<هل يمكنني البكاء من أجلك؟>
كانت ديارين جالسة على الأرض، تضم ركبتيها، وتحدّق بصمت في سيريس.
هل من المعقول أن يكون سيريس هو فعلاً سمو الأمير؟
هذا الرجل الذي كان حتى وقتٍ قريب مجرد كلبٍ مجنون في ساحة المعركة؟
كانت قد فكرت مسبقًا في احتمال أن يكون سيريس نجلًا لعائلة نبيلة، لكنها لم تتخيل أبدًا أنه شخصية بهذه العظمة.
“لا يعقل…”
لم تستطع ديارين تصديق الأمر، فأنكرت الواقع أمامها.
كانت العجوز قد جلست على الأرض منذ قليل، وراحت تذرف الدموع بلا توقف.
“سمو الأمير… سمو الأميرنا…”
ومن طريقة تصرف تلك المرأة، بدا أن لا مجال للشك.
خاصة مع ذلك اللمعان الرائع والمتلألئ الذي ينبعث من شعره، كقوس قزح متلألئ.
حتى لو لم يكن ولي العهد الأول، فإن هذا وحده دليلٌ قاطع على أنه من سلالة العائلة الإمبراطورية.
الكلب المجنون ذو الدم الإمبراطوري.
هوية سيريس بعثرت كل شيء.
ماذا عليّ أن أفعل من الآن فصاعدًا؟
لم تستغرق الصدمة وقتًا طويلًا.
كان هناك الكثير من الأمور التي يجب التفكير فيها بواقعية.
أولها: كيف يجب أن تتعامل مع سيريس من الآن فصاعدًا؟
هذا كان أول ما شغل عقل ديارين.
فحتى الآن، كانت العلاقة بينهما أفقية نوعًا ما، إذ كانت ديارين تنتمي لعائلة نبيلة لكن وضعها لا يختلف كثيرًا عن العامة، وسيريس كان من العامة لكنه مرشّح لأن يصبح نبيلًا.
أما الآن، فالأمير هو شخص في مقامٍ شاهقٍ جدًا.
هل عليّ التحدث معه بلغةٍ رسمية…؟ أظن أنه يجب ذلك…؟
لكن المشكلة هل ستستطيع أن تنطق بها؟
لقد أمضت كل ذلك الوقت معه ككلبٍ مجنون وراعيةٍ له، فهل ستستطيع تغيير سلوكها فجأة؟
هزّت ديارين رأسها بقوة.
لا، لا يجب أن تفكر بهذا الشكل. الإنسان كائن يتأقلم.
قد يصبح سيريس شخصًا مختلفًا تمامًا الآن بعد أن استعادت ذاكرته.
عندها، سيأتي الاحترام الرسمي تلقائيًا… وستنشأ بيننا مسافة أيضًا…
ومن حيث العلاقة بين ديارين وسيريس، فقد يكون هذا في مصلحتها.
فإذا انكشفت هويته كولي العهد الأول، فلن يكون الأمر متعلقًا بمكافآت وحسب.
بل سيستعيد كل ما كان من حقه، وسيركع له كل شيء في هذا العالم.
لكن…
هل ستخضع كل تلك الأشياء بسهولة؟
هذا هو ثاني أمر واقعي أقلقها.
فولي العهد الثاني يبذل قصارى جهده للحصول على لقب ولي العهد، وولي العهد الثالث يحاول منعه.
في النهاية، هذه منافسة على منصب ولي العهد الوحيد، بل على العرش نفسه.
والكتيبة الثامنة ما هي إلا بيادق يتم استغلالها في صراعهم على النفوذ.
لكن الآن، هذا البيدق قد صعد فوق رؤوسهم.
هل يا ترى سيقفون متفرجين على هذا الوضع؟
مهما بلغت رتبته، تبقى المشكلة أن لا أحد داخل القصر الإمبراطوري قادر على حماية سيريس.
فوالدته، الإمبراطورة أوليفيا، قد توفيت قبل اختفائه.
أما أقاربه من جهة الأم، فهم من مملكة سورفين التي دمرتها الحرب.
فهل سيحميه الإمبراطور حقًا، بعدما عاد فجأة؟
“هل أنتم هنااا؟”
“أجيبونااا!”
في تلك اللحظة، وصل صوت صياح الناس من خارج المبنى.
استفاقت ديارين على الفور.
كانت أصوات أعضاء مجموعة الشراب الصباحي.
يبدو أنهم اكتشفوا أن الاثنين لم يعودا إلى قصر ولي العهد الثالث، فجاءوا يبحثون عنهما حتى وصلوا إلى هنا.
نظرت ديارين إلى سيريس، الذي لم يستعد وعيه بعد.
البقاء في هذا القصر المدمر ليس خيارًا جيدًا، وكان من الأفضل العودة إلى قصر ولي العهد الثالث والاعتناء به هناك أولًا.
