شعرت ديارين بانقباض في أمعائها من شدة التوتر. فإندين كان شخصية عظيمة قادرة على التلاعب بحياتها كما يشاء.
لكن ديارين أخفت توترها، وابتسمت على نحو أوسع متعمدة.
“أعتذر لتدخلي الجريء. لم أتمالك نفسي من الحماسة فاندفعت دون قصد.”
“من تكونين؟”
“صديقة مقربة من سمو ولي العهد الأول… هذا الوصف مناسب على ما أظن.”
لم يكن اندين يسأل عن اسمها، بل عن علاقتها بسيريس. لذلك وضعت ديارين التأكيد على علاقتها به.
“صديقة مقربة؟ يبدو أن أخي لم يكن يقاتل فقط في ساحة المعركة، بل كوَّن صداقات أيضاً.”
قالها اندين بسخرية.
كانت الابتسامة لا تزال مرسومة على فمه أمام الجميع، لكن عينيه خلت تماماً من أي أثر للضحك. كانت نظرته الثاقبة لديارين باردة لدرجة تقشعر لها الأبدان.
لكن ديارين لم تتراجع.
رغم أن اندين يمكنه أن يُنهي حياتها في لحظة، إلا أن ديارين اعتادت الحياة وسط هذا النوع من الخطر.
كانت على وشك الموت عندما طُردت حافية القدمين في الشتاء بسبب شجار مع شقيقها، وكادت تموت جوعاً بعد طردها من المعبد بسبب تحديها للكاهن الأكبر، وكادت تُقتل في ساحة المعركة عدة مرات بسبب أوامر غير منطقية.
‘على كل حال، أنا ميتة عاجلاً أم آجلاً!’
ديارين لم تعد تملك ما تخسره منذ زمن بعيد.
الناجون سيبقون أحياء مهما حدث، أما من كُتب له الموت فسيموت.
حتى الكلب المسعور الذي كاد يقتلها، أصبح في النهاية كلبها الأليف.
ولن يشهر الأمير الثاني سيفه ويهاجمها على الفور، أليس كذلك؟ إذن فلتغتنم الفرصة وتقاوم قدر المستطاع.
“نعم، هذا صحيح. حين لا تعرف متى ستموت، لا مجال للكذب. انفتح القلب، وأصبحت العلاقة صداقة. وإذا كان كل منا قد أنقذ حياة الآخر، فلا توجد صداقة أعظم من ذلك.”
رغم أن لقاؤهما في ساحة المعركة كان كذبة، لكنهما كانا في نفس الجانب، وعلى نفس الجبهة، وربما التقيا صدفة. هذا يكفي ليُعتبر بداية لعلاقة.
ورغم وجود فارق زمني، إلا أنهما أنقذا حياة بعضهما البعض بالفعل.
لقد واجها الموت مرات عديدة في الحرب، وديارين كادت تموت عدة مرات بسببه أيضاً في القصر.
“أنا لم أكذب.”
قالتها ديارين بثقة تامة.
“صداقة، صداقة إذن.”
كان واضحًا أن اندين لا يصدق تماماً ما قالته.
كانت نظرته الحادة تفحصها كما لو كان يحاول كشف إن كانت جزءًا من قوة معادية تم تجنيدها من مكان ما.
“تجولتِ في ساحة المعركة بجسدكِ النحيل… كيف لم أسمع قصصًا عن شجاعتكِ من قبل؟”
كان يحاول الآن أن يشكك في تاريخها ومصداقيتها.
لكن ديارين كانت قد خاضت تلك المعاناة فعلاً، لذا لم تتحمل محاولة إنكارها.
“هذا لأن سمو الأمير الثاني كان دائمًا في الأماكن الآمنة.”
قالتها بانفعال، وصدمت اندين بها.
… يبدو أن الجنون مُعدٍ.
سمع الحاضرون صوت أنفاسهم المتقطعة في كل مكان. حتى سيريس التفت لينظر إلى ديارين.
لقد قررا أن يتصرفا بجنون معاً، لكنها وحدها التي تبدو وكأنها فقدت عقلها.
“حتى بجسد ضعيف، هناك الكثير مما يمكن فعله في ساحة المعركة. ولا أقصد بذلك ما يخطر في بال سموكم من أمور تحصل فوق السرير.”
