“ما الذي أتى بفارس الدوق الأكبر إليّ؟”
رفعت لوريليا ذقنها برشاقة، وسألت بصوت هادئ محاولة التعافي من اضطرابها السابق.
“أرسلني صاحب السمو. ولما علم بمغادرتكِ العقار، أمرني بمرافقتكِ.”
“إذًا، كنتَ تتبعني منذ أن غادرتُ القصر؟”
“نعم سيدتي.”
كتمت لوريلا تنهيدة. تمتمت في نفسها: “كان بإمكانكَ على الأقل أن تقول شيئًا لو كنتَ ستتبعني.”
“وأمرني أيضًا بإرشادكِ إذا كان هناك أي مكان ترغبين في زيارته.”
“أرى. الدوق الأكبر مفكر جدًا.”
“إنه كذلك بالفعل، يا سيدة هايز.”
“شكرًا لكَ سيدي.”
“أنا فقط أقوم بواجبي.”
حافظ الفارس على نبرة رسمية وسلوك مهذب. لم تكن هناك أي ابتسامة على وجهه، وهذا، على نحو غريب، طمأن لوريليا.
“السير أسيل، هل كان كذلك؟”
“نعم سيدتي.”
“إنه من دواعي سروري أن أقابلكَ.”
“إنه لشرف لي أن أخدمكِ.”
خفضت لوريليا نظرها قليلا، وتأملت تعبير الفارس الجاد.
فكرت لوريليا: “لم يكن يبدو عليه أنه من النوع النمام، شخص يفصح عن تصرفاتي الطفولية ويسخر مني من وراء ظهري. أكثر من أي شيء، أرسل ثيوبالد مرافقًا لي… أسعدني قليلًا.”
“أريد الذهاب إلى مكان مرتفع. هل يمكنكَ أن تأخذني؟”
“في مكان مرتفع؟”
“مكان أستطيع فيه رؤية المدينة بأكملها بنظرة واحدة. أين أعلى مكان هنا؟”
“ستكون هذه، بالطبع، قلعة الدوق الأكبر. البرج الشمالي للعقار هو أطول مبنى في إيسن.”
وبعد أن قال ذلك، توقف أسيل متأملاً.
“ثاني أطولها هو برج جرس المعبد الكبير، ولكن بما أن الكهنة يقيمون فيه، فإن زيارته دون ترتیب مسبق ستكون صعبة. أعتقد أن مونت هيل سيكون بديلاً مناسبًا. لا توجد سلالم للصعود، وهو ليس بعيدًا عن هنا.”
“هذا يبدو مثاليًا. لنذهب إلى هناك”
“كما تريدين سيدتي.”
وبعد أن أجاب بشكل حاسم، دفع أسيل حصانه نحو السائق لإعطاء التعليمات. أدار السائق العربة، وركب أسيل بمحاذاة النافذة حيث كانت لوريليا جالسة. بعد برهة، تأخر أسيل قليلاً عمداً حتى لا يحجب رؤيتها. بفضل ذلك، استطاعت لوريليا الاستمتاع بالمناظر الخارجية براحة. وشعرت بأمان أكبر عندما علمت أن فارسًا بسيف طويل يحرس عربتها. وتلاشى تمامًا شعورها بالقلق المبهم الذي شعرت به في هذه المدينة الغريبة.
“انظر هناك. نهر!”
“هذا هو نهر صوفيا. يقسم المدينة شرقًا وغربًا. الجانب الشرقي هو الحي القديم المليء بالمباني التاريخية بينما الجانب الغربي هو الحي الأحدث، المليء بالعمارة الحديثة.”
شارکت لوريليا ما تعلمته من الكاهن هولتمان، وهي تنظر إلى الماء خلف النافذة.
