4
كان كل شيء مثاليًا. طوال شهر كامل، لم يكن هناك يوم غائم عندما رحلوا كانت نهاية الصيف قد اقتربت، ولكن دون أن يشعروا، اقترب الخريف، ثم شعروا وكأن الربيع قد بدأ من جديد بفضل ذلك، شعرت لوريليا حقًا أنهم يسافرون جنوبًا. بالنسبة لها لأنها تُحبُّ الربيع والصيف، كان الأمر ممتعًا. غادرت لوريليا العقار أولاً مع والدتها. وبقي لانسلوت هايز بضعة أيام أخرى، موكلًا زوجته وابنته إلى قائد الحرس. ولأن والدها سيد ذو أرض شاسعة، كان هناك الكثير مما يجب إنجازه في الأيام التي تسبق الشتاء، وقد أدركت لوريليا ذلك جيدًا. إضافة إلى ذلك، لم يكن عليه إضاعة الوقت على الطريق في تعديل سرعته لمجاراة سرعة النساء.
أعلن القائد وهو يسير بجانب العربة.
“تريسن تقع خلف الحدود الجنوبية مباشرة.”
وعندما قال إنهم قد عبروا للتو إلى منطقة تريسن، اضطرت لوريليا إلى ضمّ شفتيها إلى الداخل لمنع فمها من الانفتاح.
كانت أرض تريسن خضراء مورقة منذ البداية. عشب أخضر طري، شاحب ونضر، يمتد بلا نهاية. منازل منخفضة الأسقف وجدران مستقيمة تتجمع في قرى دافئة، وبين القرى، في الحقول، ترعى قطعان الأبقار المُرقطة والأغنام بسلام. طريق واسع للعربات يشق المراعي الهادئة. إلى الغرب، امتد الأفق إلى ما لا نهاية. إلى الشرق، وإن لم تكن لوريليا قد رأت البحر بعد، إلّا أنها عرفت أن البحر سيكون هناك. بعد أسبوع من هذا السفر، ظهرت أخيرًا أسوار بيضاء. كانت إيسن عاصمة تريسن.
“أمي، انظري! أرى الجدران!”
صاحت لوريليا، التي كانت مُلتصقة بنافذة العربة بانفعال.
أما مارلين التي كانت الخادمة تُصفف شعرها، نظرت من النافذة باتجاه ابنتها. كانت هذه أول زيارة لها للأراضي الجنوبية أيضًا.
“كله أبيض! لا بد أنه رخام.”
“ربما يكون من الحجر الرملي من المؤكد أنهم لن يبنوا أسوار المدينة من الرخام.”
أجابت مارلين وهي تنظر في مرآتها اليدوية. أما لوريليا، ففكرت في نفسها أنه نظرًا لوفرة الأحجار الكريمة في تريسن وتقنيات استخراجها المتطورة، فقد يكون رخامًا بالفعل.
ظلت لوريليا تُحدق شبه مسحورة. السهول الخضراء الزاهية والجدران البيضاء الناصعة، كلما اقتربت العربة ازدادت الجدران ارتفاعًا واتساعًا.
“جهزي نفسك يا لوريل سنصل قريبًا.”
“نعم يا أمي.”
عبرت عربة نساء هايز أبواب المدينة المفتوحة دون توقف. وتبعها عشرة فرسان مدرعين، وثلاثون حارسًا راكبًا، وعربتا إمداد. وما إن دخلوا المدينة حتى اصطدمت عجلاتها بالطريق المرصوف بالحجارة. قاومت لوريليا رغبة رفع الستار والنظر إلى الخارج.
كانت إيسن بالفعل كبيرةً كما سمعوا. حتى بعد قضائهم وقتًا طويلًا داخل الأسوار، لم تتوقف العربة. استغرق الأمر نصف يوم آخر للوصول إلى قصر تريسن. عندما غابت شمس الجنوب الطويلة في الأفق، كانت لوريليا ووالدتها منهكتين تمامًا من الرحلة.
“لقد وصلنا، سيدتي.”
أعلن القائد وهو يُحفز حصانه إلى الأمام.
استيقظت لوريليا، التي كانت تغفو فجأة، ورفعت حافة الستارة بسرعة ونظرت إلى الخارج. رأت جسرًا متحركاً متموضعًا فوق خندق جاف. كانت البوابات مفتوحة على مصراعيها، كما لو كانت تنتظر وصولهم. كان الحراس، يرتدون نصف دروع وخوذات، يرتدون جميعًا عباءات سوداء على أكتافهم. وفوق الجدران البيضاء، عُلقت لافتة ضخمة. خلفية سوداء، وشمس ذهبية… شعار بيت فيرفرانتي. كانت أول مرة ترى ذلك.
