كانت زقزقة الطيور التي تتردّد بين الحين والآخر هي المذيع، وكانت أشعة الشمس المشرقة هي الكاهن. أما الغيوم البيضاء الصافية التي تمرّ فوق الرؤوس فكانت هي الحضور.
إلى هذا الحد، يبدو وكأنه حفل زفاف بسيط لا يحتوي على شيء. لكن من الواضح أنّ حفلاً بسيطًا صغيرًا لا وجود له في قاموس سيريس.
“… أأرى هذه الزهرة هنا؟”
أكثر ما تعلّمته ديارين من حياتها في القصر الإمبراطوري هو “البذخ”.
اقتربت لتتأكد من نوع الزهرة البيضاء التي رآها قلبها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة ودودة.
كانت زهرة ثمن الواحدة منها يعادل ثمن زجاجة فاخرة من النبيذ. زهرة لا بدّ أن تُزرع في أحدث البيوت الزجاجية على يد بستانيين مهرة وبحبّ ورعاية، فكيف إذًا تنمو هنا في العراء بأعداد كبيرة؟
“بدت لي الأجمل.”
“همم…”
إذا كانت جميلة فلا بدّ من زرعها. نعم… هذا طبيعي.
ديارين لم تعد تتفاجأ بأسلوب سيريس في الترف. كل ما في الأمر أنّ حجمه فقط تغيّر.
حين لم يكن يملك المال، كان حتى يبتزّ الآخرين ليشتري لها هدية، وحين صار وليّ العهد وصار المال فائضًا، أغدق عليها بلا حدود.
والآن أيضًا، مدّ سيريس يده بلا تردّد فقطف زهرة.
“هاه؟ لماذا؟”
“لأنني أحتاج زهرة.”
جلس سيريس على ركبة واحدة أمامها، رافعًا رأسه نحوها.
لقد رأت هذا الوضع كثيرًا حتى كادت تملّه، لكن قلبها خفق رغم ذلك.
وضعت ديارين يديها معًا أمام صدرها ونظرت إليه من أعلى.
“ديارين.”
“نعم.”
“… آه.”
“؟”
كان من المفترض أن تأتي الجملة التالية بسلاسة، لكن بدا أنّ سيريس تذكّر شيئًا فجأة فتصلّب وجهه.
“ماذا؟ ما الأمر؟”
“… الخاتم. نسيت أنّني طلبت واحدًا جديدًا، وسيصل بعد الظهر.”
تحسّس سيريس صدره وكأنه يبحث عن شيء. كان دائمًا يحتفظ بزوج أو اثنين من الخواتم في جيب معطفه، لكن تصادف أن اليوم لم يكن معه أيّ خاتم. كل ذلك بسبب رغبته الجامحة في أن يصنع لها أفضل خاتم لا يمكنها رفضه. (أما الخواتم التي قدّمها سابقًا فقد كانت مجرّد هدايا تملأ صندوق مجوهراتها).
“لا بأس بدون خاتم.”
وضعت ديارين يديها على وجهه القَلِق وابتسمت.
رفع سيريس رأسه لينظر إليها بعينين صافيتين.
“أنا لا أستطيع. لقد طلبتُ الزواج من ديارين…”
“كل ما فعلته حتى الآن يكفي.”
“لكن…”
بدا أن سيريس لم يستطع تقبّل فكرة عرض الزواج بلا خاتم، إذ لم يتحسّن وجهه.
نظرت ديارين حولها تبحث عن شيء يمكن أن يحل محل الخاتم، ولم يطل بها البحث.
“آه، إذًا هل تصنع لي خاتمًا من الزهور؟ أنت بنفسك، من المواد إلى الإعداد.”
“!”
أشرق وجه سيريس كما لو أنه عثر على شعاع من النور.
“انتظريني لحظة.”
“حسنًا، على راحتك.”
فهي على أي حال لن تعود قبل الغد، فلم يكن هناك أي استعجال. جلست ديارين على العشب الناعم، تراقب سيريس وهو يغوص بأنفه بين الزهور باحثًا بعناية.
كان جادًّا كما لو أنّه يختار جوهرة. وكان ظهره المنحني المستدير يجعله يبدو كجرو صغير، مما جعلها تضحك بصوت مكتوم وحدها.
هبت نسمة.
اختلطت روائح الأزهار العطرة وتطايرت مع الريح، مع عبير العشب المنعش ورائحة النسيم الأزرق.