“اسم صوفيا يعني الحكمة. وقد أطلق سكان تريسن، الذين لطالما قدسوا الحكمة، على شريان حياة العاصمة اسمها. إنه نهر لم يعرف سفك الدماء قط. على مدى أكثر من ألف عام من التاريخ، لم يتجه تريسن شمالًا قط. يُفضّل الجنوبيون الحوار على الحرب، والكتب على السيوف.”
النهر الذي شهد ألف عام من السلام، تألق بلون أزرق صافٍ عميق، تراقصت تموجات فضية على سطحه المضاء بنور الشمس. كان واسعًا، ومع ذلك، كانت هناك أربعة جسور تمتد عليه، لكل منها تصميم ومواد مختلفة. حتى أن أحدها كان مصنوعًا من الحديد الزهر، جسر من الحديد لم تر لوريليا مثيلًا له في حياتها.
“هذا المكان مليء بالعجائب.”
“إنه كذلك حقًا سيدتي.”
“انظري إلى هذا الجسر الأبيض. كيف بنوا شيئًا كهذا أصلًا؟”
عندما أشارت لوريليا، قاطعتها أليسيا بلهفة.
عبرت العربة التي كانت تسير على ضفة النهر النهر عبر الجسر الذي أُعجبت به على الجانب الآخر، برز أمامهم تل شديد الانحدار يشبه الجرف، وجهتهم. ورغم أن المنحدر كان أكثر انحدارًا مما كان متوقعًا، إلّا أن الخيول الأربعة القوية سحبت العربة إلى أعلى المنحدر بسهولة. مع صعودهم انكشف مشهد المدينة تدريجيًا تحتهم. من الأعلى شكّل نهر صوفيا منحنى لطيفًا متدفقًا. ضغطت لوريليا على النافذة، مندهشةً من انكماش العالم تحتها.
وعندما وصلوا إلى القمة، توقفت العربة.
“لقد وصلنا سيدتي.”
نزل أسيل أولاً وفتح باب العربة. مدّ يده ليساعد الشابة النبيلة على النزول، ثم مدّ يده لخادمتها. بدت أليسيا مفتونة تمامًا بشجاعة الفارس الشاب، وضحكت لوريليا بهدوء وهي تنظر حولها.
على قمة جبل مونت هيل، كانت هناك ساحة متواضعة، تمثال ضخم وأمام مذبح منحوت من الحجر يقف عملاق يرتدي ثيابًا ملكية وتاجًا، ينظر إلى النهر الأزرق والمدينة من جانبيه. الوقوف تحته جعل لوريليا تشعر بصغر حجمها.
“من هذا؟”
“هذا هو الملك سونين الأول، ملك الشمس. مؤسس وبطل تأسيس تريسن. سلالة فيرفرانتي.”
كان الملك القديم يحمل سيفًا طويلًا على خصره، لكنه ملك ريشة وورقة لم يكن يحمل في يده سلاحًا. لم تر لوريليا قط ملك مؤسس بأدوات الكتابة، تمثالًا لملك بلا سيف.
“هل ترين ذلك المبنى الأحمر إلى الجنوب الشرقي؟”
“الذي لديه برج طويل؟”
“نعم. هذا هو المعبد الكبير الذي صمّمه ملك الشمس بنفسه.”
انفتح فم لوريليا قليلاً عند سماع هذا التفسير.
“ملك يُصمم المباني؟ في كتب التاريخ، عادة ما يكون الملوك هم مَن يُدمّرونها.”
“كان ملوك تريسن علماء عظماء لأجيال. كرسوا أنفسهم للدراسة والإبداع. الحكم بالحكمة، لا بالقوة، هو التقليد الجنوبي.”
استطاعت لوريليا أن تسمع الفخر في صوت أسيل فريتز على الرغم من أنه كان فارسًا كرس حياته للسيف.
“إنه تقليد رائع. لابد أنكَ فخور جدًا، يا سيدي أسيل.”
“كل مواطن من تريسن فخور بأنه جنوبي، سيدتي.”