عبرت العربة الجسر ومرّت بين صفوف الجنود. كانت الشمس تغرب فوق ساحات التدريب وثكنات الجنود. كان تصميم القلعة، مع وجود مرافق عسكرية بين الجدران الخارجية والداخلية، أشبه بقلعة مندل حيث عاشت لوريليا. أما قصر اللورد، فكان يقع خلف الجدار الداخلي.
كانت البوابة المقوسة للقلعة الداخلية مفتوحة على مصراعيها للترحيب بضيوفها. عندما دخلت العربة، استقبلهم منظر أخّاذ للخضرة اليانعة. في وسط حديقة واسعة مُنسقة بعناية ينتصب قصر حجري أبيض فخم. حتى في ضوء الشفق الخافت كانت معالم أبراجه الشاهقة ونوافذه الضخمة وجدرانه الناعمة ملفتة للنظر. قصر تريسن…
أخذت لوريليا نفسًا عميقًا.
توقفت العربة أمام مدخل القصر. سُمع صوت حذاء قائد الحرس وهو يقترب.
عندما فُتح باب العربة، كانت لوريليا جالسة منتصبة مُتجهة للأمام كأمها، في وضعية مثالية تمامًا. أدارت رأسها ببطء وابتسمت، تمامًا كما تعلمت.
“مرحبا بكم، السيدة مارلين هايز السيدة الشابة لوريليا هايز.”
تبعت لوريليا والدتها في أخذ يد قائد الحرس للنزول من العربة. شعرت بثقل في ساقيها بعد كل هذا الطريق لكنها لم تُظهر ذلك التفتت حولها، باحثةً عن صاحب العقار الذي سيستقبلهم.
اصطفَّ حوالي ثلاثين شخصًا، من الخدم والحراس عند المدخل. لكن الرجل الذي يقودهم لم يكن الدوق الأكبر فیرفرانتي على ما يبدو.
“أنا كلوديل رينييه، كبير الخدم في هذا القصر.”
دُهشت لوریلیا من كلمة كبير الخادم. لم يكن ذلك فقط لأن شعره البني الأنيق ووجهه الشاب لا يتناسبان مع صورة الساحر الأسود سيئ السمعة الذي سمعت عنه شائعات.
فكرت لوريليا: “كبير خدم؟ أن تسافر امرأة نبيلة كبيرة وابنتها كل هذه المسافة الطويلة، ولا يستقبلهما إلّا كبير خدم؟”
“شكرًا على حفاوة الاستقبال. يسعدنا أن نكون هنا بدعوة من الدوق الأكبر فيرفرانتي.”
ردت مارلين مبتسمةً. لكن لوريليا فهمت الرسالة الخفية في نبرة والدتها.
“كان صاحب السمو ينتظر وصولكم بفارغ الصبر. ومع ذلك، فمن عادات بيتنا أن نسمح لضيفاتنا بالراحة في ليلتهن الأولى، وهو يطلب منكِ تفهّمه الكريم.”
أجاب كبير الخدم بانحناءة مهذبة.
فكرت لوريليا: “آه. كانوا يُجنّبوننا لقاء أي شخص ونحن لا نزال مرهقين من السفر.”
شعرت لوريليا بالذنب لأنها أخطأت في تقديره ولو للحظة.
“أرجو أن تنقل امتناني لكرم ضيافته.”
قالت مارلين.
“سأفعل يا سيدتي. لقد دعاكما صاحب السمو لتناول الفطور غدًا صباحًا. الآن، اسمحي لي أن أرشدكما إلى غرفتيكما.”
فكرت لوريليا: “كان كبير الخدم طويل القامة، نحيفًا، ووسيمًا. وجهه الأنيق وحركاته الرشيقة أعطت انطباعًا بأنه كاهن لا ساحر. لذا، كانت كلها مجرد شائعات.”
شعرت لوريليا ببعض الأسف لأنها تخيلت غير ذلك.
كان قصر تريسن أكثر روعةً مما توقعت. كان قصرًا ملكيًا، وأُستُخدم كذلك لقرون، وكان حجمه وروعته مذهلين. بذلت لوريليا جهدًا كبيرًا كي لا تغمض عينيها كقروية ريفية وهي تتبعه. فهم في النهاية عائلة نبيل كبير مُقرّب من العائلة المالكة، ولا يمكنهم التصرف بسطحية.
فكرت لوريليا: “مع ذلك… هذا القصر أجمل من القصر الملكي. كنتُ متأكدة من أن والدتي تعتقد الشيء نفسه.”
كانت الغرف المجهزة لهما في الطابق الثاني من القصر بإطلالة بانورامية على البحر الشرقي. قُسّم الجناح إلى عدة أقسام، تتوسطه صالة استقبال واسعة، وغرفتا نوم وحمامان لكل منهما.
“لقد بذلنا قصارى جهدنا لراحتكما. يُرجى إبلاغنا إن كان هناك أي شيء ناقص.”
قال كبير الخدم.
