<الأمير الأول>
“كح!”
بصق سيريس الدم مرة أخرى.
استخدمت ديارين إصبعها بدلًا من القلم لالتقاط الدم الذي بصقه.
لم تكن تتوقع أن تضطر لاستخدام ذلك مباشرة دون أي تدريب مسبق. لحسن الحظ، كانت التعويذة بسيطة أكثر مما توقعت، رغم خطورتها. لم يكن تنفيذها صعبًا، وهذا ما سمح لديارين بتعديل نص التعويذة وإضافته بشكل فوري. بعد هذه المحاولة، قد تتمكن حتى من استخدامها بدون الحاجة إلى تعويذة مكتوبة.
“انتظر قليلًا، سيد سيريس… فقط لحظة…”
انغمست ديارين تمامًا في كتابة التعويذة.
لم يكن الهدف مسح الذكريات، بل استعادتها، وليس مجرد ذكرى أو اثنتين، بل جميع ذكرياته على مدار العقد الماضي بأكمله.
على عكس ماريان التي حذفت كلمة واحدة فقط، كانت هذه التعويذة تغطي نطاقًا واسعًا، لدرجة أنها لم تقتصر على جسد سيريس فقط، بل امتدت إلى الأرض أيضًا.
“أوه…”
على الرغم من أن الأرضية الحجرية كانت نظيفة، إلا أنها لم تكن خالية من الشقوق. أثناء كتابتها على عجل، انحشرت أظافرها بين تلك الشقوق، مما أدى إلى كسرها. كما تمزقت أطراف أصابعها بسبب الحواف الحادة.
تنهدت ديارين بألم خافت لكنها لم تتوقف.
امتزج الدم الذي بصقه سيريس مع الدم الذي سال من أصابعها ليكملان معًا التعويذة.
“انتهيت.”
وضعت ديارين رأس سيريس على ركبتيها.
قبل أن تغمض عينيها، نظرت إلى العجوز التي كانت تحدق بهما بوجه شاحب، وأوصتها بشيء واحد:
“إذا فقدت وعيي أيضًا، اخرجي واطلبي المساعدة.”
“آه… آه…”
بدا أنها لم تخرج من جناح ولي العهد الأول من قبل، ولكن لم يكن هناك أحد آخر يمكن لديارين الاعتماد عليه.
كانت هذه المرة الأولى التي تجرب فيها هذه التعويذة، ولم تكن متأكدة مما إذا كانت ستنجح أو ما إذا كانت ستنجو منها.
“لا خيار سوى المحاولة.”
أغلقت ديارين عينيها وبدأت في استجماع قواها المقدسة.
“سيد سيريس.”
“أه… آه…”
“سيكون الأمر صعبًا، لكن حاول التركيز على صوتي.”
عند محو الذكريات، يجب التركيز على تلك اللحظة فقط.
كان من المنطقي أن تكون استعادتها بنفس الطريقة.
لكن في حالة سيريس، لم تكن المشكلة مجرد ذكريات منفصلة، بل كانت جميع ذكرياته محبوسة معًا في كتلة واحدة. لذلك، كان من المهم استهداف النقطة التي انقطع فيها شريط ذكرياته.
“هل يمكنك محاولة استرجاع أقدم ذكرى لديك؟”
“أوه…”
على الرغم من حالته المزرية، حاول سيريس استحضار ذكرياته كما طلبت منه ديارين.
ذكريات… ذكريات…
رائحة الدماء في ساحة المعركة.
الصوت الحاد للأسلحة المتصادمة.
الهدوء القاسي.
الرياح.
رائحة الدم العالقة في جدران ساحة التدريب، البقع الداكنة التي لا يمكن محوها.
الضربات التي تلقاها في كل أنحاء جسده.
وجوه غريبة.
شوارع غير مألوفة.
طَرَقَ، طَرَقَ.
اهتزازات عربة تجرها الخيول.
“هآه! آآآه!”
طَرَقَ، طَرَقَ.
“أليس من الأفضل البحث عن والديه وطلب فدية؟”
“لا، لو كان لديه والدان مهتمان به، لما تركاه يتجول وحيدًا هكذا. كما أن ملابسه رثة.”
“ربما، لكن ملامحه نبيلة للغاية.”
“إذا لم يكن من عائلة قوية بما يكفي لإرسال رجال للبحث عنه، فبيعه كعبد سيكون أكثر ربحًا. وجهه جميل، لذا هناك الكثير من الأماكن التي يمكن بيعه إليها.”
طَرَقَ، طَرَقَ.
“إذاً، لماذا لا نرسله إلى الجبهة مباشرة؟”
“الجبهة؟”
“سمعت أنهم بدأوا في تجنيد الأطفال في الخطوط الأمامية. يقولون إنهم يدفعون جيدًا.”
