سيريس، أو كيريندياس، الأمير الأول، كان يحدق في سقف القصر المألوف بصمت، ودموعه تنهمر بلا صوت.
لقد عاد.
عاد بعد طريق طويل، بعد أن تغيرت هويته، عاد إلى القصر الإمبراطوري في لاكلين.
رفع سيريس يديه أمام عينيه وهو لا يزال مستلقيًا.
بدأ يقلب كفيه كما لو كانا يخصان غريبًا، يتفحص مفاصل أصابعه وأظافره بدقة.
كانت يد سيريس بالنسبة لكيريندياس كأنها جديدة تمامًا.
يدان قاسيتان، ممتلئتان بالندوب، خشنات المفاصل.
لكن ذلك لم يكن غريبًا ولا صادمًا.
لم يشعر بأي نفور من جسده.
حول نظره إلى الغرفة التي يرقد فيها.
كانت غرفة ضيقة مزينة بجدران مزخرفة، مثل باقي غرف القصر الإمبراطوري.
لكنها لم تكن مألوفة له.
‘لأنها جناح الأمير الثالث’.
رغم أن ذكريات كيريندياس عادت، إلا أن ذكريات سيريس لم تختفِ.
عالم سيريس كان بسيطًا، ولهذا لم يكن من الصعب التعايش مع الذكريات العائدة.
كل ما حدث أنه أضيفت بضع معلومات باهتة. هكذا بدا له العالم الآن.
لكن تلك الرؤية الباردة للعالم اهتزت عندما التقت عيناه بعيني ديارين.
“…آه…”
حين التقت نظراتهما، لم تستطع ديارين قول شيء.
رغم أن شعره وعينيه عادا للأسود، إلا أنها رأت بوضوح أن نظرته تغيرت.
لم تعرف كيف تناديه أو كيف تتعامل معه.
تجمد عقلها تمامًا، ولم تستطع إلا تحريك شفتيها بصمت، شاحبة الوجه.
كان سيريس ينظر إليها، ثم جلس ببطء.
“آه، لا يجب أن تجلس بعد…”
أسرعت ديارين بمد يدها نحوه، محاولة مساعدته، كما اعتادت أن تفعل، وكأنه شيء ثمين يحتاج الرعاية.
ابتسم سيريس لذلك اللمس.
“أنا بخير.”
“…آه…”
ابتسامة التقت فيها عيناهما.
كانت المرة الأولى.
كان يحمل وجه سيريس، لكنه لم يسبق أن ابتسم بهذه الطريقة.
سحبت ديارين يدها بخجل.
المسافة بين الكرسي بجانب السرير وقلبها بدت أكبر من اللازم، كأنها لا تكفي لتجلس فيه.
“هل… هل تشعر بعدم الراحة في مكانٍ ما…؟”
كانت كلماتها مترددة، لا تعرف كيف تنهي الجملة.
إن خاطبته بدون احترام فذلك وقاحة، وإن استخدمت أسلوبًا رسميًا فذلك لا يليق.
كيف تتحدث معه وهي من اعتادت معاملته ككلب؟ الأمر في غاية الصعوبة.
“…ههه.”
ضحك سيريس لذلك المشهد.
رفعت ديارين رأسها، كانت تركز على طيات الملاءة، لكنها التفتت إليه عند سماع ضحكته.
وهناك كان وجه سيريس، يحمل تلك الابتسامة التي لم تعتد رؤيتها.
“ديارين.”
“…”
“شكرًا لك.”
“؟”
أصيبت ديارين بالذهول.
‘كلبنا قال شكرًا؟ لا، بل سمو الأمير طبعًا.’
‘يبدو أنه أصبح يفهم معنى الإنسانية الآن.’
ضحكته كانت غريبة، لكنها مبشرة. يبدو أنه استعاد إنسانيته أخيرًا.
“…لا داعي للشكر…”
“أشكرك بشكل رسمي. أنا، كيريندياس لاكلين، الأمير الأول لإمبراطورية لاكلين. أشكرك لأنك ساعدتني على استعادة هويتي. واعتنيت بي بإخلاص حتى في غياب ذاكرتي. لن أنسى ذلك أبدًا.”
كلام أنيق.
عبارات طويلة لا تشبه سيريس.
كان غريبًا.
شعرت ديارين وكأنها في غرفة مع رجل غريب. تراجعت خطوة. وفكرت للحظة: ‘أريد الهرب’.
“وسأعوضك أيضًا، بالتأكيد.”
“لا… أقصد، نعم.”