لكن لا يمكن فعل ذلك وهو بهذا الشعر المتلألئ.
فأسرعت ديارين بإلقاء تعويذة على شعر سيريس.
وعاد الشعر الأسود المألوف مكانه.
ثم اتجهت نحو العجوز التي كانت قد توقفت عن البكاء من شدة الصدمة وراحت تنظر إلى الخارج.
“لا تتحدثي عن كونه ولي العهد أمام الناس.”
“لكن، إن لم أُنادِ سمو الأمير بصفته، فبماذا أناديه…؟”
“إن قلتِ ذلك، سيموت.”
“… حاضر.”
رغم أن العجوز كانت تطيع ديارين إلى حدٍّ ما، إلا أنه كان من الواضح أنها لم تكن في كامل وعيها.
فبدلًا من شرح الأمور بالتفصيل، اختارت ديارين أن تهددها بصرامة، وقد بدا أن ذلك كان أكثر فعالية.
بعد أن ضمنت سكوت العجوز، أسرعت ديارين تتفقد المكان حولها لترى إن كان هناك ما يجب تنظيفه أو إخفاؤه.
وكان هناك الكثير.
أول ما لفت انتباهها كان خطوط السحر الطويلة الممتدة من جسد سيريس حتى الأرض، والتي شكّلت دائرة تعويذته.
مزّقت ديارين طرف غطاء السرير، ثم اندفعت بسرعة نحو الماء المسكوب الذي أسقطته العجوز.
بلّلت القماش بالماء، وعادت مسرعة إلى سيريس، ثم بدأت تمسح جسده بقوة، وبعدها الأرض كذلك.
ثم رمت القماش المبلل بإهمال فوق المكان، ليبدو الأمر وكأنه حادث طارئ.
وبعد أن رتّبت الوضع بشكلٍ عشوائي لكنه مقنع، صرخت ديارين باتجاه الخارج:
“هنا! نحن هنا!”
“أوه، أأه؟ هل أنتم داخل المبنى؟”
“نعم! أسرعوا!”
هرع الناس نحو قصر ولي العهد الأول.
وما إن فُتح الباب، حتى اصطدمت أنوفهم برائحة الدم القوية، فشهق الجميع من شدة الصدمة.
“مـ… ما الذي حصل؟!”
“إنه السيد سيريس!”
وبدلاً من الشرح المفصل، حاولت ديارين أن تبدو وكأنها على وشك البكاء، وأشارت إلى سيريس.
وبدون أن تحتاج إلى شرح، صُدم الحاضرون من رؤية سيريس مغطّى بالدم، وبدأت تخميناتهم من تلقاء أنفسهم.
“يا إلهي! لا بد أنه كان يشعر بحزنٍ عظيم!”
“كنت أتساءل لماذا كان يركض كالمجنون…”
“لنغادر بسرعة، بسرعة!”
كان أولئك الأشخاص قد جاءوا بدافع الوفاء، لكنهم لم يكونوا شجعانًا بما يكفي للبقاء طويلًا في قصر ولي العهد الأول.
فرفعوا سيريس عن الأرض بسرعة.
ولشدة استعجالهم، لم يلاحظ أحد وجود العجوز.
لكن ما إن خطوا خطوتهم الأولى خارج المبنى، حتى دوّى صوت العجوز خلفهم:
“أيها الأوغاد!”
تجمد عقل ديارين من الرعب، واستدارت تنظر إلى العجوز.
“أيها الأوغاد! كيف تجرؤون؟! كيف تجرؤون على التعامل مع هذه الشخصية الجليلة بهذه الطريقة؟!”
“لا، أرجوكِ، الأمر ليس كما تظنين، هذا الشخص هو…!”
حاولت ديارين بقلق أن تلوّح بذراعيها لإيقاف العجوز، لكنها لم تستطع قول شيء مفيد.
لكن الغريب أن الآخرين لم ينزعجوا.
“آه، كنت أظن أننا لم نرها في الطريق. اتضح أنها كانت هنا.
لكن هذه العجوز، ألم تصرخ عندما كانت وحدها معهما؟”
“آه… عفوًا؟”
“فلنخرج ونتحدث خارجًا. يا إلهي، كم هي مزعجة.”
“كيف تجرؤون على خطف شخصٍ كهذا في وضح النهار! أيها الأنذال الملعونون! أنا! أنا سألقنكم درسًا!”
لكن قبل أن تلحق بهم، أغلقوا الباب بقوة، ثم انطلقوا يركضون نحو الغابة.
ركضت ديارين خلفهم دون أن تفهم تمامًا ما يحدث.
ولم يبطئوا من سرعتهم إلا بعد أن اختفى صوت العجوز عن مسامعهم.
“آه، يا إلهي… هاه… هاه! كل ما شربته من الخمر اليوم تبخر! هااه!”
“هااه! كأن الخمر تبخر من جسدي بهذا الركض، ما هذا بحق الجحيم؟!”
