“ألَا يمكنني الذهاب لركوب الخيل أيضًا؟”
وضعت لوريليا تعبيرًا متجهمًا عمدًا.
“المدينة آمنة، أليس كذلك؟ والتنقل على ظهور الخيل أسهل بكثير من العربة.”
رغم شكواها، لم تكن لوريليا تتوقع الإذن في الواقع. كانت تحسد والدها فقط، الذي سينطلق قريبًا على حصانه مرتديًا بنطالًا أنيقًا وحذاءً طويلًا يصل إلى الركبة وعباءة ترفرف. في الحقيقة، كانت تشعر أيضًا ببعض الضيق.
“إن العربة مناسبة أكثر للسيدة، فهي كريمة.”
قال والدها.
“هذا ظلم. أنا أجيد الركوب مثلكَ تمامًا يا أبي.”
“هذا لا يبدو مقنعًا للغاية.”
“إذا سُمح لي بارتداء البنطال، فسأركب بشكل أفضل من أخي.”
“إذا سمعكِ ليدل، فسوف يقفز من مكانه.”
“هذا ليس عدلاً يا أبي. تتعامل معي كهذا لأنني امرأة.”
“لوري.”
كان صوت لانسلوت أشبه بالتنهد. عرفت لوريليا أنه كلما ناداها بلقبها الذي استخدمه في صغرها، كان يحاول تهدئتها.
“عندما يمتطي الرجال خيولهم، يحملون أسلحة. لأن لا أحد يعلم متى قد ينشب شجار.”
بدلاً من الرد، نظرت لوريليا إلى السيف المعلق على خصره. كان طول النصل المُغلف بالجلد، بدرعه الفضي، أكثر من متر. تذكرت كيف كانت في صغرها، تقيس طولها بهذا السيف تحديدًا.
“عندما يركب الرجل ويحمل السيف، فإنه يفعل ذلك لحماية النساء.”
“ليس لحماية أراضيهم؟”
“النساء مُلك للرجل. مثل بيته، زوجته أم أبنائه.”
توقف لانسلوت للحظة بعد أن قال ذلك، وهو يتأمل وجه ابنته. كانت عابسة، لكنه كان يعلم أنها لم تكن منزعجة حقًا. لطالما كانت ابنته الصغرى الحبيبة مشرقة كسماء الصيف نادرًا ما أظهرت غضبًا حقيقيًا، سواء في طفولتها أو الآن.
“لهذا السبب يجب أن تعتني بنفسكِ.”
قال لانسلوت بلطف.
“لأنكِ ستصبحين يومًا ما مُلكًا لرجل ما أيضًا.”
مدَّ لانسلوت يده. لامست كفه المتصلبة، التي قستها حياة من استخدام السيف، وجه لوريليا الصغير الرقيق بلطف. نظر إلى عينيها المتألقتين، فابتسم ابتسامة خفيفة.
“ستركبين عربة آمنة يا لوريليا. القتال على صهوة الخيل هو مهمة زوجكِ المستقبلي.”
لقد ربّت لانسلوت على خدها بأطراف أصابعه برفق.
“سأذهب إذًا.”
“انتظر لحظة يا أبي.”
أمسكت لوريليا بذراعه وأعادته إليها. ثم ثبّتت زر عباءته المائل قليلاً. كان الزر الكبير المنقوش بوجه ثعلب، مصنوعًا من الفضة، فلطالما كانت أرض مندل غنية بالفضة.
“إعتننِ بنفسكَ.”
ابتسم والدها وخرج، تاركًا لوريليا وحدها في غرفته. كان لانسلوت قد وعد بجولة في مدينة إيسن مع أتباعه. ولأنها أكبر مدينة وأكثرها تقدمًا في القارة، كان لدى لوريليا الكثير لتتعلمه من ذلك. كانت إيسن موطنًا للعديد من الاختراعات. كانت أول مدينة تدفن مجاريها تحت الأرض، مما أدى إلى القضاء على القذارة والروائح الكريهة. كما شهدت أول ظهور لطباعة الكتب بالحروف المتحركة بدلا من النسخ اليدوي. انتشرت الأفكار التي ولدت في إيسن في جميع أنحاء القارة، وأصبحت جزءً من الحياة اليومية للجميع. كان التائقون إلى الحضارة المتقدمة يطمحون غالبًا للعيش في إيسن أكثر من العاصمة الملكية، كينغسبورغ. كان سكان الشمال والشرق يتذمرون من غطرسة الجنوبيين، لكن لوريليا شعرت أن فخرهم مستحق.
“سيدتي الشابة؟”
فتحت أليسيا الباب بحذر ودخلت، حاجباها منسدلان وهي تبتسم.