أغمضت ديارين عينيها تستمتع بذلك العبير الهادئ.
داعبت أشعة الشمس جفنيها المغمضين.
لابد أنه وجد أخيرًا الزهرة التي أعجبته، فقد سمعت وقع خطوات سيريس يقترب.
رغم جسده الضخم، كانت خطواته خفيفة، حتى إنها بمجرد سماعها، عرفت فورًا أنه هو.
شعرت بظل سيريس يحجب عنها الشمس، ففتحت عينيها.
بدل السماء الزرقاء، امتلأ بصرها بوجهه.
“ديارين.”
وصل اسمها إلى أذنها بصوته العميق الخافت.
أدركت أن اسمها يمكن أن يكون كلمة محبّبة بقدر الشوكولاتة والآيس كريم والبسكويت والمربّى.
“سيريس.”
حين نطقت باسمه، شعرت وكأنها تتذوّق الحلاوة التي كانت تراها في نظره.
وربما شعر هو أيضًا بالحلاوة نفسها، إذ ارتسمت على وجهه ابتسامة كأنها مصنوعة من السكر.
كما في السابق، جلس على ركبة واحدة ومدّ لها خاتم الزهور.
“ديارين، هل تتزوجينني؟”
ابتسمت ديارين بفرح.
“أوافق.”
وكان الجواب، كما هو متوقّع، قبولًا بلا تردّد.
في اللحظة التي سمع فيها سيريس جوابها، بدا وكأن التوتر قد زال عن كتفيه. ربما ظلّ حتى هذه اللحظة يخشى أن ترفض رغم كل ما وصلا إليه.
لو كانت تعرف هذا من قبل، لكانت قبلت منذ زمن.
لكن الجهد الطويل الذي بذله سيريس هو ما جعلها قادرة على اتخاذ هذا القرار الآن، فلم يكن الوقت مضيّعًا.
أدخلت ديارين إصبعها في خاتم الزهور الذي قدّمه لها، ولدهشتها كان مناسبًا تمامًا.
“جميل.”
ديارين رفعت يدها التي تحمل الخاتم نحو السماء تتأملها.
سماء زرقاء، غيوم بيضاء كقطن، وخاتم من الزهور البيضاء يزين إصبعها. كان المشهد ساحرًا وجميلاً، وكأنه مقتطف من كتاب قصص للأطفال.
قالت بابتسامة:
“إذًا، هل نذهب لنتزوج الآن؟”
مدّت ديارين يدها بخفة كأميرة. فأمسك سيريس بيدها، وأقامها برفق، ثم شبك ذراعه بذراعها، وبدأا بالسير معًا تحت قوس مصنوع من جدائل الأزهار.
كان سيريس ينظر إلى ديارين بخطوات هادئة، وديارين أيضًا لم تُبعد عينيها عنه.
إن كان الزواج هو أن يسيرا هكذا متقابلين بنظراتهما، فقد بدا الأمر جديرًا بالتجربة.
وعندما وصلا إلى نهاية ممر الزهور، توقفا أمام منصة صغيرة مزينة بالورود، يواجه كل منهما الآخر.
في الأصل، كان من المفترض أن يتواجد كاهن يبارك اتحادهما باسم الإله، لكن في زفاف بلا أحد، لم تكن هناك هذه الطقوس.
قال سيريس:
“ديارين، أحبك.”
كان الأمر نابعًا من القلب فقط.
فأجابت:
“أحبك، سيريس.”
ابتسم سيريس بفخر، ثم قبّلها. وبينما كانت ديارين تحدّق في شفتيه اللتين ابتعدتا بخفة، مدّت ذراعيها تطوّق عنقه، وقبّلته مرة أخرى.
هذه المرة كانت القبلة أعمق من قبلة سيريس الأولى.
تفاجأ كلاهما مما حدث دون تخطيط، لكنهما لم يُبعدا شفتيهما.
كان ملمس شفتيه مدهشًا، كزغب صغير على حيوان وُلد للتو، يلامس ويدعو للمزيد من الملامسة.
“هـم….”
وبينما كانت ديارين مغمضة العينين، تفاجأت من صوت أنينها وهي تخرجه من أنفها.
