الفصل 002
***
ظنّت ليتيسيا أن العائلة الإمبراطورية من آل هيرتا لم تبذل جهدًا كبيرًا لجعل يتيمة من عامة الشعب تبدو كأمير.
وقد وصلت إلى هذا الظن من خلال تجربتها المباشرة مع ما سُمّي بالتعليم الإمبراطوري.
حتى المعلّمة التي تقف أمامها كانت تؤدي عملها بفتور، كأنما مرغمة عليه.
“لقد حفظتِ كل ما درسناه البارحة، صحيح؟ لننتقل إلى الدرس التالي.”
ربما كان من الطبيعي أن تتولّى المرأة المسنّة، التي جاءت إلى السجن برفقة الإمبراطور، مسؤولية تعليم ليتيسيا، إذ لم يكن من المطلوب أن يعرف الكثيرون بوجودها أصلًا.
وفوق ذلك، كانت تلك المرأة الهزيلة، في منتصف العمر، تتحكّم بكل ما يخص ليتيسيا، لا تعليمها فحسب، بذريعة كونها مربية الأمير الحقيقي، سيون.
كل شيء، من طعامها ولباسها وحتى نومها.
هكذا، وُضعت ليتيسيا قيد الإقامة الجبرية داخل قصر الأمير سيون. لم يُسمح لها بالخروج، ولم يكن لها زائر سوى إيما، تلك المرأة التي تتولى تعليمها.
وبسبب إيما، التي لم تسمح حتى للخدم بتنظيف الغرف، أخذ الغبار يتراكم في القاعة التي كانت فيما مضى نظيفة ومنظمة.
“احفظي هذا حتى الغد.”
قالتها إيما وهي تضع كتابًا سميكًا وبعض ثمار الفاكهة على الطاولة المغطاة بالغبار، ثم استدارت منصرفة دون أن تنظر.
اكتفت ليتيسيا بهز رأسها. كانت جائعةً لدرجة أنها لم تستطع حتى أن تفتح فمها للكلام.
“…….”
رغم أن إيما كانت مسؤولة عن تعليمها، إلا أنها نادرًا ما مكثت طويلًا برفقتها. كانت تأتي مرة كل يوم أو يومين، تُحضر بعض الطعام والكتب، ثم ترحل.
وحتى الطعام، لم يكن سوى فواكه أو قطع بسكويت، كما لو أنها التقطت ما وُضع في غرفة الضيوف الخارجية وأتت به.
من حديثها، بدا واضحًا أن إيما كانت تقضي معظم وقتها برفقة الأمير الحقيقي، سيون.
‘ربما كانت ترغب في قضاء مزيد من الوقت معه، قبل أن تذهب إلى دوقية فاسيلينتي الكبرى.’
كان من المقرر أن ترافق إيما ليتيسيا إلى أراضي فاسيلينتي الكبرى بصفتها مربيتها.
وبما أن ليتيسيا ستموت هناك على أي حال، فلن تطول الفُرقة، ومع ذلك، كانت إيما تتصرّف وكأنها ستودّعه إلى الأبد.
‘أهو لأنه أمير عزيز؟’
نظرت ليتيسيا إلى قطع الفاكهة التي ستكون، على الأرجح، طعامها الوحيد اليوم، أو غاية ما قد تحظى به حتى الغد، وأدركت بفتور.
ربما لم تكن العائلة الإمبراطورية هي من يتعمّد تجويعها، بل إيما.
منذ اللحظة الأولى، كانت تنظر إليها كشيء دنيء، ككذبة مزرية لا تستحق حتى أن تتظاهر بأنها أميرهم. وكلما مضى الوقت، كانت تلك النظرة تزداد رسوخًا وبرودًا.
‘ليس كأن المرء سيصغر من شدّة الجوع. سيبدو فقط أشبه بمتسول.’
وبما أنها عاشت فترةً كمتشرّدة، كانت ليتيسيا تعتقد أن الخدود الممتلئة هي أكثر ما يجعل الطفل يبدو كأمير، لكن إيما لم تكن لتأخذ بكلامها أبدًا.
‘ثم إنني جائعةٌ لدرجة أنني لا أستطيع حتى التكلّم…….’
