<ديارين قوية.>

 

 

لكن الخوف والاشمئزاز شيئان مختلفان تمامًا.

 

الظلام يمكن التكيّف معه، لكن الكائنات التي تملأ الممر لا يمكن التكيّف معها أبدًا.

 

كان الممر جنةً للحشرات.

 

الممر السفلي الرطب والمظلم كان مكانًا مثاليًا لاستيطان الحشرات، وبما أن الناس لا يمرّون من هنا، فقد تكاثرت فيه الحشرات بلا رقيب.

 

بعض الحشرات هربت مذعورة عند ظهور البشر، لكن الأخرى، الأبطأ، سُحقت تحت الأقدام.

 

“آه…”

 

تجهم وجه ديارين وهي تمشي على أطراف أصابعها. تقليل مساحة القدم لن يُجنّبها كل الحشرات، فبعضها كان يطير فوق رأسها، وبعضها يسقط على كتفيها دون رحمة.

 

“هذه الحشرات اللعينة، لم أستطع التخلص منها حتى في ساحة المعركة، والآن تظهر لي هنا؟”

 

العيش في المخيمات العسكرية يشبه حياة التشرد. الحشرات موجودة في كل زمان ومكان. ومن لا يحتمل حشرة واحدة لا يمكنه النجاة.

 

كانت تُبعد الحشرات عن كتفيها، وتهزّ رأسها لتُبعدها عن شعرها، لكنها لم تكن مذعورة إلى درجة الصراخ والهرب.

 

“آه، فعلاً… أكرهها.”

 

رغم أنها لم تكن خائفة، إلا أن الكراهية ما زالت حاضرة.

 

عندها، عرض سيريس المساعدة:

 

“ماذا لو حملتك أنا، ديارين؟”

 

“هذا لن يحل المشكلة. ماذا عن الحشرات الطائرة؟ وماذا عن التي تهبط على كتفيّ؟”

 

“إذن سأحملك وأغطي رأسك بذراعي…”

 

“لن يحل ذلك كل شيء. بل قد يكون أسوأ إذا لم أتحرك، فتتسلل إلى داخل ملابسي.”

 

بدأت ديارين تهز شعرها كأنها تمتطي جوادًا، في محاولة لطرد الحشرات.

 

من كان يظن أنها ستفعل نفس ما كانت تفعله حين كانت تذهب ليلاً إلى الحمام في ساحة المعركة، ولكن هذه المرة داخل القصر الإمبراطوري؟

 

“آه، أريد فقط أن أحرق المكان كله… هم؟”

 

توقفت فجأة عن الكلام، مائلةً برأسها بتعجب.

 

“هل أستطيع فعل ذلك فعلاً؟”

 

حتى الآن، كانت تحمل شعلة من النيران في راحتها.

 

مؤخرًا، أصبحت تستخدم القوة المقدسة المتعلقة بالنار أكثر فأكثر. ومع الاستخدام المتكرر، بدا وكأن قوتها زادت.

 

“هل يمكن تدريب القوة المقدسة أيضاً؟”

 

شعرت فجأة بالفضول.

 

القوة المقدسة غير مرئية، ولا يمكن قياسها من قِبل الآخرين، لذا لا توجد خطوط إرشادية أو تعليمات. معظم من يملكونها يعيشون دون استخدامها قدر الإمكان، مكتفين بالصلاة.

 

بعضهم يستخدمها لتحقيق الطموحات، لكن حتى هؤلاء لا يُعرف عنهم أنهم تدربوا أو تلقوا تعليمًا بشأنها.

 

“هل هناك ما قد يكون خطيرًا لو أشعلت النار هنا؟”

 

“الجدران كلها حجر، لا يبدو أن هناك خطرًا.”

 

“إذن، لا مانع أن أحرق المكان، صحيح؟”

 

“على الأرجح.”

 

“حسنًا، سيريس، تعال وابقَ خلفي.”

 

سحبت ديارين سيريس من ذراعه ووقفت أمامه.

 

رمش سيريس بعينيه، متفاجئًا من كونه في موقف من يُحمى، لا من يحمي. كان ذلك جديدًا عليه.

 

وكان أكثر إدهاشًا أن هذا التصرف لم يكن نابعًا من تفاخر أو تظاهر، بل لأنها بالفعل قوية.

 

“هَه!”

 

فتحت ديارين كفيها إلى الأمام وأطلقت صرخة تركيز.

 

فووووش!

 

دون أن تبذل الكثير من الجهد، اندفأت الحرارة من يديها.

 

وكأن تنينًا نفث نيرانه، تدفقت ألسنة اللهب إلى الأمام وأحرقت كل الحشرات في الممر دفعة واحدة.

