<إنه لي.>
“لا، لا، ليس بعد…!”
صرخت ديارين وهي تعانق جسد سيريس وتبدأ بالعودة من حيث أتت.
كان عليها أولًا أن تسحب سيريس إلى مكان آمن.
“آه…!”
كان جسد سيريس ثقيلًا، ومع فقدانه للوعي وارتخاء جسده، لم تستطع ديارين أن تسحبه أكثر من ثلاث خطوات في كل مرة مهما بذلت من جهد.
ومع ذلك، كانت ديارين تعض على أسنانها وتتابع المحاولة بكل ما أوتيت من قوة.
لم تكن بعيدة جدًا عن مدخل الغابة، لكن بينما كانت تسحب سيريس وتتوقف كل ثلاث خطوات لالتقاط أنفاسها، بدا الطريق طويلًا بلا نهاية.
وفي أثناء ذلك، كانت النيران تزداد اشتعالًا.
وباتت رؤيتها تضعف شيئًا فشيئًا.
“يمكنني فعلها…!”
تابعت ديارين طريقها بعناد.
حتى وإن ماتا سويًا هنا، لم تكن لتترك سيريس خلفها.
“سيريس…!”
عندما كانت على وشك الموت في ساحة المعركة، أو حين كادت تموت من الإرهاق، تمسكت دومًا بفكرة أنها لا تستطيع الموت بعد، لا يمكنها أن تموت الآن.
كانت تفكر دائمًا بأنها ستنجو، وستترقى، وستحظى بأيام أفضل. وحتى أنها أقسمت في نفسها أنها إن ماتت يومًا، فلن تسامح من كان السبب.
لكن الآن، رغم أنها تدخل بقدميها إلى فوهة الموت، لم يكن في قلبها أي حقد.
كانت متأكدة من شيء واحد فقط: إن فقدت سيريس، فإنها ستعيش بقية حياتها تلعن نفسها وتندم حتى الموت.
“معالي الكونتيسة!”
“سمو الأمير! هنا! هنا!”
عندما تعثرت ديارين من الإرهاق، التقت بالناس الذين تأخروا في اللحاق بها.
أُسقطت بطانية مبللة فوق رأس ديارين.
نظرت بعينين باهتتين خلفها.
وكان الناس يندفعون نحو سيريس، يحيطون به ليساعدوه.
“سيريس…!”
“نعم، سنهتم به، بسرعة…!”
“سيريس!”
كانت ديارين قد فقدت نصف وعيها.
بين الخوف القاتل من فقدان سيريس، وتهديد النيران المتزايد، كانت حياتها أيضًا على المحك. لم تكن بكامل وعيها.
بدأ الناس بحمل سيريس والركض به نحو مدخل الغابة.
وتمسكت ديارين بيده وركضت بجانبه. لم تستطع تحمل حتى لحظة واحدة من البعد عنه.
“سيريس…! سيريس!”
“لقد وصلنا!”
حاول الآخرون تهدئتها، لكن أصواتهم لم تصل إلى أذنيها.
ثم فجأة، شعرت بنسيم بارد يلامس وجهها. لقد خرجوا من الغابة.
كان محيط المعسكر قد أُعد مسبقًا، وقُطعت فيه الأشجار كي لا تتمدد النيران.
“وجدنا الأمير الأول!”
“أحضروا الطبيب بسرعة!”
“الكاهن!”
تم وضع سيريس على سرير نُصب خارجًا.
كان الشرشف الأبيض ناصعًا كالكفن. وكان وجه سيريس، وهو فاقد للوعي، شاحبًا بشكل غريب. طُبع ذلك المشهد في عيني ديارين وكأنه ضوء حارق.
“ارجوك، اتركيه الآن يا كونتيسة. أنا الطبيب.”
أُبعدت ديارين عن جانب سيريس.
تجمّع الطبيب والكهنة حوله، ولم تعد تراه.
“سيكون بخير، كونتيسة. سيكون بخير،…”
همس أحدهم بجانبها وهو يمسك بيدها كما لو كان يصلي. لكنها لم تلتفت. لم تكن تريد شيئًا سوى رؤية وجه سيريس.