حتى أن أسيل سمح لنفسه بابتسامة خفيفة قبل أن يضيف بشكل رسمي أكثر.
“وبالطبع، نحن أيضًا ممتنون للغاية للنعمة العظيمة التي يوليها جلالة الملك.”
ارتجف قلب لوريليا قليلاً عند سماع ذلك. عرفت أن أسيل قال ذلك لأن والدها لانسلوت هايز كان مساعدًا مقربًا للملك. جعلها هذا تشعر بذنب غريب كشريرة من قصة خيالية تنتقد ولدًا طيب القلب.
كانت تريسن جزءً من المملكة، ولكن في نفس الوقت كانت معزولة. إلى جانب العائلة المالكة، كانت هناك أربعة بيوت دوقية نبيلة. في الشمال غلين، وفي الشرق هايز، وفي الغرب ألونسو، وفي الجنوب فيرفرانتي. لطالما قطعت عائلة فيرفرانتي علاقاتها، ليس فقط مع العائلة المالكة، بل مع العائلات الدوقية الأخرى أيضًا. لم تكن تربط أبنائهم علاقات عرّابين، وكانوا يتزوجون فقط من طبقة النبلاء التابعة لهم. لقد مرّ أكثر من خمسين عامًا منذ أن فقدت فيرفرانتي العرش. وكانت دعوة نبيل شمالي إلى ضيعتهم هي الأولى منذ الحرب.
فكرت لوريليا: “لذا، أخيرًا، يريدون أن يكونوا أصدقاء لنا…. فتحوا الأبواب على مصراعيها أخيرًا.”
حدقت لوريليا في المدينة من الأسفل بأسطحها الزرقاء. فكرت: “إذا كان يفتح قلبه، فعليّ أنا أيضًا أن أقوم بدوري، بشعور بالواجب يليق بمكانتي. إذا كان هذا ما يريده، سأساعده.”
اتجه نظر لوريليا شمالًا، فرأت قلعة الدوق الأكبر تتلألأ ناصعة في الأفق. وخلفها البحر الأزرق، وقفت ملكية تريسن بشموخ كتاج ضخم منحوت من الرخام.
فكرت لوريليا: “ماذا يفعل الآن…؟”
“هل الدوق الأكبر فيرفرانتي موجود في العقار؟”
سألت لوريليا باندفاع.
أجاب أسيل بكل إخلاص.
“صاحب السمو موجود دائمًا في العقار، سيدتي.”
“أرى…”
ردت لوريليا بأدب، وأبقت نظرها مثبتًا على القصر.
غيوم بيضاء كالكريما ترفرف ببطء في السماء الزرقاء الزاهية. عبقت رائحة زكية مع النسيم العليل، ربما من بعض الزهور المختبئة في الأدغال المحيطة.
“زهور غير مرئية…”
استنشقت لوريليا رائحتها الغريبة والساحرة، أغمضت عينيها بهدوء.
بحلول وقت عودتهم إلى القصر، كانت الشمس قد بدأت تغرب. رافق أسيل فريتز لوريليا بصبر في أرجاء المدينة وأعادها إلى بوابة العقار قبل أن يعود إلى مركز الحراسة.
“الرجال الجنوبيون جميعهم جذابون، أليس كذلك؟”
همست أليسيا في أذنها، وردّت لوريليا ضاحكة.
خلف حراس البوابة امتدت القاعة المركزية الكبرى. في القصور النبيلة، لطالما كانت قاعة الطابق الأول الأكثر فخامة، ولم يكن قصر تريسن استثناء. بمجرد دخولهم ظهر الدرج الفخم. غطت السجادات الأرضية، وغطت ورق الجدران الحريري، وكان السقف مطليًا بإتقان. كانت القاعة فخمة بشكل يخطف الأنفاس، لكن أبرز ما يُميزها كانت الصورة المعلقة في منتصف ممر الطابق الثاني فوق الدرج.
