعها لينة، وكأنها لا تحمل من العضلات إلا ما يكفي للبقاء على قيد الحياة.
“ما إن أمسكتُ بمعصمها حتى أيقنت أنها لا تنوي الهجوم.”
لكنها بدت أيضًا ساذجة، تلمسه دون تردّد، وتحدّق في وجهه بثبات. كانت تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ جروًا صغيرًا، أبيضَ ونظيفًا، مدللًا ومحبوبًا من سيّدة أرستقراطية.
“ومع ذلك، في كل مرة أغادر فيها القصر، ألتقي بها.”
بدأ إدوين بسرد سلسلة اللقاءات “الصدفية” مع لينا.
“أول مرة كانت يوم دخلتُ العاصمة مبكرًا من أجل ذكرى وفاة بليس.”
كان قد مرّ ثمانية أعوام على آخر لقاء له بشقيقته الوحيدة، ولم يرغب في زيارتها خالي الوفاض.
وخلال بحثه عن زهرة الفريزيا التي كانت تحبها، التقاها للمرة الأولى.
ثم اشترى لعبة ظنّ أن فتاة صغيرة قد تعجب بها، وتوجّه إلى حديقة غريزيل، حيث ترقد بليس — وهناك، حدث اللقاء الثاني.
“أما الثالث، فكان في آخر مرة جئتُ فيها إلى هنا قبل أن أعود إلى القصر. لا أظن أنها رأتني حينها، لكن يُفترض أن يُحتسب، أليس كذلك؟”
ركبت عربة عامة بوجه شاحب واختفت بسرعة، ما جعل المشهد غامضًا قليلًا، لكنه لا يزال يستحق الذكر.
حتى بعد تلك المصادفة الثالثة، لم يفكّر إدوين سوى بأن العاصمة أصغر مما يبدو.
“لكنني اليوم التقيت بها مرتين.”
ليُصبح عدد اللقاءات خمسة.
وذلك كثير جدًا على أن يُعدّ مجرد صدفة.
“أجل، هذا يثير الريبة فعلًا.” قال كايل، وهو يربّت على ذقنه بتفكير.
“علينا أن نتحقّق: هل هذه الصدف من مشيئة القدر… أم من تدبير البشر؟”
وعند سماع أمر الإمبراطور، انحنى كايل باحترام.
“كما تأمر، يا جلالتك.”
وبينما ذهب كايل لكتابة رسالة إلى عملائه السريين، دخل المقهى عدد قليل من الزبائن.
وكما يليق بشخص يأخذ عمله الجانبي بجدية، استقبلهم كايل بابتسامة دافئة، متقمّصًا دور النادل البشوش بإخلاصٍ وأناقة.
ما إن استدار كايل بعد أن أخذ الطلب، حتى انطلقت الفتيات الصغيرات — وهن بالكاد تجاوزن سنّ المراهقة — يصرخن ضاحكات، ويتبادلن الهمسات الحماسية بالقرب من آذان بعضهنّ البعض.
كان هذا المقهى معروفًا بمالكه اللطيف وقهوته اللذيذة.
“ها هي مشروباتكم.”
ابتسم كايل للزبائن ابتسامةً أكثر حلاوةً، كأنه مجردُ صاحبِ مقهى ودودٍ، لا أكثر.
“ذلك الوغد… سمعه حاد، ومع ذلك يتظاهر بأنه لم يسمع.”
سخر إدوين في نفسه من الابتسامة المتكلفة التي اعتادها من صديقه القديم.
وبعد أن قدّم القهوة وقطع الكيك الفاخر للزبائن، التفت كايل إلى إدوين، وعرض عليه كوبًا هو الآخر.
“قهوة؟ لا شكرًا. عندك ويسكي؟”
رفض إدوين القهوة دون تفكير، وكأن الأمر محسومٌ سلفًا.
“نحن في النهاية مقهى… حتى إشعار آخر.”
تمتم كايل باستياءٍ خفيفٍ.
“نسيت أن تضيف في المقدمة: ‘القهوة المقززة’.”
وأشار إدوين بذقنه نحو طاولة جلس عندها بعض الزبائن، الذين بدؤوا لتوّهم يتذوقون القهوة، وبدت على وجوههم علامات النفور.
