نظرت إليه ديارين ببرود قبل أن تصفع فمه المزعج بكف يدها.
“أوه، هذا مؤلم.”
عبس سيريس وهو يرمق ديارين بنظرة حانقة.
لكن ديارين لم تحرك ساكنًا.
“يا لهذا، حتى التذمر صرت تُجيده.”
“أقسم، لقد آلمتني فعلًا.”
“وتكذب أيضًا.”
“لو أن ديارين فقط نفخت عليه…….”
“تشه.”
“……لقد شُفي تمامًا.”
لا شك أن ذكريات كونه أميرًا قد عادت إليه، لكن لماذا لا يزال يتصرف كالأطفال؟ بل وكأنه أصبح أكثر طفولية من ذي قبل.
في الواقع، بدا وكأنه يزداد صِغَرًا مع مرور الوقت.
من وحش، إلى أمير ناضج، ثم إلى طفل مجددًا… ما الذي يحدث بالضبط؟
‘…هل لأن ذكرياته اندمجت مع ذكرياته حين كان طفلًا؟’
كان هذا أقرب ما يكون إلى تخمين. لا يزال سلوك سيريس الغريب محاطًا بالغموض.
ربما يتعمد التصرف على هذا النحو رغم امتلاكه للذكريات. لكن، لمَ يفعل ذلك؟
نظرت ديارين إلى سيريس بعينين مليئتين بالريبة.
“إياك أن تلمس شفاه أي شخص آخر غيري.”
“هاه؟ لن أفعل! ولماذا قد أفعل أصلاً؟”
ضحكت ديارين ضحكة خفيفة بسبب الطريقة الغريبة التي فهم بها سيريس كلامها.
هي فقط صفعت شفتيه لأنها كانت تنطق بالكلام المزعج بشكل ظريف، أما أن يفعل أحدهم هذا مع شفاه شخص آخر؟ هذا تحرش صريح.
لو تلفظ أحدهم بذلك لغيره، لكان الأمر يستدعي إمساكه من تلابيبه وتسليمه للشرطة، أو الدعاء عليه بلعنة إلهية.
“…لن أفعل، حسنًا؟”
بدأت ملامح سيريس تلين قليلاً بسبب احتجاج ديارين العنيف.
ومع كونه بهذه اللطافة، فإن الأمر انتهى عند صَفعة خفيفة على شفتيه ليس إلا.
لأنه سيريس.
اسم “سيريس” أصبح بمثابة رخصة غفران لا نهائية بالنسبة لديارين.
‘…مميز؟’
إلى أي حد يمكن أن يصبح هذا الشخص مميزًا أكثر؟
‘لا، لا. استفيقي. لقد وقعت في فتنته.’
شعرت ديارين بالإحراج فجأة وسارعت بتغيير الموضوع.
“هم، هم. على أية حال. ربما مساعد الكاهن الأكبر قد شكّ في الأمر. لقد شعرت بطاقة مقدسة تصدر منه قبل قليل.”
سيريس بدوره أدرك أن عليه التركيز ومراجعة الوضع الآن بجدية.
تخلى عن هوسه بشفاه ديارين وبدأ يستمع لكلامها بانتباه.
“هل يعني هذا أن طاقتك المقدسة أقوى من طاقته؟”
“أجل، صحيح.”
وبما أن سيريس عاش فترة كافية وشاهد الكهنة عن قرب، فقد أصبح ملمًا إلى حد كبير بمفاهيم الطاقة المقدسة والكهانة.
“لكن، تذكري… لقد استعادتِ ذاكرتي، وغيّرتِ لون شعري، وحتى اليوم غيرتِ لون الحليب. ربما بدأ يشك في أنك كاهنة.”
“همم.”
كانت ديارين قد شرحت سابقًا سبب خطورة كشف هويتها الحقيقية ككاهنة.
رغم أن الوضع قد تغير الآن مقارنة بالماضي، فإن انكشاف أصلها لا يزال أمرًا غير مرغوب فيه. إلا أن الفرق الآن هو أنها لم تعد عاجزة كما في السابق، بل باتت تمتلك القوة.
“لكن، لو ذهبنا إلى المعبد الذي كنت فيه وقالوا: ’لا نعرف كاهنة اسمها ديارين‘، فستنتهي المسألة ببساطة، أليس كذلك؟”
ولا حاجة لأي جهد كبير. كل ما يلزم هو رشوة معبد صغير في الريف، وتنتهي القصة.