فتحت عينيها قليلًا لترى وجه سيريس مغمض العينين. حتى رموشه كانت مستقيمة وطويلة، وجفناه النحيفان كانا يرتجفان أحيانًا. لم يكن مشهدًا مميزًا، ومع ذلك شعرت وكأن حجرًا ساخنًا سقط في صدرها.
“ديارين… ديارين…”
غيّر سيريس زاوية رأسه لتصبح القبلة أعمق فأعمق، وارتفعت الحرارة من الحجر الساخن في صدرها حتى وصلت إلى شحمة أذنها.
“آه…”
وبينما هي تلتقط أنفاسها بصعوبة، وجدت نفسها مع سيريس ممددين فوق بساط الزهور.
رفع سيريس الجزء العلوي من جسده ببطء، وكان وجهه وهو يطل عليها مختلفًا، وجه رجل كامل. كان قلبها يخفق بشدة وكأنها ركضت بأقصى سرعة.
قال سيريس بملامح مفعمة بالرضا:
“هل يعني هذا أنني سأتمكن من فعل هذا معك كل يوم من الآن فصاعدًا؟”
كانت ديارين على وشك أن تهز رأسها موافقة، لكنها غيّرت نظراتها فجأة.
“… ربما يجب أن أفكر في الأمر.”
“ماذا؟!” “لقد تزوجنا!”
“لكن الناس لا يعرفون… ليس بعد.”
“الزواج هو… الزواج هو…”
على الأقل تأكدت ديارين من شيء واحد: لسيريس أوهام كثيرة عن الزواج.
صحيح أنهما تزوجا، لكن حان الوقت لوضع مفهوم واضح له.
جلست ديارين تواجه سيريس وقالت:
“سيريس، الزواج هو في الأساس وعد. هناك من يلتزم به جيدًا، وهناك من يتظاهر بالالتزام لكنه لا يلتزم، وهناك من لا يلتزم إطلاقًا.”
“هممم.”
“أنا أنوي أن أفي بأي وعد أقطعه، لكن أظن أن اتفاقنا على محتوى الوعد كان ناقصًا.”
أومأ سيريس برأسه بجدية، وكأنه في اجتماع حكومي مهم.
فهذا اتفاق يتعلق بالحياة كلها، ومن الطبيعي أن يأخذه بجدية.
“ما هو الوعد الذي تفكر فيه أنت عند الزواج؟”
“أن أحبك طوال حياتي، وألا أقبّل أحدًا غيرك.”
“… هذا كل شيء؟”
“هل يجب أن يكون هناك المزيد؟”
كان صادقًا لدرجة أن ديارين شعرت بالعجز.
“حسنًا، هذه هي الأساسيات، لكن… عادة في الزواج تكون هناك التزامات أخرى: الحمل، الولادة، تربية الأطفال، تقاسم الأعمال المنزلية، دفع نفقات المعيشة، العمل بعد الزواج، تقسيم الممتلكات عند الطلاق، زيارة والدي كل طرف… هذا لا ينطبق علينا في بعض الأمور، لكن الفكرة موجودة.”
لم تتزوج ديارين من قبل، لكنها رأت وسمعت الكثير من تجارب الآخرين.
فالزواج قد يبدأ بالحب، لكن يتبعه واجبات ومسؤوليات واقعية.
وكانت ديارين مستعدة لأن تتنازل وتتحمل جزءًا كبيرًا من ذلك، خاصة وأن سيريس ليس رجلاً عاديًا، بل أمير دولة، وربما يصبح إمبراطورًا يومًا ما.
استمع سيريس بجدية، ثم قال متأملاً:
“هممم… ومن الذي وضع هذه القواعد؟ ومتى وُضعت؟”
“لا أعلم، لكن… إذا قررنا أن نعيش حياتنا معًا، فمن الطبيعي أن نتفق على هذه الأمور، أليس كذلك؟”
“لماذا؟”
سأل سيريس وكأنه لا يفهم شيئًا.
لم تستوعب ديارين سبب تكراره للسؤال.
“لأن هذه الأمور ستصطدم بنا طوال حياتنا…”
“لكنني أنوي أن أوافقك في كل ما تريدينه، فأين سنصطدم؟”
“…”
صمتت ديارين.
ربما سيقول الآخرون إن رجلاً كهذا لا يُعوّض، لكن هي كانت تشعر أن الحياة بهذه الطريقة وسط هذا العالم القاسي قد لا تكون سهلة أبدًا.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 178"