لا تنسيني وكأن ابنتك “ديارين” لم تكن موجودة من الأساس.
لكن حين جاءت أمي حقًا، فرغ رأسي تمامًا ولم أستطع التفكير في أي شيء.
“دياريننا… أأنتِ حقًا؟”
تقدمت أمي نحوي بتردد، وكأنها فقدت ثقتها بعد أن رأتني أحدق فيها بشرود.
حتى حين صارت قريبة، لم أستطع أن أفتح فمي.
كلما اقتربت أكثر، كان صوت نبضات قلبي يعلو.
لقد مر وقت طويل جدًا.
آخر مرة رأيتها كانت حين كنا في القصر العائلي. وبعد ذلك، مر زمن طويل، لكنني لم أشعر به لانشغالي بالتأقلم في القصر الإمبراطوري، والانغماس في الأحداث المختلفة، ومحاولة البقاء.
والآن فقط، حين رأيت وجه أمي وقد تغير كثيرًا عما كان عليه، أدركت كم مر من الوقت.
“أأنتِ حقًا ابنتي؟”
“… أمي.”
تمكنت أخيرًا من النطق بكلمة واحدة حين شعرت بلمسة يد أمي على خدي.
وكأن هذه الكلمة كانت الشرارة، تدحرجت دمعة على خد أمي.
“الحمد لله… كنتِ بخير يا ابنتي.”
“… بخير؟”
“سمعتُ أنكِ… أثناء العمل… وقعتِ في حادث وفُقدتِ.”
كانت أمي تمسح دموعها وهي تشرح بارتباك.
“قلتُ في نفسي إنكِ مشغولة ولم أعر الأمر اهتمامًا، لكن عندما حاولت البحث عنك بسبب أمر ما، سمعت أنك مفقودة. انتظرت أيامًا، ولم يصل أي خبر، فقلت ربما قد تكونين قد رحلتِ عن الدنيا… ثم في مهرجان الحاكم، قال والدك إنه رأى خادمة بجانب ولي العهد الأول تشبهكِ كثيرًا.”
“أبي؟ ولماذا ذهب إلى هناك أصلًا؟”
حتى وإن كنتُ كاهنة، لم تكن عائلتي متدينة. لم يكونوا يذهبون إلى المهرجانات الدينية إلا إذا كان هناك شخص مهم سيحضر.
“قال إنه بما أن جميع أفراد العائلة الإمبراطورية سيكونون حاضرين، فمن اللائق كنبيل أن يحضر…”
“وهل حصل على مقعد نبيل لائق إذًا؟”
“يبدو أنه تمكن بطريقة ما من الحصول على مقعد في آخر الصفوف.”
أخبرتني أمي كما سمعتها، وكأنها تنقل الأمر من لسان الآخرين.
كما توقعت… ربما كان محظوظًا في الحصول على مقعد واحد، لكن لم يكن لديهم المال الكافي لحجز مقاعد للجميع.
‘لابد أنهم أنفقوا الكثير على ثمن المقعد.’
بدأ البرود يتسرب إلى عيني ديارين.
سعادتها برؤية أمها لم تدم طويلًا، فبمجرد أن رأت الحقيقة وراء الزيارة، لم يبقَ سوى البرود.
“إذًا ذهبتم لذلك الصيد البعيد فقط لتتحققوا إن كنت أنا؟”
“وكيف عرفتِ؟”
“سمعت صوتكِ عرضًا.”
“… سمعتِه؟”
“قلت لنفسي لا يمكن أن يكون صوت أمي هنا، فتجاهلت الأمر وغادرت.”
أمي لم تكن تذهب إلى أي مكان بعيد إلا للتسوق أو قضاء شؤون المنزل. وذهابها إلى ساحة الصيد كان حدثًا نادرًا في حياتها.
“هل أبي هو من أرسلكِ؟ خشي أن أتجاهله لو جاء بنفسه، فأرسلكِ بدلًا عنه؟”
“… لا، ليس هذا السبب.”
“ليس كذلك؟”
كان صوت ديارين قد بدأ ينحرف بالفعل. لم تعد تصدق نفي أمها بسهولة.
“ألم تأتِ لأن ابنتكِ حصلت على منصب مهم وتريدين أن تنتزعي شيئًا منها؟”
خرجت كلمات أكثر برودة مما توقعت.