 

“آه!”

 

كان اللهب أقوى مما توقعت.

 

تراجعت ديارين بسرعة وسحبت يديها، واختفى اللهب في لحظة كما لو لم يكن.

 

ما تبقى فقط هو رماد جثث الحشرات المحترقة يتطاير في الهواء.

 

“آه…”

 

حدّقت ديارين في يديها بذهول.

 

هل فعلت ذلك حقًا؟

 

نظرت إلى سيريس بدهشة.

 

“ديارين…”

 

كان وجه سيريس مشوشًا بالقدر نفسه.

 

ومع ذلك، استطاعت ديارين إصدار حكم موضوعي:

 

“أنا قوية.”

 

“…صحيح..لن أجرؤ على تحديك بعد الآن.”

 

قال سيريس ذلك بوجه جاد وبكل صدق.

 

راهب قتالي أقوى من أكثر الجنود جنونًا… لم يسمع أحد بمثل هذا من قبل.

 

“ما السبب حقًا؟ هل الطاقة في هذا المعبد قوية؟ أم أن حتى الحاكم يكره الحشرات؟”

 

تمتمت ديارين بشرود، ثم شعرت بدوار واتكأت على الحائط.

 

“ديارين!”

 

“…يبدو أن استخدام هذه القوة يستهلك طاقتي.”

 

“سأحملك.”

 

“نعم، من فضلك.”

 

استسلمت ديارين بسهولة ودخلت في أحضان سيريس.

 

رفعها سيريس ونظر إليها بقلق. لكن الشعلة التي كانت في يدها قد اختفت، فلم يعد يستطيع رؤيتها بوضوح.

 

“هل أنت بخير؟”

 

“لنذهب أولًا، وسنتحدث لاحقًا ونعود لنستريح.”

 

“…مفهوم.”

 

امتثل سيريس لأوامر ديارين بهدوء.

 

كانا قد وصلا تقريبًا إلى منتصف الممر، وخطوات سيريس الواسعة أوصلتهما بسرعة إلى نهايته.

 

“كان يجب علينا أن نفتح بابًا هنا، لكن…”

 

ركز سيريس وهو لا يزال يحمل ديارين على الأصوات المحيطة.

 

حتى ديارين أمالت رأسها نحو الجدار، لعلها تسمع شيئًا.

 

“إذا لم يكن هذا تهديدًا، فما هو إذن؟!”

 

صوت غاضب وحاد دوى في الممر.

 

لم يكن قادمًا من أذن سيريس فقط، بل وصل إلى مسامع ديارين بوضوح كامل أيضًا.

 

نظرت ديارين إلى سيريس بدهشة.

 

“هل سمعت ما سمعته؟”

 

هز سيريس رأسه بالإيجاب.

 

الجدار أرق مما توقعا. ولحسن الحظ، كان ملاصقًا لغرفة النائب الأعلى للكهنة.

 

لم يكن واضحًا تمامًا إن كان الجدار مشتركًا مع الغرفة نفسها، أو مع ممر مجاور، أو غرفة قريبة، لكن المسافة كانت قصيرة بما يكفي لسماع الحديث دون الحاجة لأي قدرة خاصة على السمع.

 

“اهدأ، سمو الأمير الثاني…”

 

سمعت أيضًا صوت الكاهن مِريان.

 

أغلقت ديارين فمها وركّزت في الحديث.

 

“قوة مقدسة؟ هاه، كل ما في الأمر أنها تملك شعرًا وعيونًا بلون مختلف، فقط لا غير. لم يُسجّل في تاريخ العائلة الإمبراطورية أي شيء غير ذلك! لكن، ماذا لو كانت تلك الفتاة تملك بالفعل قوة مقدسة؟ ألن نكون بصدد ولادة أول فرد من العائلة الإمبراطورية يحمل قوة مقدسة في التاريخ؟!”

 

“الكونتيسة آريانتي لم تكن تمتلك أي قوة مقدسة.”

 

“إذن، ما الذي حدث في ذلك اليوم؟!”

 

زفر الكاهن مِريان تنهيدة عميقة.

 

“نحن أيضًا لا زلنا نُجري التحقيق. والافتراض الأقرب هو أن تصادمًا في القوى المقدسة وقع بين الكهنة في ذلك اليوم. لكن، إن لم يكن ذلك كافيًا لتفسير ما حدث…”

 

“إن لم يكن كافيًا؟”

 

“فقد يكون الحاكم قد تدخل فعلًا ونظر إليهم بعين العناية.”

 

“هل تسمي هذا كلامًا معقولًا؟!”

 

ارتفع صوت إندين بحدة واضحة.