اللوحة، التي تضاهي حجم الإنسان بثلاثة أضعاف، تصوّر رجلاً وامرأة جالسين جنبًا إلى جنب كعمالقة. عندما وصلت لوريليا ووالدتها، قدّمهما الخادم فورًا.
“هؤلاء هم والدا صاحب السمو.”
جوزيف فيرفرانتي وزوجته، كلاهما بشعر أشقر بلاتيني متطابق، يرتديان ملابس رائعة، وتعبيرات وجههما هادئة.
نظرت لوريليا إلى ابتسامتهما الخافتة. كانا يشغلان أبرز مكان في القاعة، كأسياد المنزل الحقيقيين، مع أنهما لم يعودا يعيشان هنا.
لقد وقفت لوريليا هناك لبعض الوقت، ضائعة في شعور لا يمكن تفسيره. وبعد ذلك ظهر…
دخل ثيوبالد مع كبير خدمه، وحرّك رأسه نحوهما بحركات غير رسمية.
كان تعبير ثيوبالد الجامح واضحًا، لم يُعد ابتسامة مهذبة لسيدة. كان وجهه خاليًا من أي تعبير أو انفعال. ولعل هذا هو سبب خفقان قلب لوريليا لحظة تلاقي أعينهما. عيونه الزرقاوين الياقوتيتين غير مبالية تمامًا.
أمام صورة والديه الضخمة، توقف ثيوبالد عن المشي. لم يُشيح بنظره عن لوريليا الواقفة أسفل الدرج. ثم استدار ثيوبالد وبدأ ينزل الدرج. كان ينزل. خطوة خطوة بساقين طويلتين، بسلاسة كالماء المتدفق. فقط عندما وقف ثيوبالد أمامها تمكنت لوريليا من الانحناء والابتسام.
“آنسة هايز.”
“الدوق الأكبر فيرفرانتي.”
“سمعتُ أنكِ ذهبتِ إلى المدينة. يبدو أنكِ عدتِ للتو.”
تحدّث ثيوبالد بسهولة وأدب.
“نعم بفضل ترتيباتكَ، قضيتُ وقتًا رائعًا.”
“أرجو أن تكون الجولة السياحية ممتعة؟”
“نعم بالتأكيد”
“أنا سعيد لسماع ذلك.”
“لم أتوقع أن ترسل مرافقًا. شكرًا على لطفكَ.”
“فعلتُ ما هو مناسب فقط. ويسعدني أنه كان مفيدًا.”
انساب حديثهما سريعًا، أربع جمل، كافية تمامًا لترضي آداب التعامل بين نبيل عظيم وابنة ضيف نبيل محترم. لو اعتذر ثيوبالد في تلك اللحظة، لكان ذلك أدبًا مطلقًا.
فكرت لوريليا: “هل أُحاول إطالة الحديث ؟ لا… سيكون من الوقاحة إبقاؤه.”
بينما كانت لوريليا متردّدة، ظلت تنظر إلى ثيوبالد. ثيوبالد أيضًا نظر إلى لوريليا، كما لو كان ينتظر شيئًا ما. مع أن ثيوبالد لم يُبدو أن لديه شيئًا محددًا ليقوله، إلّا أنه لم يُحرّك ساكنًا للمغادرة.
وهذا ما أعطى لوريليا الشجاعة.
“أنا، ممم… أرغب بزيارة البرج الشمالي. هل ترغب في اصطحابي في جولة فيه؟”
♣ ملاحظة المترجمة: هنا أرى أن هناك تشابه بين ثيوبالد فيرفرانتي وجاريد غلين. لا عجب لأنهما جد وحفيد. طباعهما ومزاجهما، نسخة طبق الأصل.
وهنا بدأتُ أعرف من أين ورث جاريد غلين دوق ويندبورغ شخصيته.
وهذا يعني أن لوريليا تشبه روزلين.
هل شعرتم بذلك؟
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"