فقط تخيّل أن أحد الكهنة العاديين، الذين اعتادوا الانحناء والركوع دومًا، يرفع رأسه فجأة ويطلب حضور الكاهن الأكبر شخصيًا… لمجرد هذا التفكير، تشعر ديارين بالمتعة.
“لنذهب فورًا! فورًا!”
ربما لهذا السبب، تنتشر في الروايات مواضيع العودة بالزمن والانتقام.
فهي حياة قد تغيرت كما لو أنها وُلدت من جديد. وقد آن الأوان الآن للذهاب وردّ الصاع صاعين للكاهن الأكبر.
✦✦✦
كان الوصول إلى المعبد الذي نشأت فيه ديارين يتطلب عدة خطوات.
في البداية، استقلوا عربة من القصر الإمبراطوري متظاهرين بالخروج في نزهة قصيرة، ثم نزلوا في منتصف المدينة ليغيروا لون شعر سيريس ولون عينيه. بعد ذلك، استقلوا عربة أجرة متجهة نحو المعبد.
وكان اليوم يعج بالحركة، يكاد يضاهي أجواء المهرجانات.
خرج كثير من الناس وهم يرتدون ملابس فاخرة، لذا لم تكن ملابس ديارين وسيريس ملفتة للنظر بشكل كبير.
ومعبد ديارين، مقارنةً بالمعبد الكبير، كان أشبه بكوخ ريفي صغير. لكن وبسبب خصوصية اليوم، كان المعبد يعج بالناس.
“هيا، لندخل.”
تشبثت ديارين بذراع سيريس وشقت طريقها بثقة وسط الحشود.
وفي مثل هذه الأيام، يكون المرور عبر الممرات الخاصة بالكهنة مراقبًا بشدة. ورغم أنها تملك الحق في الدخول من هناك، فإنها لم تفعل.
‘الدخول من البوابة الرئيسية أكثر إثارة!’
حتى ثيابها بدت وكأنها تعانق السماء من شدة الثقة بالنفس.
وهي ترتدي زِيًّا لا يُستهان به حتى داخل القصر الإمبراطوري، فكيف سيكون تأثيره في هذا المعبد الصغير والمتهالك؟
وفعلًا، ما إن ظهرت ديارين وسيريس حتى بدأ الناس يرمقونهما بنظرات جانبية ويتحدثون همسًا.
“من هؤلاء؟”
“هل توجد عائلة ثرية إلى هذا الحد في الجوار؟”
“لم أرهم من قبل ولو لمرة واحدة…”
حتى أولئك الذين اعتادوا التردد على المعبد لم يتمكنوا من التعرف على ديارين.
كانت تظن أن الجميع قد لا يعرفون سيريس، لكن على الأقل سيعرفونها هي… لكن يبدو أن الناس لم يحفظوا وجهها، بل تذكّروها من خلال زيّ الكهنة فقط.
حين كانت تعمل هنا ككاهنة، كانت ترتعد من الخوف كلما دخلت هذه الغرفة، خشية أن تكسر شيئًا عن طريق الخطأ. لكنها الآن حين تنظر إليها، لم تعد تبدو بتلك الفخامة.
“تلك المزهرية… الكاهن الأكبر كان يقول إنها ثمينة جدًا لدرجة أنه نهانا حتى عن تنظيفها.”
“…تلك؟”
“مثير للسخرية، أليس كذلك؟”
حتى سيريس بدا وكأنه غير مصدق، مما طمأن ديارين بأن نظرتها ليست غريبة.
كوب الماء العادي في القصر الإمبراطوري أفخم من هذه المزهرية، بل ومن المؤكد أنه أغلى منها.
لقد تغير العالم بالفعل.
ولم تعد ديارين تشعر بأنها نفس الشخص القديم. إن التقت بكاهنة ديارين القديمة الآن، فربما ستشعر بأنها تنظر إلى غريبة.
الإنسان كائن بسيط فعلًا.
“عذرًا، هل أنتم من طلب رؤيتي…؟”
في تلك اللحظة، طرق الكاهن الأكبر الباب ودخل، مبتسمًا بلطف كما يليق بكاهن.
يبدو أن الكاهن الأصغر قد نقل الرسالة بشكل جيد جدًا.