 

كان الحديث يسير بشكل هادئ إلى حد ما، لكنه عاد ليفقد توازنه من جديد عند كلمات نائب الكاهن مِريان.

 

ومع ذلك، بقي مِريان هادئًا تمامًا كعادته.

 

“إذًا، الحاكم قد تدخّل وأعاد الأمير الأول إلى الحياة؟ الناس يتداولون تسميات مثل ‘أمير المعجزة’، والآن تودّون إصدار تقرير لجنة التحقيق في القوة المقدسة بهذه النتيجة؟”

 

“لا يمكننا التلاعب بنتائج لجنة التحقيق في القوة المقدسة. كل ما في الأمر… أننا نترك جميع الاحتمالات مفتوحة.”

 

“أي احتمالات! أليسوا أولئك من أتباع الشياطين؟ أليس من واجب الكهنة القضاء على الشياطين؟!”

 

“لا يمكننا الجزم بأنهم شياطين.”

 

“بل لا بد أن يكونوا شياطين!”

 

لم تحتمل ديارين ما سمعته، فزفرت بحدة نحو السقف.

 

كانت تتوقع شيئًا كهذا، لكنها لم تتوقع أن تصل الأمور إلى حدّ وصفهم بالشياطين بهذه الوقاحة. حتى الافتراء له حدود. ما يقوله يعادل الادعاء أن السماء هي البحر!

 

لكن المفاجئ في كل ذلك كان موقف مِريان.

 

“لا يمكننا اختلاق مشيئة الحاكم.”

 

“ومن طلب منك أن تختلقها؟ كل ما نطلبه هو أن تكشف حقيقة هؤلاء الشياطين كما يجب!”

 

“وإن لم يَصِفهم الحاكم بالشياطين، فليس لدي القدرة على تحويلهم إلى شياطين بنفسي.”

 

من الغريب أن يتصرف وكأنه كاهن عادل في هذا الموضع.

 

ذلك الرجل الذي كان مهووسًا بالمال، ويتمايل بحسب اتجاه الرياح السياسية والسلطة.

 

“هل بدأ يعتقد أن الأمير الثاني لم يعُد يملك فرصة للنجاح…؟”

 

إن كان ميزان مِريان قد بدأ يميل تجاه سيريس، فمن الطبيعي أن يتعامل بحذر ولا يدفع الأمور إلى أقصى حدودها.

 

“ولكن، لا يمكننا التغاضي عن الشبهات الكثيرة التي تحوم حول الكونتيسة المقرّبة من الأمير الأول. لا يمكن تجاهلها ببساطة.”

 

“ألم تقل إنها لا تملك قوة مقدسة؟ إذًا، ما الذي يمكنها فعله؟”

 

لجنة التحقيق في القوة المقدسة، وكما يوحي اسمها، لا تتدخل إلا في الحالات المرتبطة مباشرة بالقوة المقدسة. لذا، إن لم يكن لما فعلته ديارين علاقة بالقوة المقدسة، فسيتم التعامل معه كقضية جنائية عادية، وسيُسحب يد اللجنة منها.

 

“سأقترح استخدام كتاب الحكم.”

 

“!”

 

حبست ديارين أنفاسها.

 

كتاب الحكم.

 

مجرد رؤية هذا الشيء يعني أن المرء قد أصبح طرفًا في قضية بالغة الخطورة.

 

الاسم أُطلق عليه لأن الكذب أثناء وضع اليد عليه يؤدي إلى إنزال العقاب الإلهي فورًا.

 

وإن تم التلاعب بطريقة طرح الأسئلة، فمن الممكن توجيه التهمة لـ ديارين من زاوية منحرفة.

 

عادةً، الكهنة لا يرون هذا الكتاب أبدًا طوال حياتهم. لأنه لا يُستعمل إلا في القضايا الكبرى النادرة.

 

شعرت ديارين فجأة بأنها غارقة بالكامل في صراع القوى بين أفراد العائلة الإمبراطورية.

 

“…حسنًا، سأثق فيك إذًا، أيها النائب.”

 

“اترك الأمر لي بثقة. …آه، ولكن جلالتك أيضًا يجب أن تهيئي الأجواء جيدًا. رغم أن أعضاء لجنة التحقيق في القوة المقدسة معروفون بالتشدّد، إلا أنهم بشر، لهم عيون وآذان أيضًا.”

 

اكتفى إندين بالقهقهة بازدراء وغادر الغرفة.

 

وبقي نائب الكاهن مِريان وحيدًا، وبدأ يتمتم دعاءً بصوت خافت.

 

“يا إلهي، الموجود في كل مكان…”

 

لكنه بدا ككاهن لا يليق به الدعاء على الإطلاق.

 

 

الانستغرام: zh_hima14