بصفته مالك العقار، بدا ثيوبالد وكأنه يعرف متاهة السياج كظهر كفه. ودون أدنى تردّد، سار بثقة في الاتجاه الصحيح. عدّل ثيوبالد خطواته لتناسب خطوات السيدتين السائرتين بجانبه.
حاولت لوريليا جاهدةً كبت حماسها الجامح الذي يغلي في داخلها. كان مجرد المشي بجانب ثيوبالد يجعل ينتفخ قلبها كالبالون.
“هل هذا الجرو له اسم؟”
أصبح تحدّثها معه أسهل قليلاً الآن.
“فولاذ. ولد قبل شهر.”
“فولاذ.”
همست لوريليا وأخرج الجرو أنفه.
نظرت لوريليا إلى الكلب الصغير، الذي كافح كأنه يريد أن يأتي إليها. نظر ثيوبالد، الذي كان يسير أمامها، إلى المشهد وقال.
“لقد تعلَّم هذا الصغير بالفعل كيفية متابعة الجمال.”
ابتسم ثيوبالد لها ابتسامة خفيفة. في تلك اللحظة، شعرت لوريليا بدفعة شجاعة مفاجئة، ومدّت يدها لتداعب الجرو بين ذراعيه. مع تضييق المسافة بينهما تلامست أذرعهما برفق، لم تبتعد لوريليا، وسار ثيوبالد بخطئ مماثلة لخطواتها وكأن شيئًا لم يكن. بدت تلك اللمسة البسيطة، إلى جانب هدوئه، للوريليا وكأنها علامة قبول.
قبول؟ بماذا، ومن قبل مَن؟ كان شعورًا لا أساس له ولا تفسير…
لم يكن بيت الكلاب بعيدًا. حالما خرجوا من حديقة المتاهة، ظهر أمامهم فسحة رملية محاطة بسياج خشبي. في الداخل، كان حوالي اثني عشر جروًا يقفزون بنشاط عندما رأى الخادم الذي يعتني بهم الدوق الأكبر، أسرع لفتح البوابة.
“الآنسة هايز.”
حمل ثيوبالد الجرو بين ذراعيه، ثم عبر البوابة وأشار إلى لوريليا أن تتبعه. بقيت أليسيا خارج السياج تراقبهما، وبالكاد وصل السياج الخشبي إلى صدرها.
بمجرد ظهور ثيوبالد اندفعت الجراء نحوه وهي تهز ذيولها. مرقطة سوداء، بيضاء، ألوان مختلفة، لكنها من نفس السلالة. كانت أرجلهم قصيرة، وعيونهم وآذانهم متدلية، وفراؤها ناعم.
“إنهم لطيفين جدًا!”
نظرت لوريليا إلى الجراء المتزاحمة حول قدميها، في حالة من الارتباك أشعل ترحيبهم الحماسي ابتسامة مشرقة في وجهها.
“يا إلهي، انظر فقط إلى تلك الذيول المهتزة.”
“إنهم من سلالة آيزنفيلد. أذكياء، صبورون، ومخلصون للغاية.”
كما أوضح ثيوبالد.
وضع الجرو الذي كان يحمله، ثم اختار جروًا أبيض اللون ومدّه إلى لوريليا.
“لقد ربوا كلابًا للرعي في تريسن لقرون. ينمون بسرعة في عمر ستة أشهر، يكتمل نموهم.”
“ستة أشهر؟ إذا سيكبر هؤلاء الصغار جميعًا في خمسة أشهر؟”
“يمكنكِ أن تري عمليًا نموهم يوما بعد يوم.”
داعبت لوريليا الجرو الذي كان ثيوبالد يحمله بين يديه بحرص. كان المخلوق الصغير أبيض ناصع بعينين سوداوين يهز ذيله ببراءة.
“إنه جميل جدًا.”
“حاولي أن تمسكيه.”
انشغلت لوريليا بالجرو، فرفعت رأسها. كانت عينا ثيوبالد الناظرتان إليها، مضاءتين بنور الشمس، صافيتين وعميقتين كبحيرة. ألقت رموشه بظلال طويلة على عينيه الزرقاوين الياقوتيتين. وجدت لوريليا نفسها مسحورة به.
وهي تقبل الجرو أيضًا بحرص. تلامست أصابعهما بخفة، كانت لمسة ثيوبالد متفهمة، ساعدها على إمساكه بإحكام. رغم مظهره الرقيق، كان الجرو ثقيلًا بشكل مفاجئ. فزعت لوريليا من وزنه غير المتوقع، فتأرجحت قليلًا، وساند ثيوبالد ذراعها. فجأة، شعرت بصدره، عريضًا وصلبًا. عدّلت لوريلا وقفتها بسرعة، قلقةً من أن يسمع ثيوبالد دقات قلبها العالية. لقد كانا واقفين بالقرب من بعضهما البعض.
“إنه… حسن السلوك للغاية.”
قالت لوريليا بهدوء، وهي تداعب رقبة الجرو كما فعل ثيوبالد سابقًا.
