فالثاني من الأمراء، الذي كان يحاول منذ البداية طمس وجود الفرقة الثامنة، هو نفسه من تقدم الآن وأعلن عنها وامتدحها أمام الجميع.
‘ما الذي يحدث؟’
تلفّتت ديارين بعينين متوترة بحثًا عن شارلوت.
كانت شارلوت على المنصة، بوجه خالٍ من أي تعبير كدمية، لكنها على ما يبدو كانت مصدومة هي الأخرى، إذ أنها كانت تبحث عن ديارين بعينيها.
والتقت نظرات الاثنتين، وقد امتلأت كلتاهما بارتباك لا تخطئه العين.
وتواصل خطاب الأمير الثاني:
“أعضاء الفرقة الثامنة هم وحدة سرية تابعة لي مباشرة، لا يضمها سوى أولئك الذين أقسموا على ولاء خاص لي. ولهذا، حتى أثناء الحرب، لم يكونوا يسعون إلى الشهرة، بل ظلوا ينفذون مهامهم في الظل بأقصى قدر من السرية، ولهذا لم يعرف أحد حجم إنجازاتهم.”
لم يكن الحضور يعرف أصلًا أن هناك فرقة بهذا الاسم. في الحقيقة، كان بوسع الأمير الثاني أن ينسب النصر بأكمله إلى نفسه ولن يعترض أحد. فكيف له أن يخرج ويشارك المجد مع آخرين؟ لماذا؟
اشتدت حماسة الجمهور، وانصتوا باهتمام بالغ.
“كنت لأتمنى لو اجتمع جميع أفراد الفرقة هنا اليوم، لكن للأسف، لا يوجد سوى ممثل واحد عنهم تمكن من الحضور.”
ثم نزل الأمير الثاني بنفسه من على المنصة.
تبعته العيون المترقبة والمتحمسة، وكل الأنظار باتت مركزة عليه وحده.
وكأنه يستمتع بذلك الاهتمام، أخذ يتهادى بين الحشود بخطى واثقة، حتى توقف أمام شخص خفي بين الجموع.
“!”
بمجرد أن رأت ديارين وجه ذلك الشخص، شهقت وهي تقفز في مكانها.
‘هالت؟!’
إنه هالت.
‘كيف يكون هالت؟ لا، هل كان حيًا طوال هذا الوقت؟!’
لم تعرف إن كان عليها أن تفرح لأنه نجا من الموت، أم أن تغلي دماؤها من الغضب لأنه يقف الآن إلى جانب الأمير الثاني.
ولوهلة فكرت إن كان هذا الشخص مجرد شخص يشبه هالت، فعادت تحدق فيه بتركيز أكبر… لكنه كان هو، دون شك.
‘لكن كيف؟’
إن كان روبن يتنقل منذ البداية بين الأمير الثاني وهذا الطرف، فمن السهل عليه أن يكذب بشأن موت هالت ويخفيه. فكل شيء كان بيد روبن.
لكن ما أثار دهشة ديارين أكثر، أن هالت كان واقفًا هناك بلا حراك، وسط هذا الزحام، دون أن يصيبه نوبة من نوباته.
عيناه كانتا فارغتين، يحدقان إلى الأمام دون تركيز.
“هالت! يا جنديّ المخلص.”
ابتسم الأمير الثاني من أعماق قلبه، ورفع كأسه نحو هالت.
في الأوقات العادية، كان هالت ليفقد أعصابه فور اقتراب أي شيء معدني من وجهه. مجرد اقتراب كأس معدنية كان كافيًا لإشعاله.
“…نعم، سيدي.”
لكن هالت، ببساطة، اكتفى بالرد بهدوء، دون أن يلمس الكأس حتى.
‘هذا ليس طبيعيًا.’
هزت ديارين رأسها.
هناك شيء خاطئ. من المؤكد أن هناك حيلة ما.
مثل تلك الصفارة التي كادت تخنق سيريس، ربما استخدموا سحرًا ما لتحويل هالت إلى دمية.
‘إن كان سحرًا…’
فربما يمكن لديارين كسره، إن حالفها الحظ. لكن ما زال الأمر مجرد احتمال، لا أكثر.
“أيمكنكم رفع كأسكم تكريمًا لهذا الجندي المخلص؟”
توجّه الأمير الثاني بكلمته نحو الإمبراطور.
ابتسم الإمبراطور ورفع كأسه.
إن تم هذا النخب، فستنتهي القصة عند هذا الحد.
هل سيُغلق الباب الآن؟ دون أن تنبس ببنت شفة؟
“لحظة من فضلكم، أرغب في قول شيء.”
تدخل صوت شارلوت فجأة.
“بادئ ذي بدء، أحيي شجاعة الأمير الثاني، وأشيد بولائه النبيل.”