كلمات ديارين المفاجئة جعلت عيني اندين تهتز.
كانت عبارتها “ما فوق السرير” تشير إلى أن ديارين تعرف شيئًا، وهو أمر مزعج جدًا بالنسبة له.
ذلك الأمر بحد ذاته لم يكن مهمًا. فالموضوع المرتبط بالأمير الثالث قد تمت تسويته على يد الإمبراطور. ولن يحدث شيء حتى لو أُعيد الحديث عنه الآن.
لكن المشكلة أن ديارين يبدو أنها عرفت بالأمر.
وهذا يعني أن الإمبراطور يدعمها.
ضيّق اندين عينيه.
“تبدو صديقة مقربة ذات كفاءة عالية.”
“نعم.”
أجابت ديارين بلا تردد.
كانت إجابة واثقة لدرجة أذهلت اندين نفسه.
لكن ديارين ظلت ثابتة، وأومأت برأسها.
“قد لا أكون جيدة في أشياء كثيرة، لكن لدي ثقة كبيرة في كفاءتي.”
“هل تجيدين استخدام السيف كجنود الكتيبة الثامنة؟”
“ليس سيفًا للقتل، بل سيفًا للإنقاذ. وأجيده إلى حد ما.”
لو اعتُبر سيف العدالة المستخدم ضد الأشرار سيفًا، فهي إذاً تجيد استخدامه.
كانت ديارين تتجاوز الكثير من التفاصيل، لكنها حاولت إيجاد تشابه بأي شكل. فهي تُنقذ الأرواح، وهذا يكفي.
ولن يطلب أحد منها أن تُجري عملية جراحية هنا والآن، لذا كان يمكنها الادعاء بلا قلق.
في الواقع، هناك العديد من النساء في ساحة المعركة.
وليس فقط البغايا اللواتي يتبعن الجنود، بل أيضًا من يعملن في التنظيف، الغسيل، الخياطة، والطبخ، وغالبًا ما يكن نساءً. والكاهنات جميعهن نساء، وكذلك العديد من الطبيبات.
“… طبيبة إذن.”
“نعم، فجنود الوحدة الثامنة الذين يقاتلون في أخطر الأماكن هم الأكثر عرضة للإصابات. لقد أنقذت حياته وهو على وشك الموت. لا توجد علاقة أقرب من تلك التي تنشأ بين من أنقذ حياته ومن أُنقذت حياته.”
لم يكن في كلام ديارين أي ثغرة.
ومع ذلك، لم يستطع إندين التخلص من شعور مريب. لا بد أن هناك شيئًا آخر.
وبينما كان يسترجع أفكاره، تذكّر اللحظة التي حاول فيها السخرية من لون شعر سيريس. في تلك اللحظة، كان تركيزه منصبًا على سيريس، حتى أنه لم يلحظ ديارين، لكنه الآن أدرك أنها كانت محقة.
“يبدو أن الطبيبة تملك مهارات أخرى، أليس كذلك؟”
لم يكن بإمكان إندين تصديق أن ديارين مجرد طبيبة عادية. كل تصرف مريب بدر منها كان كافياً لإثارة شكوكه.
فحتى لو كان هناك رابط حقيقي بينها وبين سيريس من أيام ساحة الحرب، فإنه لا يكفي لتبرير وجودها الآن في قلب صراعات القصر. لا بد أن وراءها أمرًا أكبر. ويجب اكتشافه سريعًا.
“آه، تقصد هذا الأمر.”
قالت ديارين وهي تنظر إلى إصبع إندين الذي أشار إلى شعر سيريس، وابتسمت بخفة.
“حين تتدحرج وسط المعارك، تتعلم بعض الحيل الجانبية.”
تساءلت في نفسها إن كان تصنيف قواها المقدسة كـ”حيل” يعد تجديفًا، لكنها تخلت عن الفكرة بسرعة، وظلت تحدق بثبات في عيني إندين.
ففي الحقيقة، كانت خطة ديارين محكمة ومكتملة حتى قبل دخولها الغرفة. مهما حاول إندين الآن أن يهاجمها، فهي مستعدة.
“هكذا إذن… لا بد أن أخي محظوظ بوجود صديقة وفية تملك تلك الحيل أيضًا.”