“…”
قد لا يكون من اللائق قول ذلك عن أناسٍ جاؤوا للمساعدة بدافع الوفاء،
لكن ديارين شعرت أنهم مجموعة من القمامة، ولم تجرؤ على البوح بذلك.
“آه، صحيح. تلك العجوز… كانت مربية سمو ولي العهد الأول.”
“واحدة من مربياته، على ما أعتقد؟”
“نعم نعم، كان من المفترض أن ترافقه حتى سورفين، لكنها تأخرت في الرحيل لتجهيز أغراضها،
وفي تلك الأثناء حدث ما حدث للأمير، ففقدت عقلها تمامًا.”
وبينما كانوا يستريحون قليلاً، تبادلوا الأحاديث حول العجوز.
وكما توقعت ديارين، كانت العجوز على علاقة وثيقة بولي العهد الأول.
“ويُقال إن جلالة الإمبراطور شعر بالشفقة عليها، فلم يطردها رغم إغلاق القصر، بل أحيانًا يرسل لها طعامًا.”
“لكن إن دخل أحد القصر بالخطأ، فلن يقتله أمر إمبراطوري، بل عصا تلك العجوز!”
“فبمجرد أن ترى أحدًا، تتهمه بالاغتيال أو بالخطف، وتبدأ بالصراخ والعويل.”
“آه، يا للأسف…”
لكن سيريس تعرفت عليه.
عشر سنوات لم تكن شيئًا يُذكر.
تذكرت العجوز وهي تبكي، وكأنها قد افترقت عن شخصٍ عزيز بالأمس فقط.
‘هل سأبكي أنا أيضًا؟’
ماذا لو افترقت عن سيريس؟
أو إن عاد سيريس إلى الحياة بعد أن ظننت أنه قد مات؟
لم تكن متأكدة.
لم تشعر أنها ستبكي كما بكت تلك العجوز، وكأن قلبها الممزق قد عاد إليها.
“هذا… مطمئن.”
حتى وإن كانت مجنونة، فقد ظهرت بالفعل من يعتز بسيريس ويدعمها بكل هذا الإخلاص.
تمكنت ديارين من الابتسام لذلك.
—
عاد الجميع إلى جناح الأمير الثالث، وكان أول ما فعلوه هو استدعاء الطبيب.
في موقف كهذا، وقد تقيأت سيريس دمًا، لم يكن بمقدور ديارين الإصرار على أنها بخير، فاضطرت إلى السماح للطبيب بالدخول.
رغم أن السبب كان تأثير السحر، إلا أن تقيؤ الدم يعني أن الضرر قد طال أعضائه الداخلية فعليًا. ولم يكن من السيئ عرضه على الطبيب.
“هل كان يتناول طعاماً جيدًا في العادة؟”
“هو يأكل جيدًا، لكن…”
نظرت ديارين بطرف عينها إلى جماعة الشراب الصباحي، الذين لم يبتعدوا عن سرير سيريس، وظلوا يراقبون الفحص الطبي.
الوفاء أمر يُقدَّر، لكن الإزعاج يبقى إزعاجًا.
“أنتم من سقيتموه الخمر حتى وصل إلى هذه الحالة، أليس كذلك؟!”
اتهمتهم ديارين بثقة.
“ماذا تقولين؟! سقيتوه حتى تقيأ دمًا؟!”
ثار الطبيب فورًا.
“لا، لا… لقد شرب قبل مدة…”
“ومنذ ذلك الحين وهو يشتكي من آلام في بطنه! واليوم، بعد أن أرهق نفسه، تفاقم الأمر!”
محاولات الدفاع التي قدمها أعضاء جماعة الشراب لم تجدِ نفعًا.
وفوق كل شيء، وقف الطبيب بكل حزم إلى جانب ديارين.
“ما قالته هذه السيدة صحيح! لا تقتربوا منه ما دمتم تفوحون برائحة الخمر!”
“قسوةٌ ما بعدها قسوة!”
بكوا جماعة الشراب وهم يغادرون بأسى.
“جسده قوي، لذا سيتعافى سريعًا. لكن لا تنسي أن ينال قسطًا كافيًا من الراحة.”
“نعم.”
“الخمر. ممنوع. كليًا. تحت أي ظرف. على الإطلاق.”
“بالطبع!”
قالت ديارين بعزم ووجه متجهم.
نظر إليها الطبيب بعينين تملؤهما الثقة، ثم أومأ برأسه وغادر بعد أن ترك الأدوية اللازمة.
أخيرًا، أصبحا وحدهما.
جلست ديارين إلى جانب سيريس، تراقب وجهه النائم في هدوء.
الوجه الذي اعتادت رؤيته دائمًا بدا غريبًا هذه المرة.
حين يفتح سيريس عينيه، بأي نظرة ستنظر إليه؟
…ذلك الأمر كان مخيفًا قليلًا.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 104"