“ثريّ”، “نَبيل”.
أي: “إن عاملته بلطف، ستحصل على تبرعات وفيرة”.
“كنت أبحث عن صلاة خاصة.”
“آه، هل هذا هو السبب؟”
“نعم. وقد يطول الحديث، لذا تفضل بالجلوس أولًا.”
“حسنًا، إذن…”
حتى تلك اللحظة، لم يتعرّف الكاهن الأكبر على ديارين.
ابتسمت ديارين وجلست قبالته تنظر إليه بثبات.
“……؟”
الكاهن الأكبر نظر إليها دون أن يفهم شيئًا.
ثم فجأة، اتسعت عيناه في صدمة.
“……! ك-كاهنة ديارين؟!”
“ها قد تعرفت علي أخيرًا، أليس كذلك؟”
ضحكت ديارين بخفة.
ظل الكاهن الأكبر فاغرًا فاه من الدهشة.
“لا أصدق… هل أنت على قيد الحياة؟!”
“آه… إذن ظننتني ميتة.”
“كنا نظن أنكِ قُتلتِ في حادث الانفجار…”
لو أن روبن لم يتواصل معهم بعد الحادث، لما كان لديهم سبب للشك.
“…هل أخبرتِ والديكِ؟”
“لم تسنح لي الفرصة بعد… ثم إنني من الناحية الرسمية، في عداد المفقودين فقط.”
أي أنها لم تُسجل كمتوفاة، بل كمفقودة. وهذا مريح جدًا بالنسبة للمعبد، إذ يمكنهم التهرب من دفع أي تعويض مالي، وكذلك التهرب من أي مسؤولية.
ضحكت ديارين بخفة على هذا العذر المكشوف. أما الكاهن الأكبر فقد أنزل عينيه بارتباك.
“لم تحاولوا حتى البحث عني.”
“ح-حسنًا، السيد روبن كان المسؤول المباشر، وظننا أنه سيتواصل معنا عاجلًا أم آجلًا…”
“آه، حسنًا. أنا الآن تابعة للقصر الإمبراطوري، وليس للمعبد.”
“هذا ليس المقصود تمامًا…”
“لنحافظ على هذا الوضع إذن.”
“ماذا؟”
رفع الكاهن الأكبر رأسه في دهشة.
رفعت ديارين كتفيها بابتسامة. لم تعد تهتم بالحصول على راتب أو مستحقات. ما يهمها الآن هو إسكات الجميع.
“لكن مصطلح ‘مفقودة’ لا يزال غامضًا بعض الشيء… إذًا، لنجعل القصة على النحو التالي: كانت هناك كاهنة تُدعى ديارين، وقد عادت من ساحة المعركة ثم ماتت بعد وقت قصير. لم يكن لديها أهل، فتم دفنها بهدوء.”
“ماذا؟”
“وأنا الآن أعمل كمساعدة مقربة جدًا لهذا الشخص.”
“وهذا الشخص هو…؟”
عندها فقط التفت الكاهن الأكبر ليرى سيريس بجوارها.
رفعت ديارين السحر الذي كانت قد وضعته على شعر وعيني سيريس.
“آه!”
تعرف عليه الكاهن الأكبر فورًا وابتلع شهقته من الذهول.
“هل تعرف من هو؟”
“سـ، سـ، سمو الأمير الأول كيرنديارس… أليس كذلك؟”
“ثلاثة أمراء في العائلة… ومع ذلك تمكنت من تمييزه بسرعة.”
“حسنًا، الأمير الثالث صغير جدًا في السن، أما الأمير الثاني فلا يمكن أن يقوم بزيارة كهذه بصمت…”
كان تحليله دقيقًا جدًا.
أعجبت ديارين بذكائه وتابعت الحديث بنبرة أكثر سلاسة.
“أحسنت، بما أنك تعرف من هو، فسيكون حديثنا أسهل بكثير الآن، أليس كذلك؟”
بلع الكاهن الأكبر ريقه بصعوبة وهز رأسه بالإيجاب.
نعم، لقد تغير الزمن فعلًا.
أن ترى الكاهن الأكبر المخيف، الذي كان دومًا مرعبًا ومتجهمًا، واقفًا الآن أمامها بهذه الهيئة المتوترة… لا بد أن تعيش طويلًا لترى كل شيء.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 146"