استطاعت لوريليا أن تمسك به بثبات وقف ثيوبالد صامتًا. لم يُجب ولم يتراجع ليوسّع المسافة بينهما. لقد كان ثيوبالد واقفا بالقرب منها قليلًا، ليس ليلمسها، ولكن قريبًا بما يكفي لتتمكن من شم رائحته العميقة. حتى أنها استطاعت أن تسمع تنفسه…
لم يكن هناك أحد آخر داخل السياج، فقط حشد من الجراء عند أقدامهما. كان الخادم وأليسيا يقفان في الخارج، بعيدين جدًا عن سماع حديثهما. أُعجبت لوريليا بذلك. كانت تحب أن تكون بمفردها مع ثيوبالد.
لقد شعرت لوريليا وكأن شيئًا خاصًا على وشك الحدوث. قالت، محاولةً ملء الصمت بإطراء:
“لابد أن هؤلاء الصغار سعداء جدًا بتلقّي هذا القدر من الحب من صاحب السمو.”
لكن لم يأتِ رد من ثيوبالد. انتظرت لوريليا، لكنه ظل صامتًا. وبينما بدأت تشعر بالقلق من صمته المفاجئ…
“الآنسة هايز.”
“نعم صاحب السمو؟”
“ألَا تعرفين اسمي؟”
تجمّدت يدها التي كانت تداعب الجرو. فكرت لوريليا: “ألَا أعرف اسمه؟ هل أسأتُ إليه؟”
نظرت إليه لوريليا. أجابت بأدب قدر الإمكان، غير متأكدة من نيته.
“بالتأكيد لا. أعرف اسمكَ جيدًا يا صاحب السمو.”
“ثم لماذا تستمرين في مناداتي بهذا؟ عندما تناديني ابنة أحد النبلاء الكبار وكأنها أحد أتباعي، لا أعرف ماذا أفعل بنفسي.”
ابتسم ثيوبالد ابتسامة رقيقةً مازحًا. كان فيها لمحة من مرح صبياني. تسارع قلب لوريليا عند هذه العلامة الواضحة على القرب.
“ليس كأحد أتباعكَ إذًا… كيف أُخاطبكَ؟ اللورد فيرفرانتي؟ اللورد ثيوبالد؟ أو…”
“ثيو.”
في تلك اللحظة، أخرج الجرو لسانه الوردي بين ذراعيها ولعق أصابعها. ارتجفت كتفيها من هذا الشعور الخشن والرطب. ضحك ثيوبالد ضحكة خفيفة على ردة فعلها. انحنت عيناه برفق وانفرجت شفتاه ببطء، محمرتين قليلاً.
“لوريليا.”
كاد قلبها أن ينفجر…
“قلتِ أنكِ تريدين رؤية كل ركن من أركان منزلي. لقد رأيتِ الحمام الذهبي، وحديقة المتاهة، والآن بيوت الكلاب. أين ترغبين بالذهاب بعد ذلك؟ فقط قولي الكلمة. أينما تريدين أن تري.”
كان صوت ثيوبالد منخفضًا جدًا، يكاد يكون سريًا. خفضه إلى ما يشبه الهمس، جاعلًا إياه يبدو حميميًا.
“سأعرض عليكِ كل شيء بكل سرور.”
شعرت بصوته كأنه يلعق مكانًا ما بداخلها، مثل ذلك اللسان الوردي خشن، رطب، يدغدغ. كادت الكلمات أن تفلت من شفتيها.
تمتمت لوريليا في نفسها: “ثيوبالد… ثيوبالد فيرفرانتي. أريد رؤيتكَ. أريد أن أعرف المزيد عنكَ. أنا متلهّفة جدًا لمعرفة مَن أنتَ. أريد أن أعرفكَ بالكامل.”
“هل نذهب؟”
قال ثيوبالد.
استيقظت لوريليا من غيبوبتها، مرتبكة، قاطعة التواصل البصري. مدَّ ثيوبالد يديه ليأخذ الجرو.
“لقد كان من الوقاحة مني أن أُبقي سيدة واقفة في مكان كهذا.”
“لا، إطلاقًا. شكرًا على لطفكَ.”
“كلمات لطيفة للغاية.”
أخذ ثيوبالد الجرو دون عناء، وانحنى ليضعه على الأرض، وبدأ يسير نحو البوابة.
كان ثيوبالد يرتدي سترة سوداء وبنطالًا وحذاءً طويلًا يصل إلى الركبة، نفس الزي الذي رأته لوريليا في غرفة الإفطار ذلك الصباح.
بدأ قلب لوريليا ينبض من جديد.
[لوريليا.]
فكرت لوريليا: “لقد أصبحنا أقرب قليلاً. والآن نتشارك سرًا – شيئًا خاصًا للغاية.”
بينما كانت تمشي بجانب ثيوبالد، الذي كان يسير بنفس خطاها، ضغطت لوريليا على شفتيها لتمنع نفسها من الابتسام على نطاق واسع.