“حقًا؟ هل يقبلون العبيد أيضًا؟”
“بالتأكيد، في النهاية، سيستخدمونهم فقط كدروع بشرية ثم يتخلصون منهم.”
“بل هذا أفضل، يمكننا مسح ذاكرته بالكامل وتحويله إلى أحمق قبل بيعه. سيموت بسرعة حينها.”
“وهكذا، حتى لو عاد والداه للبحث عنه لاحقًا، لن تكون هناك أي مشاكل.”
طَرَقَ، طَرَقَ.
“هذه هي الجرعة، صحيح؟”
“نعم، تأكد فقط من الجرعة. إذا أعطيته الكثير، قد يموت قبل أن نتمكن من بيعه.”
“تبًا… لو أنه بقي في منزله مثل طفل مطيع، لما انتهى به المطاف هكذا، أيها الفتى النبيل.”
طَرَقَ.
“آه!”
شعر وكأن رأسه يحترق.
كل شيء في العالم اختلط ببعضه، أصبح كتلة مشوهة من الفوضى.
فتح سيريس عينيه فجأة، يلهث بأنفاس لاهبة وكأنها أول نفس يأخذه طفل حديث الولادة.
“سيريس! هل أنت بخير؟!”
شبح شخص يلوح أمام ناظريه.
رمش عدة مرات، غير قادر على ضبط بصره، لكنه سرعان ما انجرف مجددًا في دوامة العالم المتأرجح من حوله.
“ديارين…”
الملجأ الوحيد الذي يمكنه الاتكاء عليه.
الركيزة الثابتة التي لن تتزعزع.
الشعلة التي لن تنطفئ.
ديارين.
عندما نطق اسمها بنداء يائس، شعر بلمسة دافئة ناعمة تمس يده.
قبض سيريس عليها بكل قوته.
—
“آه… آه… ديارين…”
“أنا هنا، لا تقلق.”
حتى وهو فاقد للوعي، استمر سيريس في ترديد اسمها.
توقفت نوباته، لكنه لا يزال يلهث بحرارة مرتفعة لم تهدأ بعد.
لقد فتح عينيه للحظة، لكنه لم يستعد وعيه مجددًا بعد ذلك.
“سيريس.”
نادته، لكنه لم يرد.
لكن لم يكن هناك داعٍ للقلق بشأن نجاح التعويذة أم لا.
لقد نجحت.
يكفي فقط أن تشعر ديارين بالطريقة التي تتدفق بها طاقتها المقدسة لتدرك ذلك.
ما يعاني منه سيريس الآن ليس سوى الألم الناتج عن استعادة ذكرياته إلى مواضعها الصحيحة، كما لو أن شعرًا تم ربطه بإحكام لفترة طويلة وترك أثرًا عميقًا، أو كأن الدم عاد ليتدفق في شرايين مقيدة منذ زمن، مسببًا تشنجًا مؤلمًا.
لم يكن ما ربط ذكرياته تعويذة قائمة على الطاقة المقدسة، بل كان شيئًا بدائيًا وغير متقن، طريقة قذرة ربما يستخدمها مرتزقة الأزقة الخلفية.
لهذا السبب، كانت قيوده أكثر شراسة، تمزق ذهنه من الداخل بعشوائية.
أرادت ديارين أن تخفف ألمه باستخدام طاقتها المقدسة، لكنها كانت قد استنزفت الكثير منها لدرجة أن جسدها بالكاد يتحمل أكثر من ذلك.
رغم أن التعويذة كانت بسيطة، إلا أن إزالة شيء راسخ منذ سنوات استهلك منها الكثير من الطاقة.
أطرافها ترتجف.
نادراً ما كانت تمر بتجربة تجعلها بهذه الدرجة من الإنهاك.
“هاه…”
زفرت بعمق، قبل أن تستلقي على الأرض بجانب سيريس.
لم يعد لديها حتى القوة للبقاء جالسة.
من بعيد، رأت العجوز تراقبهما بحذر.
“هل يمكنك… إحضار بعض الماء؟”
“ماء؟ آه… بالطبع!”
رغم شعورها بالحرج من طلب خدمة من شخص مسن، لم يكن أمامها خيار آخر.
لو انهارت هنا، لن يكون هناك من يعتني بسيريس.
لحسن الحظ، لم تطرح العجوز أي أسئلة، بل غادرت بسرعة لتنفيذ الطلب.
عادت ديارين لتستلقي مجددًا، مستندة برأسها إلى الأرض.
“آرين… ديارين… هه…”
ارتجف سيريس بشدة، يبحث غريزيًا عن حضن ديارين.
لم يكن أمام ديارين خيار سوى أن تفتح ذراعيها لتحتويه.
“لا بأس، لا بأس. سيصبح الأمر أفضل قريبًا.”
ربّتت على ظهره بلطف.
