احتضنت ديارين جسد هالت المتهالك ونادت الناس من جديد بصوت مرتفع:
“أرأيتم؟ لقد أمكننا الحديث معه! لم يفقدوا عقولهم بالكامل. الأمر مجرد خدعة جعلتهم هكذا مؤقتًا. لذا تراجعوا جميعًا.”
نظر الناس إلى بعضهم في حيرة.
صحيح أن أوامر إندين كانت سابقة، لكن أوامر “ابن الحاكم” لا يمكن تجاهلها أيضًا.
“لكن ماذا لو صاروا خطرين مجددًا…؟”
تردد الناس وتراجعوا.
فالكبار من علية القوم يمكنهم أن يختبئوا في أماكن آمنة، أما الجنود والحرس فهم أول من يندفع بجسده ليصد الخطر إن وقع شيء.
“أنا أعرف أكثر من أي أحد كم هم خطرون. أنا التي خضت الحرب، ومن لم يخرج إلى ساحة المعركة فليصمت.”
تفاخرَت ديارين بخبرتها القتالية، وهو من أكثر ما يثير الغيظ عند السامعين.
لكن لم يجد الناس ما يردون به، فسكتوا.
مع ذلك، لم يبدُ أنهم سيطيعون بسهولة.
فمهما كان ابن الحاكم مساويًا للإمبراطور في المكانة، فإن الملك الفعلي كان الإمبراطور.
والآن بعد غياب الإمبراطور، كان إندين، ومن بعده سيريس، هما الأعلى مقامًا.
فإن لم يصدر سيريس أمرًا صريحًا، تبقى أوامر إندين هي السائدة.
غير أن الظرف الاستثنائي زعزع هذه الأولوية.
“أنا أمرت بالقتل! وإن تركناهم فعاد الخطر، فمن سيتحمل المسؤولية؟ عندها سنُعاقب جميعًا بالإعدام!”
صرخ إندين غاضبًا.
فارتبك الحرس ينظرون بينه وبين ديارين.
وفي الأثناء، كان أفراد الكتيبة الثامنة ما زالوا يتلوّون على الأرض في ألم.
“أغغغ…”
“كغغغ…!”
كوحوش جريحة لا تزال تهدد بالانقضاض.
خوف ينهش الصدور، وتضارب في الأوامر.
“اقتلوهم! يجب أن يُقتَلوا!”
صرخ ميريان الكاهن الأعظم متأخرًا.
فبزوال الكتيبة الثامنة ستُدفن الأدلة معها.
كان يؤكد أنه لم يفعل إلا خيرًا إنسانيًا لأجلهم، لكن تركهم أحياءً صار خطرًا عليه.
تضيّقت عينا ديارين وقالت بحدة:
“أتريدون الآن أن تُصفّوا من قيل إنهم قتلة جلالة الإمبراطور؟”
هي لم تكن راضية عن إلصاق هذه التهمة بهم، إذ كانوا مجرد ضحايا استُغلوا. لكن لم يكن أمامها إلا هذه الحيلة لإنقاذهم.
“من يقتل أحد أفراد الكتيبة الثامنة الآن، فهو شريك في الخيانة!”
“!”
ارتعشت سيوف الحرس عند سماع كلمة “الخيانة”.
فمن يتجرأ أن يتحرك بعد هذا الاتهام؟
“هؤلاء شهود مهمون، وكل من يحاول قتلهم الآن إنما يريد إخفاء الأدلة.”
أكملت ديارين ضربتها الأخيرة.
ولم يكن الحساب معقدًا.
الجميع رأى أنهم لم يعودوا قادرين على النهوض.
وقتل خصم عاجز كهذا كان أقرب إلى سحق دودة لا أكثر. لكنهم لم يكونوا مجرد أعداء ساقطين، بل شهودًا على مقتل الإمبراطور، ورفاق ولي العهد الأول، وأبطالًا قاتلوا في الحرب ضد سورفين.
“أح، أحضروا الحبال! اربطوهم!”
في النهاية، مالت الكفة لصالح ولي العهد الأول.
وتراجع إندين.
شعر أن الهواء نفسه يميل ضده، فطحن أسنانه غيظًا.
مرة أخرى، عليه أن يرى جهده يذهب ليقطف ثماره غيره بلا مقابل.
اشتعل صدره غضبًا.
وانهارت أعمدة القصر الإمبراطوري المحترق محدثة دويًا صاخبًا.