“لقد تحسّنت. لم تعد مقززة تمامًا بعد الآن.”
تذمّر كايل مدافعًا، وكأنه يتمسّك بآخر ذرة من كرامته.
لكن إدوين لم يُبدِ أي تعاطف. واصل السخرية بابتسامةٍ خفيفة ارتسمت على طرف شفتيه.
“كنت أعتقد أن القهوة كلها بطبيعتها طعمها كمياه الصرف الصحي.”
لم يمضِ سوى عشر سنوات تقريبًا على استيراد القهوة لأول مرة من القارة الجنوبية.
في البداية، كانت مشروبًا غريبًا يستهويه بعض المغرمين بالثقافات الأجنبية. ولم يبدأ انتشارها في العاصمة إلا مؤخرًا، حين بدأت بعض المقاهي تظهر في شوارعها.
“مهما كانت الإمبراطورية متأخرة في ثقافة القهوة مقارنة بالجنوب، فإن هذا المستوى لا يُغتفر.”
وعلى الرغم من أن مظهر كايل يوحي بأنه وُلد تحت نجم بارستا متألّق، غير أنه كان كارثيًا بكل المقاييس.
وقبل أن يفتتح هذا المقهى، أمضى عدة أشهر يتعلّم على يد بارستا¹ مهاجر من القارة الجنوبية، لكن مهاراته بالكاد تطوّرت.
[¹ الشرح: كلمة “بارِستا” (Barista) هي كلمة إيطالية الأصل، وتُستخدم في الوقت الحاضر في العديد من اللغات، منها العربية، للدلالة على الشخص المختص في إعداد وتقديم القهوة، خصوصًا في المقاهي.]
“لو أنك فتحت حانة مثل غيرك، لوفّرت على نفسك كل هذا العناء.”
قالها إدوين بصوت خافت، هامسًا كأنه يشاركه سرًا.
كايل، الذي بدت على وجهه ملامح البكاء، تمتم قائلًا: “ليست بهذا السوء…”
“لكن، على الأقل من ناحية عنصر المفاجأة، كان خيارًا جيدًا.”
حاول إدوين مواساة صديقه الوحيد قبل أن يغضب تمامًا.
“وعدم وجود زبائن عابرين في المكان؟ كله بفضل قهوتك.”
لكن كلماته، على عكس نواياه، لم تُصلِح شيئًا.
ازداد بريق الدموع في عيني كايل، الذي كان يأمل في نجاح باهر لمشروعه الجانبي.
“أنا حقًا تحسّنت، أقسم بذلك.”
وبكل ما يحمله من مشاعر جريحة، انسحب كايل متوعّدًا بإثبات مهاراته بتحضير قهوة أفضل.
أما إدوين، فتابع صديقه المغادر بنظرةٍ ماكرة، وضحكةِ طفلٍ مشاكس.
وقد استعدّ نفسيًا لتذوّق كوب آخر من القهوة المريعة، رغم أن المكونات التي يستخدمها كايل كانت عالية الجودة بلا شك.
* * *
بعد استراحةٍ ممتعةٍ دامت ثلاثة أيام، عدتُ إلى الروتين المعتاد؛ عدتُ من جديد، كأداةٍ صغيرةٍ داخل عجلةٍ لا تتوقف، أدور وأدور.
“على الأقل، إذا أنهيت تقرير وزارة المالية اليوم، فسيكون وكأنني اجتزتُ جبلًا.”
في وقتٍ مبكرٍ من الصباح، دخل رئيس وزارة المالية إلى قاعة الاجتماعات بوجهٍ متجهّم، حاملاً كومةً من الوثائق التي بدت وكأن أرواح الموظفين المرهقين مرصوصة فوقها كزينةٍ محزنة.
أما بقية الموظفين، فراحوا يردّدون دعواتٍ صامتة بأن تمرّ الأمور بسلام.
“رجاءً، ليمرّ الاجتماع بسلام! لا أريد أن أضطر للعمل في نهاية هذا الأسبوع!”
لكن دعواتهم لم تُستجب.
“سنقوم باعتقال المجرم الذي ساعد دوق كاميلوت في تلقي الرشاوى وتكوين أموالٍ سرّية!”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
ترجمة : أوهانا
الانستا : han__a505
الواتباد : han__a505
التعليقات لهذا الفصل "005"