كطفل رضيع، اندسّ سيريس في أحضانها، متشبثًا بها وكأنها الشيء الوحيد في هذا العالم.
نظرت إليه ديارين بابتسامة باهتة.
إلى متى سيظل هكذا؟
الآن وقد استعادت ذاكرته، ستعود إليه أشياء كثيرة.
عندها، لن يكون بحاجة إليها وحدها بعد الآن، سيجد أماكن أخرى يستطيع الاعتماد عليها.
شعرت بفراغ بارد في قلبها.
“آه… ديارين…”
“أنا هنا.”
لكنه حتى الآن، رغم مرضه، لم ينفك يبحث عنها كجرو صغير ضائع.
بلطف، أبعدت خصلات شعره المتعرقة عن جبينه.
شعرها بأطراف أصابعها وهو ينساب كخيوط حريرية ناعمة وسوداء داكنة.
“آه…”
تذكرت فجأة أن هناك تعويذة أخرى متبقية.
تعويذة التلوين التي غيّرت لون شعر سيريس وعينيه، مثلها مثل التعويذة التي طمست ذكرياته، لم تكن سوى عمل رديء من أحد المشعوذين في السوق السوداء.
إزالة هذا النوع من السحر لم يكن يتطلب سوى قدر ضئيل جدًا من الطاقة المقدسة، كأنها مجرد نفس يطلقه الإنسان.
حتى الآن، لم تجرؤ على لمسها لأنها كانت متشابكة مع التعويذة المرتبطة بذكرياته.
ولكن الآن بعد أن حُلَّت تلك التعويذة، يمكنها التعامل مع هذه أيضًا.
“لنجرّب.”
كان من الصعب تحريك حتى إصبع واحد، لكنها لم تستطع كبح فضولها.
مررت يدها ببطء على شعره، مغمورة بالطاقة المقدسة.
كما كانت تتلو التعويذة في ذهنها، بدأ التحول تدريجيًا.
مثل سماء الليل حين تشرق عليها أنوار الفجر، بدأ اللون الأسود يتلاشى من أطراف خصلاته.
ظهر اللون الحقيقي الذي كان مخفيًا تحته، لون مختلف تمامًا عن السواد الذي غطّاه، لون أشبه بالقش الذهبي الذي حملته العجوز سابقًا بين يديها.
“…”
أدهشها الشعاع المتوهج الذي انعكس عن أطراف أصابعها، فجلست فجأة.
تألقت خصلاته الذهبية بانعكاسات قوس قزح براقة.
كان بريقها أبهى وأوضح من أي شيء رأته من قبل، أكثر إشراقًا حتى من أولئك الذين ينتمون إلى العائلات الملكية.
تجمدت ديارين في مكانها.
ما تراه الآن…
معناه الحقيقي…
كيف يفترض بها أن تفكر في هذا؟
تحطّم!
أفاقتها ضوضاء حادة عند الباب، فاستدارت بسرعة.
كانت العجوز تقف هناك، وقد أسقطت وعاء الماء من يدها على الأرض.
“آه… هذا…”
لم تستطع ديارين حتى التفكير في تفسير واضح، فقط تمتمت بذهول.
لكن العجوز صرخت أولًا، وكأنها تطلق نداءً مدويًا:
“صاحب السمو الأمير!”
نعم، الأمير.
ذلك الاسم الذي لم تستطع ديارين حتى أن تسمح لنفسها بتذكره.
ولي العهد الأول.
لم يكن الأمر مؤكدًا بعد، وكان لا بد من سماع الحقيقة من سيريس نفسه، لكن كل الدلائل كانت تشير إلى ذلك.
أبرز دليل كان بريق قوس قزح، العلامة المميزة للعائلة الإمبراطورية.
ثم كان هناك الأمير الأول، الذي اختفى قبل أكثر من عشر سنوات.
سيريس، الذي كان في نفس العمر تقريبًا.
نوبات الصرع التي أصابته كلما استعاد جزءًا من ذكرياته، منذ لحظة دخوله القصر الإمبراطوري، وخاصة في الجناح الخاص بولي العهد الأول.
وأخيرًا، صرخة العجوز، التي بدا أنها تعرف الحقيقة.
“أوه…”
في تلك اللحظة، أطلق سيريس أنينًا منخفضًا وتحرك قليلًا.
“آرين… ديارين…”
سيريس.
كلب الحرب المجنون.
وأيضًا، ولي عهد إمبراطورية لاكلون الأول، كان ينادي باسم ديارين.
بيدين مرتجفتين، أمسكت ديارين بيده التي كانت تبحث عنها بيأس، ثم سألته:
“ما… اسمك؟”
حتى وهو يئن، أجاب سيريس بلا وعي:
“اسمي… سي… ريندياس… لاكلون…”
كان ذلك هو اسم ولي العهد الأول الذي فُقد منذ سنوات طويلة.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 103"