تلون الليل الأسود بالحمرة، والأرض احمرت ببقع دماء لا تُحصى.
لقد كانت ليلة حمراء.
✦✦✦
“مولاي ولي العهد الثاني… لا أجد ما أعزيكم به.”
اقترب الدوق جيرون من إندين.
لكن إندين لم يلتفت، بل ظل يحدق في نعشي الإمبراطور والإمبراطورة.
كان قد استطاعوا بالكاد جمع جثمان الإمبراطورة، أما جثمان الإمبراطور فصار كتلة فحم سوداء لا تكاد تُعرف.
لم يُدرَ أهو جثة إمبراطور محترقة، أم جثة خنزير بري أُحضر من غابة أكلتها النيران.
“هل نقول إنه لم يمت بل فُقد؟ أم نقول إنه يتلقى العلاج فلا يمكنه الظهور؟ أم نقول إن ابن حاكم آخر قد ظهر وأنقذه هذه المرة؟”
تمتم إندين.
كان كلام الدوق جيرون عزاءً شكليًا.
أما الأهم فكان ما سيأتي بعدها.
لقد انهارت كل الخطط.
والأمر لم يعد خطر خسارة العرش فحسب، بل ربما أن يُتهم هو نفسه بتدبير اغتيال الإمبراطور.
(لو أن الكهنة لزموا معابدهم مثلما يليق بهم…)
لكن شوكة في طريقه غدت غابة من الأشواك تحيطه من كل صوب، حتى صار أي تحرك منه ينزف دمًا.
“كل الخيارات الثلاثة ليست سيئة.”
قال الدوق جيرون ببرود، وهو ينظر إلى جثمان ابنته الميتة من دون دمعة واحدة.
“لكن الأفضل يبقى الخطة الأولى.”
“الخطة الأولى؟ وأي خطة تلك؟”
“الكتيبة الثامنة التي جلبها ولي العهد الأول وسورفين فقدت صوابها تحت تأثير ابن الحاكم، فهاجت وقتلت الإمبراطور وأحرقت القصر. وفي خضم ذلك، ماتت جلالتها الإمبراطورة بطريقة مأساوية.”
سرد الدوق كأنه يجيب عن سؤال امتحان.
“وفي تلك الفوضى يُقتَل الكاهن الأعظم ميريان، وابن الحاكم، وحتى ولي العهد الأول…”
التفت إليه إندين بنظرة جانبية.
فاكتفى الدوق بابتسامة باهتة من جانب شفتيه.
“…لو أن ذلك قد حدث، لكانت خطة مثالية. شرط ألا أكون أنا أحد الضحايا.”
“……”
تم وضع جثماني الإمبراطور وزوجته في قاعةٍ جنائزية أُعدّت داخل المعبد.
قد يكون هناك من يتنصت على الحديث في مكانٍ ما.
لكن دوق جيرون بدا وكأن الأمر لا يعنيه، وظلّ هادئًا مطمئنًا.
ابتسامة إندين جاءت كإجابة على إظهار نيّة الدوق في أن يتوقفوا عن هذه المهاترات العقيمة حول الذرائع والمبررات.
كان دوق جيرون يعلم أن إندين يخطط لقتله أيضًا. ومع ذلك، فإن قوله لتلك الكلمات يعني أنّه مستعد لأن يخضع له وينحني تحته.
“الخطة قد تسلك أحيانًا طريقًا طويلًا ملتويًا. لكن ما دامت تصل إلى النتيجة، فهل يهم كيف كان المسار؟”
ما دام دوق جيرون يتحدث هكذا، فلم يكن لدى إندين أي سبب لرفضه.
فهو بحاجة إلى حليف في الوقت الراهن.
بموت الإمبراطور، الذي كان يمثل نقطة ارتكاز، فإن النبلاء سيتخبطون لبعض الوقت وهم يفكرون إلى أي جانب ينضمون.
بالطبع، لم تكن لدى إندين نية لبدء انقسام جديد بينهم.
الواقع الذي صاروا إليه الآن جعل إطالة الوقت أمرًا ضارًا به.
“رغم أنّ والدتي قد صار إليها ما صار، لكن في عروقي يجري دم آل جيرون أيضًا. العائلة ليست شيئًا يسهل الانفصال عنه.”
“لا يسعني إلا أن أشكرك على قولك هذا، يا صاحب السمو الأمير الثاني.”