“يا للأسف فشلتِ. قلتُ لكِ إن هذا لن ينجح.”
قرأت لوريليا تعبير وجهها جيدًا، فانتفخ صدرها كالعصفور.
“حسنًا، لم أكن أتوقع حقًا أن ينجح الأمر.”
تنهدت لوريليا بعمق وأطلقت ابتسامة ساخرة.
“هل أقوم بتحضير العربة إذًا؟”
“نعم. كيف حال أمي؟”
“إنها أفضل بكثير من الأمس.”
“أتمنى أن تتعافى سريعًا.”
أُصيبت مارلين بنزلة برد خفيفة بعد الرحلة الطويلة. حالما علم ثيوبالد بالأمر، أرسل طبيبه الخاص. شخّص الطبيب المهيب حالتها بأنها مجرد إرهاق، ووصف لها علاجات مغذية، مؤكدًا أنها ستتعافى بعد يوم أو يومين من الراحة. بعد أن غادر الطبيب، مرَّ كبير الخدم لينقل اهتمام سیده وقدَّم لها هدايا، فاكهة وأزهار نادرة من الجنوب. ابتسمت مارلين بارتياح فلم ترَ شيئًا كهذل من قبل. وتأثرت لوريليا باهتمام ثيوبالد وعنايته.
“أتساءل ماذا يفعل الآن…”
“حسنًا، سأذهب لأجهز العربة. من فضلك انتظري هنا قليلًا يا آنسة.”
“حسنًا.”
بعد خروج أليسيا، وجدت لوريليا نفسها وحيدة مجددًا.
فكرت لوريليا: “كانت الغرفة المجهزة لأبي أبسط بكثير من غرفة أمي وغرفتي، سكن عتيق يُناسب ذوقه.”
وبينما كانت تفكر في هذا، تذكرت لوريليا كبير الخدم.
فكرت لوريليا:.”كلوديل رينيه. بدا متيبسًا من فرط أدبه، لكنه في الواقع دقيق للغاية. يقال إن كفاءة المرؤوسين وشرفهم يعكسان ذوق سيدهم؛ أما اهتمام كبير الخدم بالتفاصيل فلا بد أنه نابع من سيده.”
نظرت لوريليا حول الغرفة وخرجت إلى الشرفة. كانت هذه الشرفة تُطل على الفناء لا على البحر. كان المبنى الرئيسي للقصر على شكل حدوة حصان، مع حديقة واسعة بين جناحيه الأيمن والأيسر.
اتكأت لوريليا على السور، ناظرة إلى الحديقة. كان الماء يتدفق من نافورة كبيرة ويتدفق منها شلال. كانت هذه النافورة من اختراع تريسن.
[النساء مُلك للرجل.]
نظرت لوريليا إلى تمثال ملاك فوق النافورة. كان الملاك الرخامي المنحوت باللون الأبيض اللامع ينفخ بوقًا ذهبيًا. كادت تسمع رنين في أذنيها. كان ضوء الشمس الجنوبي على جبينها دافئًا وناعمًا. كان كل مكان تقع عليه عيناها جميلاً. الخضرة المورقة في الحديقة تحت السماء الزرقاء، وتيارات المياه المتلألئة التي تقفز إلى الأعلى، والقطرات الكريستالية المتلألئة وهي تسقط. ثم فجأة، أدركت لوريليا شيئًا. الشمس لم تكن ذهبية على الإطلاق. كان الضوء الذي غمر الفناء أبيضًا مبهرًا، أبيضًا ساطعًا مشعًا، كالبلاتين اللامع.
“تمامًا مثل شعره…”
[لأنكِ في يوم من الأيام ستكونين مُلكًا لرجلٍ ما أيضًا.]
رفعت لوريليا وجهها نحو شمس الجنوب. تسللت أشعة الشمس فوق جفنيها المغمضتين. كان من الصعب تصديق أن هذا المكان، بينما يستعد وطنها للشتاء، مشرق ودافئ إلى هذا الحد. بأغماض عينيها، اشتدت روائح الحديقة. رائحة العشب والأشجار. عبير الورود. رائحة ضوء الشمس الدافئة.
“رائحة الشمس البيضاء.”
ظلت لوريليا تفكر مرارًا وتكرارًا وعيناها مغمضتان.
“أتساءل ماذا يفعل الآن؟”
عندما وصلوا إلى الحي الصاخب، تباطأت العربة ودوت عجلاتها. قاد السائق الماهر الخيول الأربعة ببراعة. استمعت لوريليا إلى تلك الأصوات المبهجة، ففتحت النافذة وأخرجت رأسها. لو كانت مارلين معها، لكان هذا السلوك غير معقول. شعرت لوريليا بقليل من الذنب وهي تستمتع بالحرية.