فكرت لوريليا، وهي تبتسم بلطف مع والدتها: “أشك في أن هناك أي شيء مفقود.”
“شكرًا لكَ يا كبير الخدم. ستخبركَ رئيسة الخادمات إذا احتجنا إلى أي شيء.”
ردت مارلين.
“بالتأكيد. إذًا، فلترتاحوا جيدًا.”
قال، وانحنى لمارلين ثم للوريليا. قبل أن يغادر لحقت به رئيسة خادمات هايز لمناقشة التفاصيل؛ متى وأين ستتناول السيدات النبيلات طعامهن، ومن سيتولى غسل وكي الملابس وما هي الخدمات التي سيحتاجنها خلال إقامتهن. وهذا لم يترك للسيدات النبيلات ما يفعلنه سوى الراحة.
“واو، انظري إلى هذا البحر.”
ركضت لوريليا نحو الشرفة المُطلة على المحيط. انفتحت الأبواب الزجاجية على مصراعيها نحو الخارج. كانت الشرفة نصف الدائرية ذات أرضية ودرابزين مصنوعين بالكامل من الرخام الأبيض.
“هاا…”
وضعت لوريليا يديها على الدرابزين الحجري واستنشقت هواء البحر بعمق، هبّ النسيم الدافئ المالح برقة على شعرها.
“هل هذا هو شعور الوقوف عند مقدمة سفينة؟ لم أركبها من قبل، لكنني تخيلتُ ذلك. لو أبحرت سفينة عبر ذلك البحر باتجاه الشمال الشرقي، لوصلت إلى الجزر.”
أغمضت لوريليا عينيها وتخيلت نفسها واقفة على سطح سفينة ضخمة تبحر. لم تهمها حقيقة غرق المئات على نفس الطريق. في خيالها، كان البحر هادئًا ومتلألئًا.
“كم سيكون جميلاً تحت شمس الصباح الساطعة؟”
بينما اقتربت أمها حدّقت لوريليا في السماء النيلية المظلمة وتحدثت.
“هذا القصر… جميل جدًا. جميل جدًا.”
كان تعجّبها أشبه بأنين من الرهبة.
“إنه كذلك حقًا.”
أجابت مارلين بهدوء.
أخذت لوريليا نفسًا عميقًا آخر من نسيم البحر وفتحت عينيها، وكان قلبها ممتلئًا.
“سوف نبقى حتى الأسبوع القادم، أليس كذلك؟”
“نعم. سنعود بعد المأدبة.”
“في الأسبوع القادم!”
كرّرت لوريليا الكلمات، مبتسمةً ابتسامة مشرقة.
كان من المُقرّر أن تبدأ مأدبة الدوق الأكبر فيرفرانتي بعد ثلاثة أيام وتستمر خمسة أيام. وقد دعا عائلة هايز مسبقًا للاحتفالات. تريسن، التي كانت مملكة في السابق، كان لها العديد من النبلاء التابعين لها. نبلاء الجنوب، فكرة لقاء أناس جدد جعلت قلب لوريليا يخفق بشدة.
“هل سيكون الأب هنا لتناول الإفطار غدًا؟”
“أتوقع ذلك. من المفترض أن يصل لاحقًا الليلة.”
“أتمنى أن يأتي بسرعة. سيندهش عندما يرى هذا المكان.”
“لستُ متأكدة تمامًا. أعتقد أنه قد يقول إنه مبالغ فيه.”
ضحكت ماريلين وهي تُصفف شعر ابنتها المتطاير. ضحكت لوريليا أيضًا عندما تخيلت رد فعل لانسلوت على روعة القصر.
كان رجال هايز مشهورين باحتقارهم للغرور وتركيزهم على الشرف. كان تقليد عائلتهم في عدم الاحتفاظ بالمحظيات أو الأطفال غير الشرعيين معروفًا في جميع أنحاء القارة. أحبّت لوريليا صرامة والدها.
“أنا متأكدة من أن الدوق الأكبر فيرفرانتي لطيف وشريف أيضًا، تمامًا مثل والدي.”
في الواقع، لم تكن لوريليا تعرف الكثير عن صاحب هذا القصر. لم تكن تعلم أحد سوى الحقائق الأساسية: كان في الخامسة والعشرين من عمره، أعزبًا، وليس لديه عائلة مباشرة. وقد سمعت مؤخرًا من عرّابها أنه ليس أعورًا ولا أحدبًا.
“أي نوع من الرجال كان؟ سيد جنوبي. صاحب هذا القصر الجميل. رجل بارع في الرماية، يُجيد ركوب الخيل، ويُحب الكلاب.”
[لقد كان صاحب السمو ينتظر وصولكم بفارغ الصبر.]
شعرت لوريليا بأنها لن تكون قادرة على النوم على الإطلاق الليلة.
									
التعليقات لهذا الفصل " 4"