“لا حاجة بيننا لمثل هذه الألقاب البعيدة. لم يبق لنا إلا القليل من أفراد العائلة الآن. نادِني إندين فقط، يا جدي.”
ابتسم إندين بلطف.
وبادل دوق جيرون نظره بنظرة حانية كأنه جدٌّ حقيقي.
لكن، لا عدو أبديّ ولا حليف أبديّ.
وأين عساه يذهب الدوق تاركًا إندين؟ هل سيهز ذيله ويلتحق بسيريس؟ ذلك أمر لا يُعقل.
“إذن، فليكن، إندين.”
كان موت فينليا خسارةً مؤسفة، لكنه أمرٌ مضى.
ولعلّه كان أفضل هكذا بالنسبة لدوق جيرون، إذ إنها رحلت مع الإمبراطور نفسه.
فلو أن إندين أصبح إمبراطورًا، لكانت منافسة محتومة بينهما حول من سيكون أقرب الناس إليه.
“جدي.”
ابتسم إندين وهو يجيب.
وبادله الدوق الابتسامة.
لم يكن هناك مكان للحزن.
قال الدوق:
“فما خطتك إذن من الآن فصاعدًا، يا إندين؟ إن جدّك هذا لا يريد سوى اتباع ما ترسمه من خطط.”
هكذا دخلوا مباشرةً في الحديث عن العمليات.
كان رجال الكتيبة الثامنة قد قُبض عليهم بصفتهم قتلة الإمبراطور، لكن سيريس وديارين خرجوا سالمين.
كان يجب أن يتخلصوا من أحدهما على الأقل.
كبح إندين غضبه المتأجج وهو يحدّق في جدار المعبد.
كان جدار المعبد مزخرفًا فخمًا، لكنّه خالٍ من أي رمز مركزي.
لأنهم اعتبروا أنّ صورة الحاكم لا يمكن أن يجرؤ البشر على تصويرها.
فبغياب رمزٍ ملموس للحاكم، صار لزامًا على الناس أن يتجمعوا إلى المعبد نفسه ليعبدوه.
قوةٌ تجعل الجميع يدورون حول المركز حيث يوجد.
تلك القوة كان إندين يتوق إليها.
فمجرد ارتداء تاج الإمبراطور لا يجعل المرء إمبراطورًا.
إن العرش ليس بالتوريث، بل لمن يملك أعظم قوة.
فإمّا أن يمتلك المرء القوة بنفسه، أو يزيل من يتجاوزونه.
“مباراة بلا حكم في الوسط لا تكون سوى معركة عشوائية، معركة جماعية.”
إذن، لم يعد بحاجة لانتظار اختيار الإمبراطور.
وكان هذا هو الجزء الوحيد الذي يبعث على الارتياح.
✦✦✦
بعد انتهاء الاضطراب، عاد سيريس مؤقتًا إلى قصر ولي العهد الأول.
فهو لا يوشك على خوض جولة ثانية مع إندين على الفور، بل عليه أولًا أن يعود لترتيب الأوضاع.
“سيريس، أنت بخير حقًّا؟”
لكن قبل ترتيب الأوضاع، كان لا بد من ترتيب القلوب.
قال سيريس وهو ينظر إلى ديارين الملتصقة بذراعه:
“وأنتِ، ديارين؟”
“لا تسألني أنا، فلم يُصبني أذى يُذكر.”
“وأنا لم أُصب إصابة كبيرة كذلك.”
لكن الحقيقة أن جسده، بعد قتال الكتيبة الثامنة، كان مليئًا بجروح ممزقة.
خدوش سطحية من شفرات السيوف غطّت وجهه وكتفه وظَهر يده.
أكثر ما أقلق ديارين هو عنقه.
فذكرى ذاك الموقف، حين نفخت على الصفارة في البداية من غير وعي، ارتدت فجأة إلى ذهنها وملأت قلبها قلقًا.
تمتمت بارتياح:
“الحمد لله أن الصفارة لم يعد يؤثر فيك يا سيريس…”
“! “
لمعت عينا سيريس فجأة بحدة عند كلماتها.
نعم، كيف نسي ذلك؟ نسي غضبه حين تخلّت عنه وذهبت إلى ذلك الحقير هالت.
في عقله كان يعترف أن ذلك الموقف كان الخيار الأفضل حينها، لكن قلبه لم يكن قادرًا على تقبله.
“آه… يؤلمني… آه…”
هوى سيريس فجأة على ركبتي ديارين، ولفّ ذراعيه حول خصرها.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 189"