كانت مشاعر مكبوتة منذ زمن طويل، تخرج مختلطة في جمل يصعب التحكم بها. لم تدرك حتى الآن أنها تحمل في داخلها هذا القدر من البرودة.
سنوات طويلة من الجراح والمشاعر المتراكمة كانت قد تجمدت، طبقة فوق طبقة، كجليد سميك.
“ولهذا استخدمتِ اسمًا مستعارًا حتى لا أرفض رؤيتكِ؟”
“لا، ليس ذلك.”
“حقًا ليس كذلك؟”
بدأت الدموع تتجمع مجددًا في عيني أمي.
شعرت ديارين بالدهشة من نفسها، إذ لم تهتز مشاعرها أمام دموع أمها. في الماضي، كانت ترتبك حتى لو أظهرت أمها القليل من الضيق، وكان قلبها يخفق بشدة، وتحاول أن تفكر في ما تريده أمها وتلبي طلباتها، وكأن ذلك واجب.
لكن الآن، لم تعد تشعر برغبة في ذلك على الإطلاق. إن غضبت أمها فلا بأس، وإن تبرأت منها فلم يعد يهم.
“آه…”
لم تعد هناك حاجة لي.
كنت أظن أنّه إن لم يكن لدي عائلة، فلن يكون لدي أي سند. كنت أؤمن أنّه في اللحظة الأخيرة، مهما حدث، فإن العائلة ستبقى بجانبي. ولهذا، حتى حين كنت أضحي، كنت أعتبر ذلك استثمارًا.
كما أنني كنت أخشى أن يتخلى عني أفراد عائلتي، وأن أسقط وحيدة في هذا العالم.
أما الآن، فلم أعد أخاف حتى لو فقدت عائلتي. ولهذا أستطيع التحدث بهذه الجرأة.
“… أنا آسفة.”
قالت أمي وهي تعتذر.
أخذت ديارين نفسًا عميقًا. لم تكن تتوقع اعتذارًا، ولم تعتقد يومًا أن أحدًا كان مخطئًا. كل ما في الأمر أنّ كل واحد عاش وفقًا لجشعه.
“كان يجب أن أعتني بك أكثر منذ البداية.”
“…”
“حين فكرت أنه ربما ستتركين حضني إلى الأبد، بدأت أتذكر… كنت أعتني بوالدك لأنه زوجي، وبأخيك لأنه الوريث، أما أنتِ… فكنتِ من تعتنين بي، لكن لم يكن هناك أحد يعتني بك.”
كادت تلك الجملة أن تهدم الجدار الذي لم تهزه دموع أمها من قبل.
عضت ديارين على أسنانها بقوة وقبضت يدها، وأخذت أظافرها تضغط على راحة يدها وهي تحاول أن تصمد أمام مشاعرها المتداعية.
“انتهى الأمر، لم يعد مهمًا الآن.”
قالت وهي تحاول أن تتظاهر بالهدوء برسم ابتسامة متكلفة.
“إذن؟ كم تحتاجين؟”
عضت الأم على شفتيها ثم هزت رأسها ببطء.
“لا، لم آتِ من أجل المال.”
“… ليس المال؟”
“في الحقيقة، لم يعلم أحد أنني أتيت إلى هنا.”
ضيّقت ديارين عينيها. لم تكن أمها من النوع الذي يكذب لانتزاع شيء منها، لكن تصرفها لم يكن مفهومًا.
“ماذا تعنين؟ ألم تتبعيني من ساحة الصيد؟”
“ساحة الصيد… ذهبتُ إليها فقط لأنني أردت التأكد أنكِ ما زلتِ على قيد الحياة.”
“إذن عن طريق المعبد… آه.”
لقد أبلغ كبير الكهنة عائلتها بأنها مفقودة. ولهذا لم يكن لدى أمها أي طريقة للتواصل معها، حتى لو أرادت ذلك.
“إذن لماذا استخدمتِ اسمًا مستعارًا؟ أليس لأنك خشيت أن أتجنبكِ؟”
“خشيت أن تضرّك علاقتك بنا… ولو قليلًا.”
وكانت مخاوفها في محلها. فحتى لو كان من حولها أشخاص تثق بهم، لا أحد يعلم من أين يمكن أن يتسرب الخبر. فمجرد ذكر اسم القلعة قد يقود إلى خيط يكشف مكانها.
هل كانت أمها تفعل ذلك فعلًا بدافع القلق عليها؟
لم تستطع الجزم، وظلت مترددة.