مدّت ليتيسيا يدها نحو القارورة، علّها تسدّ عطشها بشيء من الماء.
لكن بالطبع، إذا كانوا لا يمنحونها طعامًا كافيًا، فلن يمنحوها ماءً كافيًا أيضًا. كانت تلك القارورة تحوي ماء المطر الذي جمعته قبل ثلاثة أيام، وقد صار عكرًا وغير صالح للشرب.
نظرت ليتيسيا إلى الغرفة الخالية حولها، ثم أدخلت يدها بخفّة في فوهة القارورة.
وفي اللحظة التي لامس فيها طرف سبّابتها سطح الماء، بدأ ذلك السائل المتّسخ بالصفاء من حول إصبعها. كالسحر.
تأمّلت ليتيسيا وجهها المنعكس في الماء المُنقى.
شعرٌ أشقر قصير، وعينان أرجوانيتان، وخدّان غائران.
ما خلا النحول، لم يتغير شيء. هو ذات الوجه، قبل أن تندلع النيران وتُفني المسرح، الذي كان يُمثّل منزلها وعالمها.
خلال الحريق الهائل الذي دمّر مسرح فرقة بوربا، كانت ليتيسيا تظن أنها ستموت هي الأخرى.
فمهما سكب إخوتها وأخواتها من ماءٍ عليها، فقد كانت واقفة خلف الستار مباشرةً، حيث اندلع اللهب لأول مرة.
‘اخرجي، يا ليتي!’
‘اركضي!’
‘بسرعة، اهربي……!’
قضى الحريق على المسرح في لحظة، ورغم صرخات إخوتها وأخواتها وجهودهم المحمومة، أغمي على ليتيسيا قبل أن تتمكن حتى من مغادرة المسرح.
وحين فتحت عينيها مجددًا، وجدت نفسها سجينة في زنزانة، تنتظر تنفيذ حكم الإعدام.
“أنا لستُ الجانية.”
نجاتها من مركز النيران لم تكن لأنها أشعلتها. لقد نجت فقط لأن إخوتها وأخواتها سكبوا عليها الماء بجنون، في محاولة يائسة لحمايتها.
حتى في السجن، كانت تلك الرطوبة التي غمرت جسدها تزول فور أن يشتد عليها البرد.
وعندها أدركت ليتيسيا شيئًا عجيبًا. أنها اكتسبت قدرة غريبة تتعلق بالماء.
قدرة لم يكن لها أي نفع سوى تنظيف الماء المتسخ.
“إن لم أكن أنا، فمن كان الجاني؟”
هل كان ما حدث مجرد حادث نجم عن سلسلة من المصادفات؟ أم أن هناك من تعمّد إشعال النار؟
ورغم أنها ستغادر الإمبراطورية قريبًا لتموت، فإنها كانت تغمرها الرغبة في معرفة الحقيقة.
لماذا مات إخوتها وأخواتها؟ لماذا كان على أولئك الطيبين أن يلقوا حتفهم وسط النيران؟ لماذا ماتوا، ولم تمت هي؟
حين وصلت إلى هذا الحد من التفكير، أطلقت ليتيسيا ضحكة باردة، ساخرة، نحو انعكاس وجهها على سطح الماء في القارورة.
“فضول؟ وأنتِ لا تملكين شيئًا، حمقاء. فقط موتي بصمت.”
فما تبقّى لها الآن، ليس سوى أدائها الأخير، الذي سيُختتم بموتها.
المشهد سيكون في أرض قاحلة نائية، وشريكها على المسرح هو دوق فاسيلينتي الأكبر، الذي يُلقَّب بين شعب الإمبراطورية بالشيطان.
أما دورها، فهو الأمير الأسير الذي سيموت فور ظهوره.
‘ومع ذلك، ينبغي أن أبذل قصارى جهدي.’
حتى وإن كان الدور ثانويًا، وظهوره لحظة واحدة فحسب، فالممثل الحقيقي يؤدي بكل ما لديه.
ذلك كان الدرس الذي تلقّته ليتيسيا من فرقة بوربا المسرحية.
***
وصل دوق فاسيلينتي الأكبر إلى القصر الإمبراطوري ليأخذ الأمير الرهينة الذي وُعِد به.