رغم أنها تدخلت فجأة، إلا أن كلماتها خرجت برقة وأناقة.
هل ستكتفي بهذا وتدع الأمر يمر؟ هل تفكر أن اليوم ليس هو الفرصة الوحيدة؟ لكن إن لم تتدخل الآن، فستُسلب الفرقة الثامنة بالكامل ويُنسب إنجازها لغيرها.
تزايد قلق ديارين، وركزت نظرها على شارلوت.
وانتشر الهمس بين الحاضرين.
من حيث المنزلة، شارلوت مجرد محظية للإمبراطور، وحتى على المنصة لم يُخصص لها كرسي للجلوس، فكيف تجرؤ على التحدث؟
“أي جرأة هذه؟”
نبرة الأمير الثاني بدأت تغلي بالغضب.
لكن الإمبراطور لم يوقفها، بل نظر إليها بصمت وابتسامة، كما لو أنه يقول: “تجرّئي وحاولي.”
“أعلم تمامًا أن هذا ليس مكاني، لكنني تدخلت لأنني أعلم أن هناك فردًا آخر من الفرقة الثامنة موجود في هذه القاعة ويستحق التقدير والاحتفال به.”
صوتها ارتجف في نهايته، لكنها أكملت كلماتها حتى النهاية.
في داخلها، حيّت ديارين شجاعتها بصمت.
فقط أن تبدأ المعركة، فهذا بحد ذاته يعني التضحية بحياتك.
“فرد آخر من الفرقة الثامنة؟”
لم يظهر الاضطراب على الأمير الثاني.
فكل هذا تم تخطيطه بخيانة روبن، فلا شك أنه يعلم بوجود سيريس وبقية أفراد الفرقة، ويعرف مصيرهم.
لكن ديارين كانت تتوقع هذا أيضًا.
– “روبن، ماذا عن البقية؟”
– “أغلبهم استشهدوا، والقليل منهم يتلقون العلاج في الأرياف. لم يكن أحد منهم في حالة تسمح له بحضور الحفل، ولهذا استدعينا هالت وحده.”
– “هكذا إذاً؟”
روبن، قبل أن يُذكر اسم الأمير الثاني، كان قد نال مكافأة سخية: لقب مركيز، وأرضين، وصندوقًا من الذهب.
ولذلك فإن شهادته تُعتبر ذات مصداقية مطلقة، بخلاف كلمات امرأة لم تطأ الحرب يومًا، مثل شارلوت.
والآن، حان دور ديارين وسيريس.
دفعت ديارين ظهر سيريس بخفة.
تنفّس سيريس عميقًا كما لو كان يستعد للصعود إلى خشبة المسرح، ثم تقدم بخطوات واثقة نحو الجميع.
“أنا هنا.”
في لحظة، ساد الصمت التام على القاعة التي كانت تضجّ بالهمسات.
صوته، على عكس صوت شارلوت المرتعش، كان واضحًا وثابتًا، صوت يملك قوة طبيعية تفرض الصمت والانتباه.
ديارين تبعته من الخلف بخطوات بطيئة، تشعر وكأنها تسير في استعراض عسكري.
‘لو كان هذا هو القائد الذي سار أمامي يومًا… ربما لما بدا لي ساحة المعركة بذلك الرعب.’
“أنا فرد من الفرقة الثامنة. سيريس.”
في اللحظة التي نظر فيها الأمير الثاني إلى وجه سيريس، اهتزت تعابير وجهه للمرة الأولى.
ظهور سيريس بحد ذاته كان متوقعًا. لكن أن يكون بهذا المظهر، بهذه الهيبة… لم يتصوّر ذلك قط.
لم يعرف لماذا. لم يكن هناك من يستطيع أن يضغط على صدره غير الإمبراطور نفسه. ومع ذلك، شعر بالاختناق أمام هذا “الكلب التابع للفرقة الثامنة”، كما ظنه.
“ما الأمر؟ ما الذي يجري؟”
“فرد آخر من الفرقة الثامنة؟ أليس من المفترض أن يتعرف عليه زميله على الفور؟”
“لكنه لا يبدو وكأنه قاتل في ساحة معركة…”
بدأ الناس يتحدثون، يطلقون تكهناتهم فقط بناءً على مظهر سيريس.
لكن كل ذلك لا يهم.
ما دام قد خطف انتباه الإمبراطور.
والإمبراطور؟ بدا كأنه يشاهد عرضًا مسرحيًا، يدور بين عشيقته وابنه، أكثر من كونه يشهد صراعًا على الحقيقة.
“روبن.”
الأمير الثاني أدار نظره نحو روبن وكأنه يلقي عليه مسؤولية الموقف.