فكرت لوريليا: “من حسن حظي أن أمي أُصيبت بنزلة برد.”
رفعت لوريليا ذقنها نحو السماء، وعدّت طوابق مبنى شاهق ستة طوابق، ثم شهقت مجددًا عند رؤية بلاط السقف. كانت بلاطات الأسقف تُصنع عادةً بحرق الطين، لذا كانت دائمًا حمراء اللون. في كل مدينة زارتها لوريليا في مندل، حيث كانت تعيش. وفي ويندبورغ، حيث تزوجت أختها. وفي كينغسبورغ، العاصمة الملكية. كانت الأسقف حمراء. أما تريسن، فكانت زرقاء بجمالها الأخاذ.
“رائع…”
انحنت لوريليا أكثر في رهبة، ممسكة بإطار النافذة، رافعة وركيها قليلًا عن المقعد. واحدًا تلو الآخر، امتدت مبانٍ فريدة ومتناغمة جنبًا إلى جنب. لا لكل مبنى من الطوب الصلب سقفه الأزرق الخاص.
فكرت لوريليا، وفمها مفتوح: “لابد أن المنظر من الأعلى رائع.”
“يا آنسة، من فضلك اجلسي في وضعية جيدة! إنه أمر خطير.”
شهقت أليسيا بجانبها، لكن لوريليا تظاهرت بعدم السماع.
أخرجت لوريليا رأسها من النافذة، وتأملت المنظر النابض بالحياة وهو يندفع بسرعة. أرجعت شعرها المتطاير بيد واحدة ومدّت ذراعيها، مستمتعة بالريح العاتية. شعرت بنشوة عارمة كأنها تركض على صهوة جواد. ضحكت لوريليا بصوتٍ عال، وقد غمرها شعور مثير بالحرية. نظر إليها الناس في الشوارع. بعضهم حدّق فيها بفضول. لفتت عربة فاخرة تقلُّ شابة جميلة، الانتباه بطبيعة الحال، وعندما كانت تلك المرأة تميل إلى منتصف النافذة، تلوّح بذراعيها كمهرجة، لم يستطع أي مار تجاهلها.
بينما كانت العربة تُبطئ عند تقاطع، لاحظت لوريليا صبيًا صغيرًا يُشير إليها. ابتسمت لوريليا له ابتسامة مشرقة. ابتسم الصبي بدوره وصاح بشيء ما، لكنها لم تفهم اللهجة الجنوبية. على الرغم من أن تريسن اعتمدت لغة المملكة المشتركة كلغة رسمية، إلّا أن عامة الناس ما زالوا يتحدثون لغتهم الأم.
“آه، أشعر وكأنني ركضتُ برشاقة على ظهر حصاني.”
قالت لوريليا وهي تتكئ على المقعد بابتسامة.
أليسيا، التي كانت متوترة طوال الرحلة، أطلقت تنهيدة ارتياح طويلة.
“كان ذلك خطيرًا جدًا. لو رأتكِ سيدتي، لكنتِ في ورطة.”
“لحسن الحظ، أمي في القصر.”
“سيدتي الشابة!”
“نحن فقط يا أليسيا. ما دمتِ صامتة، فلن يعلم أحد.”
ابتسمت لوريليا وعادت إلى النافذة المفتوحة.
كانت العربة تحمل شعار بيت فيرفرانتي. همس الناس الذين تعرّفوا على رمز الشمس الذهبي فيما بينهم بتعبيرات فضولية. لفتت شابة جميلة في عربة الدوق الأكبر، لوريليا، نظرات الإعجاب والاحترام.
ثم ظهر فجأة فارس راكب، وسدّ النافذة المفتوحة.
“السيدة الشابة هايز.”
فزعت لوريليا من الصوت الغريب، فرفعت بصرها. وما إن رفعت نظرها حتى التقت عيناها بعيني الفارس الشاب على صهوة جواده. كان يرتدي درعًا فضيًا نصف صفائحي، ويحمل سيفًا طويلًا. عندما التقت عيناهما، انحنى لها بأدب. كان شعره أسودًا لامعًا، وسلوكه هادئًا.
“اسمي أسيل فريتز. أعمل فارسًا في الحرس الشخصي للدوق الأكبر فيرفرانتي.”
حاولت لوريليا أن تبقي تعبيرها ثابتًا. فكرت: “فارسه؟ منذ متى وهو يتبعنا؟ إذًا لابد أنه رأى كل شيء… أنا أميل من النافذة، وألوّح بذراعي كمهرجة…”
كادت لوريليا أن تغلق عينيها بقوة من الخجل.
“أوه لا.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"