كان مدخل القصر مواجهًا للجنوب مباشرة. كانت إيسن عاصمة ملكية لأكثر من ألف عام، وكان هذا القصر قصرًا ملكيًا لقرون منذ بنائه. لم يجرؤ أي مبنى في المدينة على الارتفاع أعلى من أسوار حصنها. كان البرج الشمالي أعلى نقطة في العقار، حيث كان من قمته يتيح رؤية الأفق الشرقي والغربي دون عوائق.
أسفل هذا البرج كان يقع ميدان الرماية الخاص بالدوق الأكبر. كان مالك تريسن الشاب يستمتع بالرماية. كان القوس الذي استخدمه أطول من طفل، ويتطلب قوة كبيرة لسحبه، قوس طويل إنجليزي. بُني ميدان الرماية قبل نحو عشر سنوات، بمنصة رماية مغطاة وأهداف بعيدة. أحاطت الأشجار والشجيرات بميدان الرماية، مانعة إياه من الرؤية الخارجية. ونظرًا لطبيعة الأسلحة، لم يكن أحد يتسكع بالقرب دون مُبرّر؛ فسهم طائش قد يؤدي إلى موت فوري.
ولكن بقدر ما يعلم كبير الخدم، فإن ثيوبالد لم يُخطئ هدفًا قط.
“رينيه.”
نادی تیوبالد بصوتٍ خافت رافعًا كأسًا من الكريستال إلى شفتيه، ارتشف رشفة من البراندي.
ظن كبير الخدم أن السائل الكهرماني الداكن يُشبه غروب الشمس. تمامًا مثل غروب الشمس القرمزي الذي يغتسل الآن بشعر سيده
“هل رأيتَ ذلك؟ تلك العيون.”
أنزل ثيوبالد الكأس إلى صدره. خدرت رائحة البراندي فمه وأنفه. حتى نسيم البحر حمل رائحته.
“تلك العيون الخضراء.”
همس ثيوبالد وهو يمدُّ يده نحو شجرة في الحديقة. لم يكن في ميدان الرماية سوى هو وكبير الخدم، في صمت تام كالعادة.
“لقد كانت مثل البراعم الجديدة.”
لمس ثيوبالد بأصابعه ورقةً نبتت حديثًا. دحرجها برفق بين إبهامه وسبابته، ثم زاد الضغط تدريجيًا. تجعدت الورقة الطرية، مُطلقةً رائحة خضراء خافتة.
“لم أكن أتوقع أبدًا أن يكون لديها عيون مثل هذه.”
ضحك ثيوبالد ضحكة خفيفة، مستمتعًا. وقف كبير الخدم صامتًا يستمع.
“وكينغسبورغ؟”
أجاب كبير الخدم بحذر، وهو يراقب تعبيرات سيده.
“لقد أمرتهم بإبلاغنا فور ورود الخبر.”
كعادته، لم يكشف وجه ثيوبالد عن أي شيء. كان صبورًا وحذرًا، لكنه حساس بطبيعته. إذا لم تسر الأمور كما هو مُخطّط لها، فمن المؤكد أنه سيشعر بالقلق. تمنى رينيه ألّا يصبح ثيوبالد سريع الانفعال دون داعٍ.
“لقد حان الوقت تقريبًا لمقابلة المستشار المالي.”
“أنا أعرف.”
أجاب ثيوبالد بإيجاز، ثم أعاد الكأس إلى شفتيه.
صمت كبير الخدم مطيعًا. وعاد الصمت إلى المكان. كان من الممكن سماع أمواج خافتة خلف صوت صفير. جدران القلعة. هبَّ نسیم دافئ من البحر الشرقي. راقب كبير الخدم بصمت وجه سيده المتأمل. حوّلت الشمس الغاربة شعره الأشقر البلاتيني إلى قرمزي لامع. بدت عيناه، المظللتان بالضوء، مُظلمتين.
بقي ثيوبالد في ميدان الرماية حتى أفرغ كأسه. انتظر كبير الخدم أوامره فى صمت. ساد الهدوء الحديقة عند الغسق. وقف ثيوبالد كتمثال تحت غروب الشمس الباذخ بالنسبة له، كان هذا المشهد عاديًا للغاية.
كان حساب الضرائب المرسلة إلى كينغسبورغ أهم وأصعب مهمة في ذلك العام بحلول ذلك الوقت، لابد أن الكونت لوث، المستشار المالي، قد وصل إلى قاعة الاستقبال، لكن كأس الدوق الأكبر لم يكن فارغ بعد. لطالما أبقى ثيوبالد الآخرين منتظرين. وبجعلهم ينتظرون، كان يُرسّخ مكانته. كانت هذه هي طباعه الملكية الموروثة عن أبيه.
بهذه الفكرة، رفع كبير الخدم نظره نحو السماء الغربية.
كانت السحب القرمزية المتناثرة حمراء كالدم. مجرد أمسية عادية. غدًا، سوف تشهد أراضي تريسن يومًا صافيًا آخر.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"