حتى وسط ارتباكها، لم تستطع إنكار كلمة “تعويض”.
وكالعادة، بدت ردود فعل ديارين الجشعة مضحكة لسيريس، فضحك مرة أخرى.
للمرة الثالثة. في هذا الوقت القصير، ضحك ثلاث مرات.
هذا ليس كلبها. ليس سيريس.
“ديارين.”
“…نعم.”
ردت بهدوء، فقط ليرتسم الانزعاج على وجه سيريس.
“لا يعجبني هذا.”
“…نعم؟”
“لا تقولي ‘نعم’.”
“إذًا، إذًا ماذا علي أن أقول…”
كيف تجرؤ على مخاطبة صاحب السمو ولي العهد هكذا؟
كانت ملامح ديارين المرتبكة لطيفة، لكن رغم ذلك لم يكن سيريس يحب الإجابات الخاضعة أو النظرات المنكسرة.
“أنا ولي عهد، لكنني ما زلت سيريس.”
“آه، ن… نعم…”
كانت إجابة ديارين خالية من أي حماس.
كما هو الحال حين يستمع المرء لأحد أصحاب المناصب العالية؛ يكتفي بالإجابة فقط ليرضيه.
لكن سيريس، على عكسهم، أراد الصدق.
“قلت لا تقولي ‘نعم’، لماذا لا تسمعين كلامي؟”
“أ، أنا أسمع…؟”
“تسمعين ‘نعم’؟”
رفع سيريس حاجبيه وصوته مقلدًا أسلوب ديارين، مما أربكها أكثر.
“مهما يكن، أنت سمو ولي العهد!”
“ومع ذلك أنا سيريس!”
“السيد سيريس هو السيد سيريس، لكن… أنت ولي العهد أيضاً…”
“لكنني الآن ما زلت سيريس.”
زمجر سيريس.
كان زمجرته مألوفة، مما بعث الراحة في قلب ديارين. ها هو سيريس الذي تعرفه عاد أخيرًا.
‘لا، لا يجب أن أرتاح لهذا…’
كانت قد بدأت تفرح بتحوّله إلى إنسان أخيرًا.
الغرابة يمكن التعود عليها، لكن جعل الكلب المجنون يتحول إلى إنسان، فهذا أمر صعب حقًا.
“لكن… إن كنت قد استعدت ذاكرتك، فلماذا ما زلت… سيريس؟”
ترددت في استخدام الاحترام أو لا، لكنها في النهاية تحدثت بالطريقة المعتادة.
لكن سيريس لم يزمجر هذه المرة.
“العودة كولي للعهد أمر خطير.”
“؟”
لم تستطع ديارين أن تتخيل السبب. ما الذي يمكن أن يكون أكثر خطرًا من كلب مجنون في ساحة المعركة لا يبحث عنه أحد إن اختفى؟
“لكن نحن في القصر…”
وهو قصره تحديدًا.
ومع ذلك، هز سيريس رأسه. كانت الذكريات التي استعادها طازجة، وكأنها حدثت بالأمس.
“ولي العهد الأول كاد يُغتال، وأثناء هروبه اختطفه تجار بشر، وصار ما صار.”
“…آه…”
حقًا، فحتى الأمير الثالث سيبيان كاد يُغتال أمام أعينهم. لو لم ترَ ذلك بنفسها لما صدقته.
حتى روبن قال إن القصر يبدو آمنًا لكنه مليء بالمخاطر.
توترت ديارين بشدة، ونظرت حولها بقلق.
“لكن ألا توجد فئة تدعم ولي العهد الأول…”
“لا يوجد.”
“ولا حتى جلالة الإمبراطور…”
“لا أظنه يهتم.”
“والوالدة… آه، غير موجودة. عذرًا…”
العجوز التي قالت إنها كانت مربيته لن تكون مفيدة أمام القتلة.
ولا يمكنه الانضمام إلى جانب الأمير الثالث. أما الأمير الثاني، فهو الأسوأ.
لو ظهر ولي العهد الأول فجأة، قد يتحد الاثنان للإجهاز عليه.
“…لا حلفاء إذًا…”
حكت ديارين رأسها معترفة بصحة ما قاله سيريس.
يالها من فوضى. كانت تعتقد أن كل شيء سينتهي بمجرد أن يستعيد ذاكرته…
لكن لا، لم يكن هناك نهاية سعيدة تقول:
“لقد عاد السيد النبيل سيريس إلى مكانه بسلام!”
بل على العكس، الأمور ساءت أكثر. صار ولي العهد، لكن لا مكان يتكئ عليه. بل الأعداء فقط قد ازدادوا.