“سيريس…”
لم يكن اسمًا فحسب، بل كل ما خرج من فمها.
كان الفريق الطبي يتحرك بسرعة، لكن ديارين لم تتحمل. دفعت من كان يمسك بها، ونزعت أيديهم، وتقدمت نحوه.
“ما هذا…!”
“أنفاسه!”
في تلك اللحظة، دوى صراخ بين الفريق الطبي.
وفهمت ديارين فورًا ما تعنيه تلك الصيحة.
“ابتعدوا!”
لم يتمكن أحد من إيقافها وهي تندفع بجنون.
دفعت الطبيب وانكبت على صدر سيريس. وجهه كان شاحبًا مثل الغطاء الأبيض تمامًا.
كان كاهنان يمسكان بيديه وساقيه، يتصببان عرقًا وهما يصبان عليه قواهما الروحية.
“سيريس…؟”
كانت يده متدلية من السرير، تتأرجح بلا حياة.
“ما الذي يحدث؟”
حتى الإمبراطور، الذي كان يراقب الوضع، اقترب وسأل.
لكن لم يستطع أحد الإجابة.
تراجع الكهنة بخجل وقد نضب نورهم الإلهي.
اقتربت ديارين ببطء، ومدّت يدها نحو صدر سيريس.
“سيريس…”
لم يكن هناك نبض.
توقف العالم.
“سيريس! سيريس! افتح عينيك!”
صرخت ديارين وهي تهز كتفي سيريس بعنف.
كان سيريس يفتح عينيه حتى لأدنى همسة. أما الآن، فمهما صرخت ديارين بصوتٍ عالٍ أو هزّت جسده بقوة، لم يفتح عينيه.
“هذا هراء! لا يمكن أن يكون حقيقيًا!”
صرخت ديارين وهي تضغط بكلتا يديها على صدر سيريس.
لم تستطع أن تتركه بهذه الطريقة. لم تستطع أن تسلمه للموت.
كان يجب أن يكون سيريس إلى جانبها.
مهما كان الثمن، لن تتخلى عنه.
حتى لو جاء الحاكم نفسه ليأخذه، فستقاتله.
“إنه لي.”
وبقلبٍ ينزف ألمًا، صبّت ديارين كل ما تملك من طاقة مقدسة في صدر سيريس.
ما قيمة الدم؟ حتى روحها، وحتى قواها المقدسة، كانت مستعدة لبذلها كلها.
فقط إن لم تكن مضطرة للتخلي عن سيريس.
“آه…!”
تألّق الهواء المحيط بديارين وسيريس بألوان قوس قزح.
وفتح الجميع أعينهم على اتساعها وهم ينظرون إلى هذا المشهد غير المسبوق.
القوة المقدسة لا تُرى بالعين، لكنها طاقة، مثل الريح التي لا تُرى ولكن تُحسّ.
وعندما تبلغ أقصى مداها، يمكنها أن تحني النور نفسه.
وتدفقت قطرات من الضوء بألوان الطيف من الأرض وانتشرت في كل مكان.
✦✦✦
“سيريس!”
استيقظت ديارين فزعة تنادي عليه.
“همم؟”
أجاب سيريس بهدوء وهو نائم.
نظرت ديارين حولها من فوق السرير، ثم رأت سيريس مستلقيًا إلى جوارها.
وعندما رآها تحدق به، أومأ لها برأسه.
“أنا هنا.”
“سيريس…؟”
“نعم.”
مدّت ديارين يدها بتردد.
وظلّ سيريس في مكانه يتلقى لمستها بهدوء.
وضعت راحة يدها على صدره تتحقق من نبض قلبه. كان يرتدي قميصًا رقيقًا فقط، فشعرت بنبضه وحرارته يتسللان إلى يدها.
“هل تشعرين به؟”
“نعم…”
“ستشعرين به أكثر هكذا.”
ثم فتح سيريس طرف قميصه وأدخل يدها تحته، ليلامس جلدها بشرته مباشرة.