“هل أنتِ بخير؟”
سألت الأم وهي ترى صمت ابنتها.
عضت ديارين على شفتيها وهزت رأسها إيجابًا.
“حسنًا، ما دمت بخير فهذا يكفي. المهم أن تأكلي وتشربي وتنامي جيدًا… وإن احتجتِ إلى أمك يومًا، عودي.”
هل يمكن أن يحدث هذا؟
إلى ذلك البيت الذي فيه أب وأخ أسوأ من الغرباء، وإن كانا يحملان اسم العائلة؟
أما الأم… نعم، لأنها أمها، فقد كانت تتوقع منها أكثر قليلًا، وربما اعتمدت عليها أكثر. لكن من الآن فصاعدًا، لن تكون أمها هي السند الذي تعتمد عليه.
“لن يحدث ذلك.”
قالت وهي تبتسم وتهز رأسها.
فهي لم تعد تلك الابنة الثانية لعائلة نبيلة فقيرة، التي لا تملك شيئًا وتقلق على قوت يومها.
وفوق كل ذلك، كان هناك سيريس إلى جانبها، وهي واثقة أنه سيبقى معها أينما ذهبت.
“… صحيح. المهم أن تكوني بخير أينما كنتِ.”
بدت الأم متفاجئة قليلًا من ردها، لكنها سرعان ما ابتسمت معها. ثم فتحت حقيبتها وأخرجت شيئًا منها.
“أحضرت هذا معي تحسبًا، ويبدو أنني كنت محقة.”
كان كيسًا كبيرًا وثقيلًا حين أمسكته.
فتحت ديارين الكيس لترى ما بداخله، فإذا به أقراط وقلادة مرصعة بحجر أخضر. مقارنة بما ترتديه في القصر الإمبراطوري، بدت هذه المجوهرات رخيصة كألعاب الأطفال، لكنها بالنسبة لوضع العائلة كانت كنزًا ثمينًا.
“ما هذا؟”
“هذه هدايا زواجي. كنت أنوي أن أقدمها لكِ يوم زفافك، ولهذا أخفيتها ولم أبعها، لكن من يدري متى سنلتقي مجددًا.”
لم تصدق ديارين أن أمها كانت تحتفظ بها لأجلها.
حدقت في المجوهرات وهي ترمش ببطء. كانت تلمع بخفة، حتى في عيني ديارين التي اعتاد سيريس أن يسخر من ذوقها الرديء، بدت متألقة رغم رداءة صنعها.
كانت تتلألأ لدرجة أن عينيها دمعتا.
“لن أخبر أحدًا بأنكِ تعيشين هنا، فلا تقلقي.”
“…”
“سأذهب الآن، إن أطلت المكوث فسأثير الشبهات.”
“… آه.”
نهضت الأم دون تردد.
قفزت ديارين واقفة على عجل، لكن أمها كانت قد وصلت إلى الباب.
هل تمسك بها؟ هل تعطيها بعض المال؟
وبينما كانت تتردد، أمسكت الأم بمقبض الباب واستدارت مبتسمة، رغم أنها لم تأخذ من ابنتها فلسًا واحدًا.
“سأذهب الآن.”
ثم أغلقت الباب.
تنفست ديارين بعمق وهي وحيدة.
تغلغلت رائحة أمها في صدرها.
تلك الأم التي لطالما تمنّت أن تملكها بالكامل، رحلت تاركة وراءها رائحة خفيفة وابتسامة دافئة، دون أن تأخذ منها شيئًا.
تذكرت ابتسامتها وهي تغادر.
حتى دون أن تأخذ منها مالًا، ابتسمت لها، وقلقت عليها، وكأنها تقول إنها لن تطلب منها شيئًا مجددًا.
بعد رحيلها، أدركت ديارين شيئًا…
لم أكن محرومة تمامًا من الحب.
حتى وإن كنت دائمًا في ظل العائلة، وتأتي بعد أخي، إلا أن أمي كانت تحبني فعلًا. صحيح أنها كانت تعبر أكثر عن تعبها من حياتها، لكن هذا لم يمحُ الحب الذي كانت تكنّه لي.
وهذا يكفي.
ذلك العطش الذي عانته طويلًا، انطفأ وكأنه لا شيء بمجرد رشفة ماء.
عندها فقط، سقطت الدموع التي كانت تملأ عينيها.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 173"