“…ماذا علينا أن نفعل… أفعل…؟”
ترددت ديارين، تتأرجح بين الاحترام والعامية.
“ديارين.”
“…ها؟ نعم؟”
“ليس لدي أحد سواك.”
قال سيريس بصوت ضعيف ماكر، وهو يحتضن خصرها فجأة.
“آآآه! ما الذي تفعله! هل جننت؟!”
صرخت ديارين وهي تضربه وتحاول الهرب، كانت سريعة جدًا، حتى أن سيريس لم يستطع الإمساك بها.
اختفت من بين ذراعيه في لحظة، وامتلأت عينيه بنظرة حاقدة.
“لطالما كنتِ تقولين أنني مجنون…”
لكن ديارين لم تجرؤ على مغادرة الغرفة وتركه،
فوقفت ملتصقة بالباب، تتصبب عرقًا.
كانت مرعوبة.
كان سيريس الآن أكثر رعبًا من أول لقاء لهما.
في البداية، كان مجرد كلب يعض.
أما الآن، فهو شيء يمكنه فعل ما هو أسوأ من العضة،
بل أشياء لا يمكن لعقل ديارين حتى أن يتخيلها.
“أر، أرجوك، دعني أعيش…”
ناشدت ديارين كما لم تفعل حتى مع الكلب المجنون.
بسبب تلك الكلمات، ازدادت نظرات سيريس الحادة حدّةً واشتدت كأنها نصل.
“ومن قال إني سأقتلك؟”
“أشعر أنك قد تفعل شيئًا أسوأ من القتل…”
“وما أسوأ ما يمكن أن أفعله بك، ديارين؟!”
“أشياء مثل… هكذا… وتلك…”
حتى لو كان سيريس فتاة، لظلّ مخيفًا بنفس الدرجة، لكنه كان شابًا، ولهذا بدا أكثر رعبًا.
وفوق ذلك، لم يكن سيريس الآن ذلك الشخص الذي يندفع بصدق وسذاجة كما كان سابقًا.
“…آه.”
الآن، صار يفكر. بل يمتلك مخططات خفية أيضًا. ولهذا السبب، صار أكثر رعبًا بأضعاف مما كان عليه.
‘ما هذا الـ ‘آه’؟! لماذا تقول ‘آه’ الآن؟!’
أيعقل أنه يعرف جيدًا تلك “الأشياء” التي تتحدث عنها؟ بل الأسوأ من ذلك، أنه لم ينفِ، بل قال “لا”، أي أنه ليس لا يريد، بل فقط لا يُخطط لذلك الآن!
“لا. لن أفعل شيئًا سيئًا.”
“…ماذا قلت؟”
“أعني، إن لم تريدي، فلن أفعل شيئًا.”
“….”
الثقة به كانت قد تحطّمت. في الواقع، لم تكن موجودة من الأساس. فحتى داخل بيتها، كانت تخاف من كلبها المجنون، وقلقها مضاعف خارجه.
أما الآن، فقد تدهورت تلك الثقة، كأنها رُكلت وهي على الأرض، ثم دُعست بالأقدام الموحلة.
“حتى لو قلت هذا، إن رغبت في فعل شيء، فستفعله، أليس كذلك؟”
“ألم تكوني تقولين لي دائمًا أن أفعل ما أريده؟”
هي نفسها من علمه أن يضع رغبته أولًا.
أرادت فقط أن يجرب “الرغبة في الأشياء الجيدة”.
“ذاك كان عندما كنتَ سيريس فقط.”
“وما زلت سيريس.”
هذا صحيح…لكنه الآن أيضًا ولي العهد.
بالنسبة إلى ديارين، لم تكن تلكما الشخصيتان متقاربتين، بل كانتا بعيدتين تمامًا.
رمقها سيريس بنظرات مجروحة.
“مجرد أنني استعدت ذكريات ولي العهد لا يعني أن ذكريات سيريس اختفت، ديارين.”
كونه يبتسم الآن ويتحدث بهدوء عن ماضيه، كل ذلك لم يكن ممكنًا لولا أن ديارين بقيت إلى جانبه.
لولاها، لربما لم يكن ليبقى إنسانًا حتى.
“لهذا، عليكِ أن تتحمّلي مسؤوليتي.”
في عيني سيريس، بدأت تتوهّج نار التملّك. نار كانت ديارين قد شعرت بها من قبل، حين لم تكن تعرف كيف تسميها.
أما الآن، فقد عرفت اسمها:
“أحبكِ.”
لقد كانت حبًا.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 106"