ارتجفت ديارين خجلًا من ملمس بشرته الملساء والمباشرة.
“أنا حيّ.”
قالها سيريس وهو يمسك بمعصمها ويثبت نظره في عينيها.
وكان حيًا بالفعل، حرفيًا.
اهتزاز عضلات صدره، دقات قلبه القوية… كلها دلائل على أنه حيّ.
لكن أكثر من ذلك كله، كانت نظرته الثابتة إليها أكبر دليل.
“نعم…”
بدأت تهدأ تدريجيًا من الرعب الذي أحسّت به في نومها.
وعندما هدأت، بدأت تشعر بالحرج لأنها لا تزال تضع يدها على صدره العاري. كانت أقرب لوضعية الانبطاح فوقه.
“هذا يكفي…”
سحبت ديارين يدها ونهضت.
عبّر سيريس عن خيبته بطقطقة لسانه:
“كنتِ تستطيعين التأكد أكثر…”
“لا، لا داعي.”
رفضت بشدة.
لو كانت هذه أول مرة، لكانت قد هربت مرعوبة. لكنها أصبحت معتادة على هذا منذ عودتهما إلى القصر، حيث كان هذا يتكرر كل ليلة تقريبًا.
“هل نمت في سريري مرة أخرى؟”
قالت ديارين بتأنيب متأخر.
“ديارين هي من نادتني.”
“لا تكذب.”
“أقول الحقيقة.”
“…”
ولم تستطع أن تنكر ذلك تمامًا الآن، فقد بدا حقيقيًا.
منذ نهاية مسابقة الصيد، كانت ديارين تعاني من كوابيس كل ليلة. ترى سيريس في ذلك المشهد المرعب عندما توقف قلبه.
والحقيقة أن سيريس استعاد وعيه في نفس اليوم، وصعد إلى العربة ماشياً على قدميه. ولم يعانِ من أية مشاكل صحية بعد ذلك.
المشكلة لم تكن في صحة سيريس.
بل كانت في قلق ديارين الذي لم يعد يعرف نهاية.
“عندما تتحسن ديارين، سأعود إلى غرفتي.”
“أه… حسنًا…”
قالها وكأنه أتم مهمته. نهض سيريس وغادر إلى غرفته.
حدّقت ديارين بشرود في ظهره وهو يبتعد.
ثم تسلّل إليها الخوف.
“سيريس!”
قفزت ديارين من السرير وركضت نحوه حافية.
تعثرت طرف قدمها بالسجاد وكادت تسقط، لكن سيريس التقطها بسرعة.
“آه…!”
سقط كلاهما على الأرض متشابكين.
وتأخرت أطراف رداء نومها في النزول مع حركة السقوط.
لكن أنفاس ديارين المتسارعة لم تهدأ مع ذلك.
“هاه… هاه…!”
“ديارين، أنا هنا، لا بأس.”
جذبها سيريس إلى حضنه وأسند ظهره إلى الباب.
وارتمت ديارين عليه كدمية، تضع أذنها على صدره، تلهث باضطراب.
كان سيريس يربّت على ظهرها بهدوء وحنان.
وكان جسد ديارين يرتجف ارتجافًا مؤلمًا.
ثم، في لحظة انفجار مشاعر الخوف، انهمرت دموعها.
كانت خائفة.
خائفة من أن تفقد سيريس.
خائفة أن يختفي من هذا العالم إلى الأبد.
“أنا بخير. أنا هنا. لا بأس يا ديارين…”
قالها سيريس بهدوء، وديارين أغمضت عينيها وأطلقت تنهيدة عميقة.
سقطت دمعة من زاوية عينها.
ثم تشبثت برداء سيريس بكلتي يديها، وبصوتٍ مخنوق همست بكل ما في قلبها:
“لا تذهب…لا تذهب إلى أي مكان لا أكون فيه.”
“حسنًا.”
أجابها سيريس بصوتٍ مطمئن.
رغم أنه كاد يرحل عنها مرة واحدة بالفعل.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 154"