تقدّم روبن إلى الأمام، وملامحه كأنها قد غصّت بجذر نبات مرير. ومنذ لحظة ظهور سيريس، لم تفارق وجهه تلك العتمة الكئيبة التي ازدادت عمقًا.
لكن لم تكن هناك أيّة آمال بأن يراجع روبن نفسه ويعترف بالحقيقة الآن. فلو كان يملك مثل هذا الثبات، لما خانهم من البداية.
“أنا… لم أرَ هذا الشخص ضمن الفرقة الثامنة.”
قالها روبن بصعوبة وهو يشيح بنظره عن سيريس.
“كما سمعتم.”
قال الأمير الثاني بثقة، نافخًا صدره كمن يتحدّى أي أحد أن يفعل شيئًا.
ديارين التقطت نفسًا عميقًا بصمت.
الآن باتت كل أوراق الطرف الآخر مكشوفة.
إنكار وجود سيريس بالكامل، لدفن كل الفظائع التي ارتكبوها تحته.
كان يمكن تغليف وجود الفرقة الثامنة بكلمات جميلة، لكن لم يكن ممكنًا تجميل كيفية تشكيلها، أو تدريباتها، أو الطريقة الوحشية التي تحوّل بها الجنود إلى وحوش. لهذا أرادوا محو كل ذلك من البداية.
استغلالهم لهالت كان مخاطرة كبيرة في حدّ ذاتها، لكنهم اختاروها لأنهم علموا أن سيريس سيظهر، وكان لا بدّ من احتواءه بطريقة أو بأخرى.
لكن في الوقت نفسه، كانت تلك المخاطرة أشبه بمستودع بارود ينتظر لحظة الانفجار، وكانت هذه اللحظة فرصتهم الذهبية.
“هالت.”
ناداه سيريس، لكنه لم يوجّه نداءه للأمير الثاني أو روبن، بل لهالت مباشرة.
خلال الليالي السابقة، ناقشت ديارين مع سيريس كل الاحتمالات، وكان من بينها أن يظهر أحد أفراد الفرقة الثامنة. لم تتخيل فقط أن يكون هذا الشخص هو هالت تحديدًا، لأنه كان الأشد وحشية من بينهم جميعًا.
“…”
هالت، الذي كان يثور لأدنى لمسة من أوراق الأشجار، وقف الآن دون أي رد فعل، حتى مع ظهور سيريس نفسه، أكثر من كان يثير جنونه.
“جندي الفرقة الثامنة، فخركم جميعًا… يبدو أن هالت لا يعرفك.”
“بل يعرفني.”
تقدّم سيريس خطوة أخرى نحو هالت.
ومع ذلك، بقي هالت ساكنًا.
حين لاحظ الأمير الثاني أن هالت لم يتفاعل مع اقتراب سيريس، شعر بالاطمئنان إلى حد أنه تنحّى جانبًا ليترك له المجال.
قيل إن هالت قد ينفجر، لكن ليس بمقدوره التعرّف على الأشخاص أو الدخول في حوار عقلاني بأي شكل.
وللتيقن، رمق الأمير الثاني الكاهن ميريان في الزاوية بطرف عينه، ذلك الذي كان يراقب الوضع باهتمام.
‘لا تقلق.’
أومأ ميريان بهدوء مطمئنًا إياه. لقد ألقى بنفسه تعويذة لمحو الذكريات. وهذه المرة لم يترك له أدنى أثر من وعيه، جعله أقرب لطفل، بل أدنى من ذلك. لا يستطيع سوى قول “نعم”، ولا يملك حتى غريزة البقاء.
كان ينبغي فعل هذا منذ البداية.
‘لمَ لم أفكر حينها أن ذكريات الحرب ستعذّبهم إلى هذا الحد؟’
كان على أحدهم أن يمحو كل ذكرياتهم فور انتهاء الحرب، ليسمح لهم بعيش حياة مسالمة.
شعر ميريان بندمٍ شديد على تقصيره ككاهن.
فبعد الحرب، اختفى أعضاء الفرقة الثامنة بالكامل، كما لو تبخروا من الوجود.
وحين اكتشف أن روبين هو من أخفاهم، انفجر غضبًا.
_ ‘أتريد استغلالهم مجددًا بعد كل ما مرّوا به؟’
طالما بقيت ذكريات الحرب في أذهانهم، فلن يعرفوا طعم السعادة.
_ ‘على الأقل، يسعدني أنني أنقذت هالت.’
شعر ميريان بالرضا لمجرد أنه أنقذ هالت من جحيم ذاكرته.
فهو يثق تمامًا في تعاويذه.
لكن ما لم يكن يعلمه، هو وجود ديارين.
كاهنة قادرة على كسر أقوى التعاويذ التي ظنّها هو عصيّة على الاختراق.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 117"