تراجع إندين خطوة إلى الوراء. لم يكن أمامه سوى ذلك، فالإصرار على الاستجواب أكثر من هذا سيجعله يبدو سخيفًا.
“بالطبع، ربما أكون أعظم هدية حصل عليها في حياته.”
ضحكت ديارين بصوت عالٍ، ونظرت حولها.
ضحكتها كانت صاخبة لدرجة أن الآخرين، رغم توترهم، لم يستطيعوا إلا أن يبتسموا معها.
حتى شفاه إندين المتجمدة اضطرت أن تبتسم عنوة.
“إذن، أتمنى لكم وقتًا ممتعًا. عليّ أن أنسحب الآن.”
ورغم أن ما قام به كان تراجعًا، إلا أن إندين استدار برشاقة وغادر قاعة الحفل بهدوء.
وبخروج ولي العهد الثاني، تبعه حاشيته فورًا، ومن بينهم نائبة الكاهن الأعلى، ميريان.
“ألم تكن تلك المرأة قد استخدمت قوة مقدسة؟”
لا تزال ميريان مندهشة. فالشاب وصديقه اللذان كانا قد أتيا إليها طالبين نسيان ألم الحب، ظهرا الآن كولي العهد الأول وأقرب مقربيه! صدمة حقيقية.
لم تستطع حتى الآن فهم لماذا حاولا خداعها من الأساس. ومهما حاولت التفكير، لم تصل إلى تفسير منطقي. كان عقلها يعاني من فوضى عارمة، تمامًا كعقل إندين.
“لقد التقيت بها مرة في لقاء شخصي. حتى أني أمسكت يدها.”
قال إندين وهو يسرع خطواته نحو قصر ولي العهد الثاني، ناظرًا إلى ميريان بنظرة جانبية.
كونها كاهنة، لا بد أن لها معرفة جيدة بالقوة المقدسة.
“لم أشعر بأي طاقة مقدسة منها. لا أظن أنها كاهنة.”
ميريان واثقة من قوتها. فهي، بعد كل شيء، أقوى كاهنة في معبد القصر.
لو كانت هناك كاهنة أقوى منها ظهرت في ساحة الحرب، لعلمت بذلك حتمًا.
“السحرة في الأزقة يستخدمون خدعًا مشابهة. كتب شعوذة وقليل من المكونات يمكن أن تُحدث تأثيرًا يبدو حقيقياً. أظن أن هذا ما حدث.”
“إذاً، ولي العهد الأول أحاط نفسه بساحرة شارع رخيصة؟”
“ربما كانت فقط جزءًا من مشهد دخوله، وقد تملك قدرات حقيقية في الخفاء. أو ربما بالفعل تربطه بها صداقة عميقة.”
“هاه! وماذا ينوي أن يفعل في القصر بذلك التفكير الساذج؟”
سخر إندين بمرارة من افتراضات ميريان البريئة.
كان مقتنعًا بأن ديارين تخفي أمرًا أكبر.
صداقة؟ ثقة؟
كل ذلك لا قيمة له. لا بد أن وراء عودة ولي العهد الأول بتلك القوة دعمًا ضخمًا.
“هل كان سيريس حقًا ضمن الوحدة الثامنة؟”
“…سأقوم بالتحقيق.”
فكلاهما، باستثناء الفترة الأولى، لم يكونا على مقربة من ساحة الحرب ولم يعرفا التفاصيل بأنفسهما.
فالوحدة الثامنة كانت تجمع الجنود من مختلف الخلفيات دون التمييز في الهويات، وتُدار بأسلوب يجعل من الصعب تمييز من بقي ومن مات.
كانوا يتدربون ويُقاتلون ويُسحبون للراحة كقطيع، دون تفرقة أو تتبع.
“اكتشف الحقيقة مهما كلّف الأمر.”
كان يجب عليه القضاء عليها أمامه فورًا. لقد تركها، والآن ها هي المشكلة تتفاقم.
والأسوأ أن القائد المسؤول مات في المعركة الأخيرة، فتم تسليم المهمة إلى روبن، الذي أفسد كل شيء.
لقد كان مهملاً. ظن أن من بقي مجرد كلاب محطمة لا تستحق المتابعة.
أصدر إندين صوتًا غاضبًا وهو يضغط لسانه بأسنانه، ثم واصل السير في الممر المظلم.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 127"