وقد تأخر عن الموعد المتفق عليه، لكن لم يجرؤ أحد على التعبير عن امتعاضه من تأخّره.
فالعائلة الإمبراطورية لم تمنح الرهينة طوعًا، بل بسبب هزيمتها الفادحة في نزاع الحدود مع الدوقية الكبرى.
وماذا بوسع المهزوم أن يقول لمن غلبه، حين يأتي ليأخذ غنيمته؟
التظاهر بالكبرياء أمام المنتصر لم يكن إلا نوعًا من الحماقة، يزيد من إذلالهم.
في المقابل، اكتفى فيريك، دوق فاسيلينتي الأكبر، بهز رأسه إشارة إلى قبوله بعذر الإمبراطور الذي ادّعى أن تأخّره حال دون استقباله شخصيًّا.
وإذ لم يكن ثمة حاجة أصلًا للقاء الإمبراطور، أعلن الدوق الأكبر أنه سيغادر فورًا ومعه الأمير الرهينة.
إلا أن يان لاودي، مساعد فيريك، أوقفه مترددًا، وعلى وجهه ملامح من القلق.
“هل يمكننا أخذه غدًا؟ سمو الأمير ما زال في الثامنة من عمره. ألم يكن من الأفضل أن نمنحه يومًا إضافيًا……؟”
أجاب الدوق الأكبر بنبرة باردة.
“ذلك سيؤثر على سير الجدول الزمني.”
هزّ يان رأسه متحسرًا على هذا الجواب الخالي من الشفقة.
“لكن أليست مسؤوليتنا أيضًا أننا تأخّرنا؟”
“الإمبراطورية هي من أغلقت الطريق الرئيسي أولًا.”
“يقولون إن فرقة مسرحية قد احترقت هناك، لذا كان الأمر مجرد حادث ولم يكن متعمدًا. لا يمكننا لومهم على شيء لا يمكن التحكم فيه. لذلك، يوم واحد فقط…….”
“يان.”
قاطع الدوق الأكبر كلماته بصوت منخفض يحمل تحذيرًا، فما كان من يان إلا أن أجاب فورًا.
“نعم، يا سموك، الدوق الأكبر.”
قال فيريك وهو يرمق قصر الأمير الصغير أمامه.
“لا بأس إن كنتَ تشعر بالشفقة نحوه، لكن لا تُظهرها.”
وأضاف بصوت منخفض، لا يخلو من الحزم.
“إن أظهرت الشفقة، فذلك لا يختلف عن الاعتراف بأننا لا ننوي إبقاءه حيًّا.”
“……نعم، يا سموك، الدوق الأكبر. سآخذ ذلك في اعتباري.”
لم يكن فيريك يستمتع بالحديث عن موت طفل.
لكن، الواقع أنه لم يشعر بشيء يُسمى العاطفة منذ وقت طويل.
رغم أن الناس في القارّة كلّها يتهامسون حول أرض فاسيلينتي الكبرى ويلعنونها، واصفين إياها بالأرض الملعونة، إلا أن الحقيقة كانت أدهى من ذلك.
ما كان ملعونًا، لم يكن الأرض وحدها.
كما كانت تربة فاسيلينتي تتلف وتصبح خرابًا، كانت مشاعر أفراد عائلة فاسيلينتي تضعف مع مرور الوقت.
ليس فقط المشاعر العنيفة كالحب أو الغضب، بل حتى أبسط أنواع التعاطف البشري، لم تعد تؤثر في قلوبهم.
لذا كان فيريك بحاجة إلى الأمير.
دم وريثٍ مباشر من نسل الإمبراطور الأول، الرجل الذي لعن فاسيلينتي.
“لقد وصلت، يا سموك، الدوق الأكبر. أنا إيما رواين، مربية سمو الأمير.”
انحنت امرأة مُسنّة برأس مرفوع بالكاد، ووجه متصلّب، حين دخلوا قصر الأمير.
“سأرافق سمو الأمير إلى أراضي فاسيلينتي…….”
لكن فيريك قاطعها، بصوته الجاف المعتاد، دون أن يلتفت لها.
“أين الأمير؟”
يتبع في الفصل القادم.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات